كثيرا ما ينتاب الإنسان قلق كبير أو هم وغم بسبب ما يراه تقصيرا من الآخرين في أداء واجباتهم، أو بسبب إحساسه بأنهم ليسوا بالقدر الكافي الذي يعول عليه لبلوغ مستوى التضحية والتفاني، أو لكونه يرى فيهم مجرد تابعين للمصالح الشخصية، يدورون معها حيث دارت، وينصاعون لها حيث سارت، ويستقرون معها حيث استقرت. والحقيقة أن كل واحد منا جزء من الجماعة ولا يستطيع أن يفصل نفسه عن بيئته ومحيطه، كما أنه لا يمكنه أن يمنع هذا المحيط من التأثير فيه وفي شخصيته وأفعاله، لكن الجماعة بالمقابل ليست إلا مجموعة من الأفراد، والسلوكات والعلاقات الاجتماعية في نهاية المطاف ليست سوى نتاج لتجارب الأفراد وتكاملها وتظافرها أو حتى تنافرها. إن الحل الأمثل للتأثير في الآخرين والتفاعل معهم هو عدم التعويل أو الاتكال على تضحياتهم وتفانيهم، وعدم التأثر بتقصيرهم، والرد عليه بالقيام بالواجب والتفاني فيه، وخير محفز للإنسان أن يسعى إلى أن يرضي الله خالقه ويريح ضميره قبل أن يرضى عنه الآخرون أو يثنوا على عمله، وإذا تحقق الرضى الأول الذي هو رضى الله وراحة الضمير، فلا يهم بعد ذلك أن يرضى الآخرون أو لا يرضوا، وعندما يقوم كل منا بواجبه الديني والوطني ولا يتأثر بتقصير الآخرين في واجباتهم، يكون المجتمع آنذاك في حراك وعمل مستمر ويتقدم وينمو، بينما يقع العكس وتتوقف عجلات التقدم والنمو عندما يتبادل أفراد المجتمع الاتهامات بالتقصير، ويرمي بعضهم بعضا بالتهاون أو السعي وراء المكاسب. والسعي وراء المكاسب بالمناسبة كثيرا ما يثار في السياسة، وهو سعي لا يجوز أن يكون كله مذموما، لأن المكاسب السياسية إذا كانت مشروعة فهي محمودة، والعيب أن تكون هدفا في حد ذاتها أو تنال بوسائل خبيثة وغير مشروعة، أو أن تؤدي إلى تجاوزات قانونية أو أخلاقية، أو تكون على حساب حقوق الآخرين ومصالحهم، وعندما تكون المبادئ هي الحارس الأمين للمكاسب فلا خوف منها، بل يعم خيرها الجميع لأنها آنذاك تدخل في نطاق الأعمال الصالحات التي لا تخرج بدورها عن نطاق الإصلاح، لأن الصلاح والإصلاح وجهان لعملة واحدة، وهو ما يستفاد من قوله تعالى: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا، وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)، ولئن كانت هذه الآية تحث على المعاملة الحسنة للآخر، فالقيام بالواجب والتفاني فيه هو أحسن معاملة لهذا الآخر، لأن أداءك الواجب هو قيام بحق الآخر، وبالمقابل ليس أسوأ وقعا على نفس الآخر من أن تتبع عوراته وهفواته وتتصيد كبواته لتشعره بالتقصير وتلومه عليه. والمعنى نفسه يمكن أن يستشف من قول الرسول صلى الله عليه وسلم :(لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا أن تتجنبوا إساءتهم)، فإن أساء الناس بالإخلال بواجبهم فلا تسئ بدورك ولا تضيع وقتك في لومهم على تقصيرهم واشغل نفسك بالقيام بواجبك ففي ذلك خير لكم ولهم.