قال الله تعالى: ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. فالذي ذهب إليه العلماء في دلالة هذه الآية هو: أن الدعوة إلى الله أحسن من كل ما سواها... وكل ما كان أحسن الأعمال وجب أن يكون واجبا.. فنتج عن ذلك أن الدعوة إلى الله واجبة وعن هذه المسلمة الأولى تتفرع أمور منها: أ- أن الدعوة إلى الدين الحق أكمل الطاعات ورأس العبادات، والشاهد على ذلك نظم الآية الكريمة وهو من وجهين: الوجه الأول: ويدل عليه التراتبية في الآية الكريمة، إذ قدم الدعوة إلى الله عن العمل الصالح والاستسلام لله سبحانه وتعالى. الوجه الثاني: الاشتغال بتكميل الناقصين، وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق، وهو المراد من قوله تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله؟ وهذا أيضا وجه في نظم هذه الآيات .. ب- ارتقاء الداعي إلى الله إلى مقام الأنبياء، إذ الذي انتهى إليه العلماء، بعد ذكر الاختلاف في تحديد المراد من الداع في الآية الكريمة وهو: هل المراد به الرسول أم المؤذنون خ قولهم: ولكن الحق المقطوع به أن كل من دعا إلى الله بطريقة من الطرق فهو داخل فيه. فمراتب السعادات اثنتان، التام وفوق التام، أما التام فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملا في ذاته، فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بعدها بتكميل الناقصين وهو فوق التام... فقوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا؟ إشارة إلى المرتبة الأولى وهو اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها، فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية، وهي الأعلى والأشرف. والذي يؤكد رفعة درجة دعاة هذه الأمة، قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل. وفي شرح هذا الحديث أن العلماء ثلاثة أقسام، علماء بأحكام الله وهم الذين خصهم تعالى بقوله: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثير. علماء الأصول - أصول الدين وأصول الفقه - وأخيرا علماء الفروع، وكل صنف من هذه الأصناف ثلاثة مقامات، فلهذا السبب كانت الدعوة إلى الله درجات لا نهاية لها، فعلم بذلك أنها واجبة على الجميع كل حسب مقامه ودرجته. ج- أن أشرف الناس وأفضلهم، من جمع بين هذه المقامات الثلاثة التي حددتها الآية وهي: الدعوة إلى الله، والعمل الصالح، ثم كان من المسلمين لله سبحانه المنقادين لأمره المنتهين عن نهيه. د- أن الدعوة إلى الله تستوجب التعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة، ولقائل أن يقول: إن الدعوة إلى الله وإن كانت طاعة عظيمة، إلا أن الصبر على الآخر أمر شديد لا طاقة لنا به، ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر لنا بعد ذلك ما يصلح لدفع هذا الإشكال حيث قال ولا تستوي الحسنة ولا السيئة؟ والمراد بالحسنة الدعوة إلى الدين الحق، والصبر على جهالة الآخر وترك الانتقام والالتفات إليهم، والمراد بالسيئة ما قد يصدر من المدعو من عدم الاستجابة والانقياد. فتأكد بذلك أن فاعل الحسنة معظم في الدنيا مثاب في الآخرة لا يستوي بفاعل السيئة بحال. ه- إن الدعوة إلى الدين الحق ودفع السيئة بالحسنة طريق نافع في الدنيا والآخرة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم؟، لذلك أرشدنا تعالى أن السالك لهذا الطريق الموفق في أدائه، إنما هو الصابر الموعود بأعظم الحظ في الثواب وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم الدعوة بنظام الجماعة الدعوة بنظام الجماعة المنظمة مبدأ أقره الأنبياء الذين لا ينطقون عن الهوى، فهذا موسى عليه السلام وهو من أولي العزم من الرسل، نجده بعد الاستسلام لأمر الله وطلبه التيسير والتسهيل في الدعوة إلى الله، يسأل العون والمدد بمن يشترك معه في القيام بأمر الدعوة: واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري. وهذه دعوة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم تقوم على نظام الجماعة، فمنذ مرحلة انذر عشيرة الأقربين ظهرت مشكلة عدم كفاية الدعوة الفردية، وهكذا دعت الحاجة إلى تأسيس الجماعة المنظمة بدار الأرقم، هذه الجماعة التي ستخرج لتتصدى المجتمع الجاهلي. وفي كل ذلك دلالة على أن عملية الإصلاح والتغيير تستوجب نظام الجماعة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فالحاجة إلى التنظيم إذاً قد صرح بها وأقرها الرسل الكرام، وهذا عمر رضي الله عنه يجلس في دار من دور المدينة المباركة إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله، ثم قال عمر: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدا وجوهرا أنفقه في سبيل الله وأتصدق به، ثم قال عمر تمنوا: فقالوا: ما ندري ما تقول يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ولكني أتمنى رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله. فعمر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يعز به الإسلام، والذي خرج مهاجرا في واضحة النهار دون أن يثنيه عن عزمه في الهجرة الخوف من طواغيت المجتمع الجاهلي، يشعر بالحاجة إلى من يتحمل معه أعباء الدعوة إلى الله. فلله در عمر عندما لم يتمن فضة ولا ذهبا ولكنه تمنى رجالا يشركهم في مشروعه الدعوي حيث تتكاثف الجهود البشرية والمادية في مؤسسة قصد بلوغ الأهداف المشتركة، بأحسن كفاية ممكنة وبفاعلية جد مرتفعة، وتلكم هي خصائص التنظيم الراشد. الإسلام دين الجماعة الإسلام دين الجماعة ويكره الشذوذ، فيد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. وحتى العبادة التي هي صلة بين العبد وربه أبى الإسلام إلا أن يضفي عليها روحا جماعية، وصيغة جماعية، فدعا إلى صلاة الجماعة، ورغب فيها حتى جعلها أفضل من صلاة المسلم وحده سبع وعشرين درجة... وقال صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لمنفرد خلف الصف كراهية الشذوذ والانفراد ولو في المظهر. فعلم بذلك أمور منها: أ- دعوة الإسلام الصريحة وترغيبه في اعتماد نظام الجماعة في العبادات. ب- إعلامه أن أفضل العبادات وأكثرها إرضاء لله ما تم في نظام جماعي متقن. التنظيم من أسس الدعوة التنظيم وسيلة إدارية ناجحة في الدعوة إلى الله، فإذا كان الإسلام دين الجماعة فإن الإسلام لا يعرف جماعة بغير نظام، حتى الجماعة الصغرى في الصلاة تقوم على النظام، لا ينظر الله إلى الصف الأعوج، ولا بد للصفوف من أن تراص وتتلاحم، ولا يجوز ترك ثغرة في الصف دون أن تملأ فأي فرجة تهمل يسدها الشيطان، المنكب بجوار المنكب، والقدم بجانب القدم، وحدة في الحركة والمظهر... ولا يقبل من أحد أن يشذ عن الصف ويسبق الإمام، فيركع قبله أو يسجد قبله، ويحدث نشازا في هذا البناء المنظم المتناسق. فتأكد بذلك أن العمل الجماعي لا يؤتى أكله إلا أن يكون عملا جماعيا قائما على أساس التنظيم. فقد قال تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. وقد وقف الشيخ العلامة الطاهر ابن عاشور والأستاذ وهبة الزحيلي عند كلمة أمة في الآية الكريمة فبينا أن المراد من الأمة ليس مجموعة أفراد متناثرين ولا مجرد جماعة بل الصواب هو أن الأمة أخص من الجماعة، فهي الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص. والمراد من الأمة الجماعة والفريق، أي: وليكن بعضكم فريقا يدعون إلى الخير. إن من شروط العمل الصالح الإخلاص والصواب، ولعل بلوغ درجة الصواب والأصوب، إنما يتم باعتماد الأساليب الإدارية المتطورة، التي توضح الطريق وترفع المردودية وتؤدي إلى إتقان العمل وإحسانه. ويبقى التنظيم هو تلك الوسيلة الإدارية المحققة لهذه الأهداف، لأن التنظيم في حقيقته أمره هو وسيلة إدارية راشدة، يتحول العمل من خلاله من عمل الجماعة إلى عمل منظم قائم على قيادة مسؤولة وقاعدة مترابطة ومفاهيم واضحة تحدد العلاقات بين القيادة والقاعدة على أساس من الشورى الواعية الملزمة والطاعة المبصرة الملزمة. فالتنظيم إذاً عامل من عوامل قوة الجماعة، ومظهر من مظاهر رشدها والعمل الإسلامي خ على وجه الخصوص خ لا بد أن يكون عملا جماعيا قائما على أساس من التنظيم والتخطيط حتى يؤتي لأكله وتحقق أهدافه. ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم، ذلك لأن الإسلام يحرص على التنظيم في كل شيء، حتى في الأمور العادية المتكررة مثل السفر وفي الجماعة الصغيرة التي لا يزيد عددها على الثلاثة. وهذه دعوة إلى التزام التنظيم فيما هو أعظم وأكبر شأنا من الرفقة في السفر أو العدد ثلاثة. إن العمل الإسلامي المثمر لا بد له من التنظيم، فلا يكفي أن يكون جماعيا حتى يكون منظما حقيقة بل لا يكون جماعيا إلا بتنظيم. لأن التنظيم ما هو إلا تحويل للجماعة إلى قيادة مسؤولة، وجندية مطيعة، ونظام أساس ينظم العلاقة بين القيادة والجنود، ويحدد المسؤوليات والواجبات. اليد الواحدة لا تصفق إن الواقع يحتم أن يكون العمل المثمر جماعيا، فاليد الواحدة لا تصفق، والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه ضعيف بمفرده قوي بجماعته. ثم الذي يشهد به الواقع أيضا أنه لا مكان للعفوية والارتجال، وأن المؤسسة الدعوية لا تدرك غايتها، إلا باعتماد الوسائل الناجحة التي تراعى فيها التخطيط والانضباط وتوزيع الأدوار على غرار باقي المؤسسات المؤطرة للمجتمع من أحزاب سياسية وجمعيات ونوادي. ومعلوم أنه كلما كثر عدد الأفراد المكونين للمؤسسة الدعوية كلما تعذر السير فيها بشكل عفوي وتلقائي، وبذلك يصبح التنظيم أداة ملحة لأداء الأدوار داخل الجماعة بشكل متكامل وسليم، لا تعارض فيه ولا مضيعة للجهد والوقت. إن الحركات الإسلامية تهدف من بين ما تهدف إليه تحقيق مصالح العباد، فإن لم تأخذ بعين الاعتبار مراعاة الواقع لم تدرك غايتها. والذي أريد أن اخلص إليه من خلال عرض هذه المسلمات هو التأكيد على أشياء منها: أ- أن العمل في إطار التنظيم للدعوة إلى الله، ليس من قبيل المندوب بل من واجب شرعي. ب- أن العمل بالتنظيم ليس بدعة ولا نشازا بل هو سنة كونية وطريقة شرعية اعتمدها الرسل الكرام. ج- أن العمل بالتنظيم وسيلة حضارية وضرورة واقعية بتصرف