المغاربة غاضبون هذه الأيام على الأمين العام للأمم المتحدة، وهو غضب موجه ضد موظف أممي وليس ضد منظمة دولية حيوية لخدمة السلم والأمين الدوليين. منذ استقلاله حرص المغرب على الانضمام للأمم المتحدة سنة 1962، التزاما منه بالعمل في نطاق الشرعية الدولية وإعلاء لمكانة القانون الدولي في العلاقات الدولية، وهو ما جرى تأكيده في مختلف الدساتير الوطنية وآخرها دستور 2011. ولذلك فضل المغرب أن ينقل ملف الصحراء إلى أروقة الأممالمتحدة، اعتقادا منه بأن مبادئ الشرعية الدولية لا يمكن أن تدوس على حقائق التاريخ والجغرافيا التي تؤكد أن الصحراء الغربية هي جزء لا يتجزأ من التراب المغربي. وفي هذا السياق حرص الأمناء العامون السابقون للأمم المتحدة الذين تعاقبوا على ملف الصحراء على التزام الحياد بين جميع الأطراف في أفق إيجاد حل للنزاع في نطاق الفصل السادس من ميثاق الأممالمتحدة. غير أن الزيارة الأخيرة التي أقدم عليها الأمين العام للأمم المتحدة السيد بان كي مون إلى المنطقة، وتصريحاته فجرت غضب الشارع المغربي ودفعت الحكومة المغربية إلى إصدار بلاغ شديد اللهجة، كما دفعت البرلمان المغربي بغرفتيه إلى عقد دورة استثنائية عاجلة للاحتجاج على تصريحات وتصرفات بان كي مون. لقد تصرف الأمين العام بطريقة مخالفة لقواعد السلوك المفروضة في أمين عام للمنظمة الاممية، وتخلى عن حياده المفترض وسقط في «انزلاقات لفظية»، حينما وصف الصحراء المغربية بأنها أرض «محتلة»! هذا التوصيف يتناقض بشدة مع القاموس الذي دأبت الأممالمتحدة على استخدامه في ما يتعلق بالصحراء المغربية، ولم يسبق استخدامه من طرف موظفي الأممالمتحدة الذين اقتربوا من هذا الملف. الأمين العام الذي زار مخيماً للاجئين الصحراويين قرب تندوف قال – بحسب ما نقلت عنه وسائل إعلام محلية – إنه يتفهم «غضب الشعب الصحراوي تجاه استمرار حالة احتلال أراضيه». وهو ما دفع الحكومة المغربية إلى الاحتجاج على هذه التصريحات معتبرة إياها بأنها «غير ملائمة سياسياً، وغير مسبوقة في تاريخ أسلافه ومخالفة لقرارات مجلس الأمن». وقال البيان الحكومي إنه «سواء تعلق الأمر بمجريات هذه الزيارة أو بمضمون التصريحات التي تخللتها، فإن الحكومة تسجل أن الأمين العام للأمم المتحدة تخلى عن حياده وموضوعيته». التصرفات التي أخرجت المغاربة إلى الاحتجاج في الشارع، تمثلت في استشعارهم بأن بان كي مون يتعامل مع منظمة انفصالية كما يتعامل مع دولة حينما انحنى لتحية علمها، وأرسل إشارة «النصر» أثناء زيارته لأحد المخيمات بتندوف الموجودة في الجنوب الجزائري. وهو ما وضعه في موقف المتحيز لطرف دون آخر على حساب الحياد المفروض في أمين عام للأمم المتحدة. بان كي مون عبر في بلاغ أممي أنه غاضب من المظاهرات الشعبية التي نددت بانحيازه للأطروحة الانفصالية، وطلب توضيحات عن خروج وزراء في مسيرة الرباط، دون أن يكلف نفسه عناء التساؤل عن أسباب هذا الغضب، ودون أن يكتشف أنه خرج عن الحياد المفترض في وسيط لحل النزاع ليتحول إلى طرف في المشكلة. أمام سياسة الهروب إلى الأمام، لم يكن أمام المغرب إلا أن يعلن عن جملة قرارات حازمة باعتباره دولة ذات سيادة وانسجاما مع مقتضيات ميثاق الأممالمتحدة. من هذه القرارات دعوة بعثة المينورسو إلى تخفيض عدد أعضائها فوق التراب المغربي وخاصة المكون المدني، والإعلان عن سحب مشاركة قواته العسكرية في القوات الاممية لحفظ السلام، والقيام بإلغاء مساهمته المالية الطوعية في ميزانية تسيير البعثة..وهو رد مفهوم تجاوبا مع الغضب الشعبي الذي انتقل إلى العيون في قلب الصحراء المغربية. وبالفعل، سلم المغرب الأمانة العامة للأمم المتحدة لائحة الاشخاص المعنيين بالتقليص الملموس في المكون المدني، خاصة السياسي منه، كما أكدت البعثة الدائمة للمغرب في الأممالمتحدة، على أن مغادرة الأشخاص المعنيين ستتم خلال الأيام المقبلة، مما يعني أن المملكة المغربية قد مرت إلى السرعة القصوى في ردها على التصريحات التي وصفتها الحكومة ب»المستفزة والمسيئة لمشاعر المغاربة». كما أكدت الخارجية المغربية على بداية اتخاذ إجراءات ملموسة من أجل إلغاء المساهمة الارادية التي يقدمها المغرب لسير عمل المينورسو. وبالرغم من هذه الخطوات غير المسبوقة إلا أن المغرب ترك الباب مفتوحا في بلاغ سابق لمزيد من التصعيد، حيث شدد بلاغ وزارة الخارجية، يوم الثلاثاء، أن «المغرب يحتفظ بحقه المشروع في اللجوء إلى تدابير أخرى، قد يضطر إلى اتخاذها، للدفاع عن مصالحه العليا، وسيادته ووحدته الترابية». رد الأممالمتحدة على الموقف المغربي، لم يتأخر كثيرا، حيث أكد المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، استيفان دوغريك، في مؤتمر صحافي بمقر المنظمة الدولية في نيويورك، الأربعاء الماضي، أن «قرار المغرب سيؤثر على عمل بعثة مينورسو»، مضيفا أن الأممالمتحدة تأمل في أن تتمكن بعثة المينورسو من المضي قدمًا بأجواء أكثر إيجابية»على حد تعبيره. التطورات الأخيرة التي تمر بها قضية الصحراء المغربية تؤشر على منعطف جديد للقضية الوطنية، منعطف قائم على ثلاثة أبعاد أساسية: البعد الأول يرتكز على التملك الجماعي لقضية الصحراء من طرف المغاربة، لا يتعلق الأمر بقضية دولة ولكن قضية شعب بأكمله، فقد أبانت مسيرة 13 مارس على حجم الاستعداد الكامن في وجدان الشعب المغربي والقابلية الهائلة للتعبئة من أجل الدفاع عن أرض الصحراء، كما أبانت عن حجم الغضب الذي يشعر به المغاربة عندما يتعرضون للظلم أو للإهانة.. البعد الثاني، يرتكز على محاولة إرساء نموذج تنموي جديد قائم على الإنسان بالدرجة الأولى، الإنسان كمساهم في إنتاج الثروة وكمستفيد من العائدات التنموية للمنطقة، وكمواطن يتمتع بحقوقه الأساسية وبكرامته الإنسانية، ذلك أن حجم المشاريع التنموية التي أطلقها الملك محمد السادس في الأقاليم الجنوبية لا يفسره إلا اليقين في عدالة القضية والاطمئنان على مستقبل القضية، مادام الشعب بمختلف فئاته الاجتماعية هو حاضنها الرئيسي، وهو ما يجد أساسه في النظرية الواقعية للعلاقات الدولية، وهي النظرية التي تؤمن بما هو كائن على الأرض وليس بما ينبغي أن يكون في المثال، فالحقائق التي ترسم على الأرض تَخلق واقعا جديدا تجعل العالم يقتنع بحقائق التاريخ والجغرافيا بعيدا عن المناورات التي تعرفها القاعات المكيفة في العديد من العواصم العالمية.. كل شيء يتوقف على جبهتنا الداخلية التي ينبغي أن تظل متماسكة وأن ترسل إلى العالم رسالة واضحة بأن الرهان على مشاريع التجزئة والتفكيك هو رهان فاشل.. البعد الثالث، يستند على التطور المؤسساتي والديمقراطي الذي أصبح خيارا لا رجعة فيه بالنسبة للمغرب، وهو ما ينتظر من خلال التنزيل الفعلي لمقتضيات الجهوية المتقدمة في مجموع التراب الوطني بما فيها جهات الصحراء، وهو ما يعني أن الجهوية كخيار سياسي يجعل ساكنة المنطقة تدبر شؤونها بنفسها في إطار الوحدة الوطنية، في أفق تنزيل مقتضيات الحكم الذاتي هو خيار مستقبلي جدي وليس مناورة للاستهلاك الخارجي.. كل هذه الأبعاد ينبغي أن تنصهر في ترسيخ الإصلاحات السياسية والديمقراطية الضرورية، فوحدها المؤسسات الديمقراطية القوية تمثل الصخرة التي تتحطم عليها مؤامرات الخصوم..