أشجار نستشهد بها في لبنان وهي على القرب من شفشاون عدت إلى شفشاون لأعد نفسي للعمل على استخراج التأشيرة إلى مصر ... سألت عن ذلك فقيل لي عليك بالسفر إلى مدريد!! إن السفر إلى مدريد آنذاك بالنسبة إليّ ربما كان عندي أصعب من السفر إلى القاهرة مباشرة .. كنت أظن أن الجواز بالتأشيرة الإسبانية كافية لأبحر نحو مصر لكن تبين أنه لابد من تأشيرة مصر من القنصلية المصرية بمدريد فهي أقرب بلد بالنسبة إلي، والسفر إلى إسبانيا لا يحتاج إلى تأشيرة. فعدت إلى تطوان أبحث عن وسيلة أو مساعدة تصلني بمدريد .. وقد رأيت عناية الله وشعرت بيد خفية من قدرته سبحانه وتعالى تقودني نحو حل هذه المشكلة .. مشكلة التأشيرة من مدريد ... لا أدري كيف فكرت في القيام بزيارة أحد الصحافيين المشهورين في تطوان .. فقد كنت أقرأ جريدة المعرفة للأستاذ حسن المصمودي رحمه الله، فقلت في نفسي لِمَ لا أزور هذا الرجل وأستشيره في أمر التأشيرة وكانت إدارة الجريدة في زنقة زاوية الشيخ عبد القادر الجيلالي .. فتوكلت على الله ودخلت الزنقة فوجدت الإدارة مغلقة. حاولت دق الباب بيدي علّ السيد المدير يكون داخل الإدارة لكن دون جدوى. وبينما أنا واقف أفكر في خطوة أخرى تُعثِرُني على صاحبي الذي قصدته والذي يمكن أن يرشدني إلى أحسن السبُل للحصول على التأشيرة كما تصورتُ، وإذا بشاب دون الثلاثين يصل إلى باب نفس الإدارة ويسألني بالإسبانية عن الأستاذ المصمودي، فأجبته بأن الإدارة مغلقة فهو غير موجود هنا الآن. وأردفتُ قائلا: أتسمح أن أقول لك بأن نبرتك ليست إسبانية أصيلة فهل أنت مصري ؟ فقال لا، سوري؟، فقال إني لبناني. وهكذا كانت بداية تعارفنا وأعطاني بطاقته فقرأت ... إليمناوس صقر ( نسيت الإسم الأول )، وذهبنا نتجول في تطوان فزادني تعريفا بنفسه، إنه من قرية بَجْدَرفِيلْ من قضاء البَتْرُون التي تقع منصف الطريق بين بيروت وطرابلس، يتابع دراسته في سلك الرهبان بمدينة سلمنكة بإسبانيا ... وفي برهة قصيرة أصبحنا صديقين حميمين كأننا تربينا معا منذ الطفولة. ولم يحل بيننا اختلاف الدين، ولم نشعر إلا ونحن مندمجان في أحاديث شائقة ولا سيما في الأدب وتاريخ الأندلس والفقه، فقد كان الرجل على دراية جيدة بأبي حنيفة وبخصائص فقهه ... ثم اتفقنا أن يكون ضيفي في شفشاون .. وهكذا أمضينا أسبوعا في بلدتي الصغيرة التي تشبه بلدانا في الأندلس ولا سيما البُشَرّات ناحية غرناطة وأماكن شبيهة في لبنان .. وأثناء ذلك حدثته عن عزمي على السفر إلى مصر طلبا للعلم فأجابني: أرى أن تلتحق بلبنان ففيها جامعتان وثانويات ووسط ثقافي رائع فإن لبنان أعلى مستوى من مصر في رأيي، وأود أن تزور بلاد الأرز فاللبنانيون كرماء ولا سيما في القرى، وكم أود أن تزور قريتنا فستجد أسرتي في استقبالك وتضييفك .. وكنا ونحن طلاب بفاس كثيرا ما نردد في كتاباتنا الأدبية أسماء الأرز والسنديان والصنوبر دون أن ندري: أن جبالنا ولا سيما شفشاون وكتامة مكسوة بأشجار الاّرز. أما إفران وغيرها بالأطلس فهي جبال أرزية. والسنديان هو شجر البلوط، والصنوبر هو الصنوبر الذي عندنا. ففاتَني أن أدله على أشجار الأرز المنتصبة في قمم جبل شفشاون، ونسميها أحيانا بالشوح وهو نوع نادر في العالم بل فريد. وقد كان موضوع رسالة هندسة دولة لعله اضطلع بها المهندس الحمداوي حفظه الله فلْيُسْألْ. وما يعنيني هنا هو أن الصديق اللبناني أبدى استعداده لاستخراج التأشيرة لي من مدريد عند عودته لإسبانيا .. ومن الجدير بالذكر أن هذا الصديق كان رجلا صادقا مع نفسه ومع ربه؛ فقد تطرقنا إلى موضوع الرهبنة التي تفرض على صاحبها حياة خاصة ومن أخطرها وأشقها على النفس والغرائز: العزوف عن الزواج والقبول بالحرمان من الأولاد اقتداء بالمسيح الرب الابن. وقد أشار القرآن إلى أنه وقع تفريط في حق هذا المبدأ كما هو الواقع المعيش ( لا المعاش ). وقد ذكر القرآن ذلك بعد ستة قرون من رسالة عيسى عليه السلام فقال سبحانه:( ... ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلإ ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ) الحديد- الآية .27