يتابع الدكتور عبد الهادي بوطالب خواطر في تفسير القرآن الكريم ، من خلال قراءاته المتوالية طيلة سنوات للقرآن الكريم بقلب مؤمن وفكر منفتح على فهم جديد لبعض آياته. وهو في اجتهاداته العلمية في تفسير القرآن العظيم، يتحلى بأدب المجتهد ويقول: وأتمنى أن أكون فيها مصيبا يثيبني الله عليها أجرين، أو مخطئا يعطيني الله على خطأي إن شاء أجر المخطئ. وأود أن أنبه إلى أن اجتهاداتي ليست منقولة من كتاب مرجعي أو أني قرأتها أو سمعتها من مرجعية متضلعة في علم التفسير، وإنما هي من فهمي الخاص. لكني مطمئن إلى أنها لا تتنافى مع تفسيرات العلماء السابقين، وأنها مجرد قيمة مضافة إلى عطائهم السخي رحمهم الله وأُثابهم، وأرجو أن يستفيد منها كل من يرغب في الغرْف من ينابيع القرآن الكريم. سورة البقرة {ومن الناس من يتّخذ من دون الله أندادا يُحبونهم كحب الله. والذين آمنوا أشد حبا لله. ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب. إذ تبرّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب. وقال الذين اتَّبَعوا لو أن لنا كرّة فنتبرّأ منهم كما تبرّؤا منا. كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار. يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتّبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين. إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون. وإذ قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أوَلو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعِق بما لا يسمع إلا دعاء ونداءا صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فهم لا يعقلون. يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون. إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهِلّ به لغير الله. فمن اضطُرّ غير باغ ولا عادٍ فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم}. ....................... في هذه الآيات الموحى بها إلى رسول الله ندّد الله بالمشركين الذين اتخذوا أربابا أشركوها مع الله وأوعدهم بالعذاب في الدار الآخرة. وفي الآيات التالية أوضح الحق سبحانه لعباده أحكاما شرعية منها ما هو حلال، وما هو حرام. وحضّ عباده وأمرهم أن يتمتعوا بالحلال ويبتعدوا عن الحرام. وحدد سبحانه منطقة الحلال في حدود تناول الطيبات التي لا تضر ولا تؤذي، ومنطقة الحرام في حدود تجنب الخبائث والفواحش وكل ما يسيء إلى الإنسان في حياته الأولى أو حياته الآخرة. وقال الله عمن يقتصر على الحلال بأنه يسير على طريق الهدى والصلاح، وعن من لا يجتنب ما حرم الله بأنه يسير على الطريق الذي يسلكه الشيطان الرجيم (الملعون المطرود من رحمة الله). وتشير الآية إلى أن اتّباع خطوات الشيطان هو بمثابة اتخاذ العدو صاحبا ورفيقا. وهو (أي الشيطان) لكم عدو مُبين. والشيطان يجتهد لإيقاع الإنسان في قبضته عندما يُزيّن له ارتكاب السوء والفحشاء والمنكرات من الأقوال والأفعال وما نهى الله عنه وحرمه. فيستحلّه الإنسان ويستطيبه إرضاء لهواه، واتباعا لهمزات الشيطان. والشيطان مخلوق زوده الله بقوة شرّيرة سخرها له وجعله يقدر بها على الإغواء والتضليل وإيقاع الإنسان في متاهات العصيان. وذلك منه تعالى ابتلاءً لقدرة مخلوقاته على مقاومة وسواس الشيطان. وفي القرآن الكريم والأحاديث النبوية تكرر النهي عن اتباع الإنسان خطوات الشيطان والاستجابة لإغراءاته. وكثيرا ما أشاد القرآن بمن يتولون الله (الولاء لله) وندَّد بمن يدينون بالولاء للشيطان. وفي آية {وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا} ندد الله بجماعة من الكافرين لا يريدون أن يجددوا أمور دينهم ودنياهم، ويفضلون البقاء في أسر المحافظة والجمود على ما كان عليه آباؤهم ولو كانوا على ضلال. وقال سبحانه في آخر الآية : {أوَ لو كان آباؤهم (أيقولون ذلك) ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون؟}. وجاء في آية {ومثل الذين كفروا} إلى قوله تعالى {فهم لا يعقلون}، تشبيه للكفار بالأنعام والغنم. وضرب الله المثل لهم بحالة غنم يخاطبها راعيها فلا تُصيخ له سمعا، ولا ترد عليه، ولا تفهم ما يقول، ولا تسمع مما تخاطَب به إلا صوت الراعي الذي يدعوها ويناديها. ومثل الكفار برسالة محمد مثل الغنم : فهم لا يسمعون ولا ينطقون ولا يُبصرون، ولا يملكون عقلا سليما قادرا على التمييز بين ما هو حسن وما هو قبيح، بين ما ينفعهم وبين ما يضرهم. وبعبارة جامعة هم فئة ضالة لا تستنير بنور الإيمان المرشد إلى الطريق المستقيم، ولا ينفع معها حوار لأنها لا تملك قدراته، ولا تتجاوب مع خطابه لإصرارها على تجاهله. وتأتي آية {يا أيها الذين آمنوا كُلوا من طيبات ما رزقناكم} بعد آية {يا أيها الناس كُلوا مما في الأرض حلالا طيبا} وكأن الآيات التي توسطت بين الآيتين جملا مُعترَضة، لتعيد إلى الأسماع والقلوب آية الأمر الإلهي الذي يُحِل أكل الطيبات. وعلى المؤمن أن يشكر الله على نعمه التي رزقها إياه. ومن هذه النعم الإلهية تبيين الله لعباده ما هو حلال مباح وما هو ممنوع ومحرم. وشُكْر العباد ربهم هو إخلاصهم في عبادته بالالتزام والامتثال لما طلبه منهم مما أمر ببعضه ونهى عن بعضه الآخر. وفي قوله تعالى: {إنما حرّم عليكم الميْتة والدم ولحم الخنزير وما أهِلّ به لغير الله} إلى قوله تعالى: {إن الله غفور رحيم} فصّل سبحانه ما حرّم أكله على عباده. وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح تقربا من المشركين إلى الآلهة التي صنعوها من الأوثان والأصنام والأحجار. وكانوا لا يذكرون اسم الله عندما يذبحون القرابين (جمع قُربان) المهداة إلى آلهتهم. واستثنى الله من ذلك أكل هذه اللحوم اضطرارا للإنقاذ من خطر الموت، أو أكلها بالإكراه. أي ممن أرغِم وأجبرعلى أكلها. ففي هاتين الحالتين لا إثم على المضطر والمُكره في تناول هذه المحرمات، لأنه سبحانه لا يعاقب إلا من خالف أمره عن عمد وقدرة على الاختيار. أما من وقع منه إثم سهوا ونسيانا فالله لا يؤاخذه. ومن ارتكب المحرمات مختارا بإرادته فهو الذي يعاقبه الله إذا لم يتب عن ذنبه توبة نَصوحا مستوفية شروطُها. ويمضي مسلسل الحديث عما أحل الله وما حرم، وعمن يلتزمون بما أحل الله، ومن يعصونه بارتكاب ما حرّمه فيذكر الله في الآيات الأخيرة من يخالفون أمره من مجموعة أهل الكتاب يهودا ونصارى، هم الذين يعرفون الكتب المنزلة على من سبق رسول الله من الرسل : يعرفونها ويفهمون ما جاء فيها ويخفونه عن الناس. والإشارة هنا إلى ما جاء في هذه الكتب من أن الرسول محمدا سيأتي مصدِّقا للكتب السماوية السابقة، لكن هذا يخفيه ويكتمه أحبار اليهود ورهبان النصارى عن أتباعهم حتى لا ينخرطوا في الدين الجديد. وقد جاءت في سورة البقرة آيات شبيهة في صيغتها ومضمونها بهذه الآية. وتكررت هنا لأن هذا الموضوع بالغ الأهمية ويقتضي التركيز عليه في معركة الدعوة الإسلامية بين الإسلام وأهل الكتاب. ....................... {إذ تبرأ الذين اتُّبعوا (بضم التاء) من الذين اتَّبعوا (بفتح التاء)}: الذين اتُّبعوا هم ما عبده المشركون ممن سموهم بآلهتهم أو الذين نصحوا وأفتوا بالشرك فتبعهم المغرورون الجهلاء. وهؤلاء هم الذين اتَّبعوا. فالأولون هم المُضِلون، والآخرون هم الضالون. وقد أصبح بعضهم يتبرأ من الآخر، ويتطارحون فيما بينهم مسؤولية التضليل والضلال. {تقطعت بهم الأسباب}: انفصل بعضهم عن بعض وتفرقوا. كل جانب منهم يتبرأ من الآخر، وبذلك افترقت بهم السبل وانحلت الأسباب التي كانت تجمعهم. {لو أن لنا كرَّة فنتبرَّأ منهم كما تبرءوا منا}: قالوا نتمنى أن يعيد الله لنا الكرَّة (أي الرجوع) إلى الدنيا لننتقم منهم ونتبرأ منهم مثلما فعلوا معنا إذ تبرأوا منا. لكن الآية تُظهرهم على حقيقتهم وتشير إلى أنهم إنما يتمنون ما لا يقع. فمن غادر الدنيا إلى الآخرة لا يعود إلى الحياة الأولى، وأمانيهم لا تتحقق، ولكن كلامهم يدل على أنهم مازالوا في ضلالهم يعْمهون. {يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم}: الحسرة: الخيبة في الواقع والندامة على الماضي. الله يريهم يوم القيامة أعمالهم التي ارتكبوها في الدنيا لينظروا إليها بعين الخيبة والندامة، مما يُسبّب أكثر من خيبة، وأشد من ندم حتى ليرون فيها مجموعة خيبات وندم : حسرات بصيغة الجمع أكثر وأكبر وأشد من حسرة في المفرد. وهل هناك ما يسبب أشد الحسرات من حكم الله عليهم بقوله : {وما هم بخارجين من النار}. إنهم فيها خالدون. {كلما نضِجت جلودُهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب} (سورة النساء/الآية 56). {كُلوا من طيبات ما رزقناكم}: اختيار فعل أكل - يأكل- كُلوا يؤشر إلى أن الآية تتحدث عما أحل الله وما حرم أكْله. وفعلا فآية إنما حرم عليكم الميتة اقتصرت على ذكر المأكولات المحرمة: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله من ذبائح تؤكل بعد تقديمها قرابين للآلهة. لكن جاء في القرآن والسنة النبوية تفصيل الطيبات المباحة، والمشروبات الممنوعة. فقد حرم الله شرب الخمر، وحرّم التداوي بما حرّم الله. ويمكن أن يدخل في لفظ كُلوا المشروبات بتأويل جملة كُلوا على أنها تعني (تناولوا) المأكولات والمشروبات. وما حدده القرآن عما يجوز أكله جمعه الله في كلمتي الحلال الطيب. والحلال هو المباح. والطيب كل ما طاب وحسن تناوله مما ينفع ولا يضر ولا يؤذي. وقد ثبت صحيا في العصر الحديث أن الله ما حرم على عباده في القرآن والسنة إلا ما يضرهم ويؤذيهم، لأن الميتة ولحم الخنزير ولحم الموقوذة والنطيحة والمنخنقة وما أكل السبع وشرب الخمر كلها مؤذية للإنسان. ومن المحرمات الزنى الذي تترتب عليه الإصابة بداء فقد المناعة المُميت. وقد أشير إلى ذلك في قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} (سورة النساء/الآية 22). وصيغة ساء سبيلا تقتضي التعميم، أي ما أسوأ السبل التي تؤدي إليها فاحشة الزنى! وكذلك لعِب القِمار والميْسِر الذي ينتهي بصاحبه أحيانا إلى الفقر، حيث تضيع ثروته في اللّعب المحرم. وجاء في الحديث: >ما جعل الله شفاء أمتي فيما حرّم عليها<. {الفحشاء}: فَحش الأمر إذا تجاوز قبحُه مِقدارَه، وتفاحش الأمر ازداد سوءا. ومن ذلك ارتكاب المنكر علنا بالتظاهر به وإفشائه بين الناس. والفواحش جمع فاحشة. وأحجامها مختلفة، ففيها الكبرى والصغرى. والأولى تسمى الكبائر. وقد جاء في القرآن: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللَّمَم} (سورة النجم/الآية 32). واللّمم صغائر الذنوب التي يصفح الله عنها. {ما ألفَيْنا عليه آباءنا}: ما وجدنا عليه آباءنا. لا يريدون أي جديد (الدين الجديد هو الإسلام)، وإنما يريدون أن يتّبعوا ما وجدوا عليه آباءهم. وهم بذلك يفضلون اتباع آبائهم الذين كانوا إما مشركين أو معتنقي الديانات المحرّفة التي ابتعد بها الأحبار والرهبان عن حقيقتها الأصلية. ويمكن أن يُفهم من قولهم : (نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا} أي على الدين الذي كان آباؤهم عليه، أو على معنى ما ورثوه من آبائهم من أعراف وعادات وتقاليد. وهم لا يُحِلّون من الطعام ولا يحرّمون من المأكولات إلا ما أحله أو حرّمه آباؤهم. وقد تحدث الله في آيات عدة عن هؤلاء المحافظين التقليديين المنغلقين الذين يكرهون كل جديد بعبارات شتى ذات مدلول واحد. منها ما جاء في سورة المائدة/الآية 4 : {وإذا قيل لهم تعالَوْا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسْبُنا (يكفينا) ما وجدنا عليه آباءَنا}. وجاء في (سورة الشعراء/الآية 74)، {قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون}. وجاء في سورة الزخرف/الآية 22 : {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة (طريقة وسُنة) وإنا على آثارهم مُهتدون}. وفي آية أخرى من سورة الزخرف: {وإنا على آثارهم مُقتدون}. {ينعِق بما لا يسمع}: نعَق الراعي الغنمَ والبهائمَ إذا توجه إليها بصوته زاجرا لها أو حاضا إياها على سرعة السير، لكنها لا تسمع منه إلا صوته دون أن تفهم أو تعي ما يقول. تسمع دعاه ونداءه الموجهين إليها لا غير. وقد تتحرك حركات عادية لكنها لا تعرف إلى أين تمضي. وهو تشبيه للكفار بالأنعام : هم أيضا يسمعون دعاء الرسول لهم أن يستجيبوا لدعوته، لكن يُعرضون عنها كما لو كانوا لا يسمعون. ويقولون ويُردّدون: لا نعبد إلا ما عبد آباؤنا من أصنام وأوثان ولا نغير شيئا مما ورثنا عنهم. {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}: جمع أصم، وأبكم، وأعمى. ويحتمل أن يكون هذا وصفا لآلهة المشركين أو للمشركين أنفسهم الذين لا يستجيبون لدعوة الرسول. فهم لا يمكنهم أن يستجيبوا لأن آذانهم صمّاء. هم لا يسمعون، وألسنتهم لا تنطق فهم بُكم أصيبوا بالخرس والعجز عن النطق، وأعينهم أصيبت بالعمى. والمراد بالأعين بصائرهم التي فقدت رؤيتها فأصبحوا بذلك سائرين تائهين في الضلال. ويمكن الجمع بين الاحتمالين بالقول إنهم أشبهوا أصنامهم في الصَّمَم والبَكَم والعَمَى. {إنما حرّم عليكم}، إنما أداة حصر: تفيد حصر ما جاء بعدها في الحكم وتنفي ما عداه. أي ما حرم الله عليكم إلا الدمَ والميتة ولحمَ الخنزير (الآية) {الميْت}: الميْتة (بسكون الياء) والميّتة (بالتشديد وكسر الياء) مترادفان. الميْتة بالتخفيف لتسهيل النطق. وقد جاء كل منهما في قراءتين : قراءة بالتخفيف وأخرى بالتشديد. واتفق الأئمة على تحريم أكل الميتة. واختلفوا في الانتفاع بجزء منها مما لا يتصل بلحمها. كقرونها وأظلافها وريشها وأنيابها. فقال مالك بجواز الانتفاع بكل ذلك وحرمه الشافعي. لكن وقع الاتفاق بينهم على استثناء السمك والحيتان والجراد وقالوا عنها إن لحمها لا يتغير بموتها، وإن إجراء الذكاة (أي الذبح) على الأنعام يُبقي أجسامها طاهرة، لذلك جاز أكلها، ولا كذلك الميتة التي لم تُذكَّ، والتي ما أن تموت حتى يتغير دمها وتظهر فيها مواد سامة تظهر آثارها على الجسم واللحم. {...والدم ولحم الخنزير}: سبق الإسلام العلم الحديث إلى تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير. وأثبت البحث الطبي أنها تحمل في بعض أطراف جسمها مواد مؤذية. كما أن الخنزير ينقل إلى آكله مرض التِّينْيا وهو دود شريطي يحمل ميكروبات مؤذية ويتأذى الإنسان به إذا أكل لحم الخنزير