يبدو أن من مصلحة المغاربة سياسيا ومستقبليا قبل أن يكون من مصلحة حزب العدالة والتنمية أن لا يشارك هذا الأخير في الحكومة القادمة سواء أقادها الاتحاديون أو قادها الاستقلاليون أو أي طرف آخر. لأن ما سيقدمه الحزب للمغاربة من موقع المعارضة في هذه المرحلة أكبر فائدة مما لو شارك في الحكومة وذلك للاعتبارات التالية: أولا: لأن التطور الطبيعي للأداء السياسي لأي حزب، نشأ نشأة طبيعية، هو الابتداء من موقع المعارضة لينتهي عند نضوجه، بعد مرحلة أو مرحلتين أو عدة مراحل إلى قيادة الحكومة أو المشاركة فيها ليخدم الشعب خدمة مجرب خبير. وحزب العدالة والتنمية مطالب أكثر من غيره باحترام هذا النشوء الطبيعي المتدرج، لأنه يحمل مشروعا سياسيا نوعيا، جديدا على الحقل السياسي المغربي قوامه القيم الإيمانية الإسلامية التي ما دخلت مجالا إلا وأعادت ترتيبه وفعلت حركيته بما يلائم الحق المركوز في نظر الناس، برفق وأناة. ثانيا: أن حزب العدالة والتنمية في مرحلة المعارضة سيخدم بفرادته الإسلامية وتميزه في الساحة الشعب المغربي ومعه الدولة والحقل السياسي جميعا، وسيكون خير وسيط لتصحيح العلاقة بين الشعب والدولة. فالشعب المغربي كاد يصاب بالاحباط والشلل وينتهي أمره إلى العجز والاستهزاء واللامبالاة، وهو كما أشيع عنه في الآونة الأخيرة كان قاب قوسين أو أدنى من السكتة القلبية. والمشاركة الانتخابية الأخيرة أقوى دليل معبر على ذلك. ومهما تأول المتفائلون لأرقام المشاركة الضعيفة وطلبوا لها تبريرات عديدة مرة بالمقارنة مع تجاوب دول راقية كفرنسا وأمريكا وأخرى بمقارنتها بالتجارب المغربية السابقة، فإن الخبر اليقين عبر عنه نبض الشارع المغربي طيلة أيام الحملة الانتخابية برفضه أولا لسحب البطائق مما اضطر أعوان السلطة إلى البحث عن عناوين أصحابها وإيداعها في العنوان وليس تسليمها لصاحبها يدا بيد، وثانيا استقبال معظم الحملات الانتخابية بالتأفف والاشمئزاز وعدم الثقة في "اللعبة" وقوانينها ومكوناتها جميعا، وبتصريحات تفيد أن الانتخابات في المغرب فقدت مصداقيتها. ولكن وبعد مرور يوم الاقتراع بقدر لا بأس به من النزاهة والإنصاف تململ معظم الشارع المغربي ليعبر عن رضاه بهذا الإنجاز الذي تأخر طويلا حتى كاد اليأس يقتل المغاربة، فصرت تسمع التهاني من الناخبين المشاركين والأسف من المقاطعين على مقاطعتهم. ولوحظ أن ثمة رغبة قوية، في التسجيل في اللوائح الانتخابية، عند غير المسجلين. وبعد الإعلان عن النتائج لوحظ بداية تعاطف شعبي متزايد مع حزب العدالة والتنمية، اختلفت أساليب التعبير عنه، فمن داع يدعو للحزب بالتوفيق والتسديد والحفظ من مزالق الهلكة، إلى مجاملة احتفائية، ومن الناس من جهر بها ومنهم من اكتفى بهمس: "لقد صوتنا عليكم ودعونا كثيرا من الأقارب والأصحاب إلى مصباحكم<، إلى متأسف على كونه صوت لغيرنا وهو غير مقتنع وإلى آخر صار حريصا شديد الحرص على أن يسجل نفسه في اللوائح الانتخابية ويقلع عن اللامبالاة بالعملية الانتخابية ما دام الله أكرم الحقل السياسي بهذا الحزب الأصيل، وإلي كثير من التعابير والارتسامات التي هي بحاجة إلى موضوع خاص تتم دراستها فيه للاستفادة منها عند تحركات الحزب المستقبلية تربية وتأطيرا للشارع المغربي. وهذه العاطفة بحاجة إلى تعميق في الوجدان الشعبي لنغرس فيها بذور القناعات الإسلامية لعلنا نصل إلى "الالتزام العاطفي الواعي" وإلى تعاقد على مفاهيم وتصورات في العمل السياسي مسنودة بالقيم الإيمانية الإسلامية خادمة للوطن من خلال تعبئة الأمة في الاتجاه الصحيح الذي ستزيدها الممارسة اليومية انتقاشا عميقا كصورة ذهنية يصعب على المخالف محوها من مرآة العقل الفردي والجماعي للمجتمع المغربي. وشروط تعميق هذه العاطفة وتأجيجها لصالح الفكرة الإسلامية متوافرة، في الظروف الحالية وبكفاية، في موقع المعارضة، لأن الغالب على علاقة الشعب بالمعارضة هو الاحتضان والتبني، في حين أن المشاركة في الحكومة بدون سابق تخطيط استراتيجي مظنة للعلاقة المتوثرة الساخطة مع الشعب، وخصوصا أن شعبنا المغربي لا زال حبيس كوابيس الحكومات السابقة، فثقافته السياسية من حيث علاقته بالحكومات هي ثقافة السخط والتذمر وعدم الثقة بأصحاب الكراسي الفاخرة والسيارات الفارهة. وهذه الثقافة السياسية الرديئة، تتخذ مواقفها من الموقع وليس من البرامج الشاغلة له، فموقع الحكم متهم حتى تثبت إدانته، ولن تثبت بالكلام المعسول والوعود البراقة مهما كانت درجة مصداقيتها،وإنما تبرأ الذمة، عند هذه الثقافة السياسية الشعبية الرديئة بتقديم حلول عملية ملموسة لما يتخبط فيه الشعب من مشاكل وبشكل استعجالي لا يقبل الانتظار. مع العلم أن هذه المشاكل بحاجة إلى حلول مختلفة معظمها يتطلب وقتا طويلا وهي بحاجة لذلك إلى شعب متفهم قد نوفق إلى الحلول ولكن أين هو الشعب المتفهم، إنه سجين الثقافة السياسية الرديئة أي لابد من إعادة تربيته تربية سياسية جديدة. وعلاقة حزب العدالة والتنمية بالشعب المغربي لا زالت في بدايتها، فهي لم تتعمق بعد في وجدانه ووعيه كمشروع سياسي إسلامي له خصوصياته تميزه كبرنامج مما سبق من برامج وكأشخاص يتميزون عن غيرهم بالقوة والأمانة تجعلهم أكبر في نظر المغاربة من احتواء الموقع لهم (فيخدمونه استجابة لأغراض ذاتية ضيقة) عوض استخدامه بقوة الفكرة الإسلامية لصالح الأمة. وبعبارة واضحة إن مشاركة حزب العدالة والتنمية في الحكومة وبحقائب محدودة وفي ظل شروط سيئة للغاية وانتصاب خصم إعلامي حاقد لا يتورع عن تلفيق التهم بالمجان والكذب على الأبرياء، ستصبغ هذه المشاركة بقتام الموقع وقبحه وعندها ستتعمق حالة الإحباط في الشارع المغربي ويخشى عليه من اليأس القاتل الذي ينتهي بضحيته إما إلى الانعزالية أو العبث الفتنوي لأن آخر بارقة أمل التي لاحت له مع حزب العدالة والتنمية فقدت قيمتها المرجوة وصارت إلى حيث انتهت التجارب السابقة الفاشلة، وصدق رسول الله صلى الله عليم وسلم حين قال: >ومن اتق الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه< وحمى نفسه لصالح شعبه وأمته. ثالثا: إذا أردنا من شعبنا أن يحاسبنا بميزان "المعارضة الناصحة المنصفة" التي نؤمن بها، ونعتقد أنها الجديد الإسلامي الأول الذي ينبغي دخوله إلى قبة البرلمان أولا، ثم تعميمه، كأساس لثقافة سياسية نجيبة، على الحقل السياسي ثانيا، فإن الأمر يتطلب منا أن نربي الشعب على مفاهيم "المعارضة الناصحة المنصفة" من خلال ممارستنا العملية لها مع خصومنا السياسيين قبل أن نطلب نحن ممن لم يعرفها أو يتبناها، ممارستها معنا، وأن نعطي لأنفسنا فرصة ولاية برلمانية أو أكثر، وذلك حسب الحاجة التي تقدر في حينها، لنتموقع في المعارضة حتى نساهم في تأهيل الشعب المغربي إما إلى تبنيها أو على الأقل إلى تفهمها كخصوصية للعمل السياسي لدى حزب العدالة والتنمية، وعندها إن شاركنا في الحكومة بأغلبية مريحةأ نسبية أو أقل من ذلك فسيكون لنا رصيد قيمي خاص عند الشعب. يميزنا به عن الآخرين وينصفنا إن اعتدي علينا بالكذب الإعلامي وغيره من وسائل الثقافية السياسية الرديئة. أما قبول المشاركة في الحكومة قبل المرور المتدرج من "المعارضة الناصحة المنصفة" والتعرف إلى الشعب والحكومة والمكونات السياسية والمدنية، بها ومن خلالها فيعتبر مخاطرة سياسية هجينة، وضعف في التخطيط الاستراتيجي للحزب وضيق في الأفق واستعجال للشيء قبل أوانه وجهل فظيع بفقه ممارسة الأوليات وإعطاء كل أولية ما تستحق من وقت وجهد ووتيرة إنجاز. ونحن الآن أقدر على تبرير اصطفائنا في المعارضة أكثر من قدرتنا على تبرير انخراطنا في المشاركة وأقوى على الاستفادة من هذا التعاطف الشعبي المتنامي وتوجيهه وتأطيره دينيا وسياسيا وتعليمه كيف يتعبد الله بالسياسة، في هذه المرحلة من موقع المعارضة، أكثر بكثير من الاستفادة من موقع المشاركة وقد يكون العكس هو الصحيح بعد مرحلة أو مرحلتين برلمانيتين أما الآن فلا أظن. ودعوة بعض الإخوة الحزب إلى المشاركة لتعزيز إمكاناته في مواجهة ومحاصرة، أو على الأقل الحد من المخططات الصهيوفرانكوفونية المدعومة أمريكيا. فالحزب في اعتقادي سيكون أقوى على الحد منها في هذه المرحلة ولا أقول محاصرتها من موقع المعارضة كما لو حاصرها بالمشاركة في الحكومة وربما أكثر، مع الحفاظ على السند الشعبي الداعم، بخلاف موقع المشاركة قد يحرمنا حتى من السند الشعبي ونرجع بخفي حنين. وأما القول بأن القاعدة الناخبة التي صوتت على الحزب لم تصوت عليه ليكون في المعارضة، فهذا ادعاء بحاجة إلى دليل، ودليله استفتاء لهؤلاء الناخبين. ولا استفتاء.. بل أستطيع أن أدعي أن معظم من ناقشتهم في الأمر ممن صوت لصالح الحزب يتمنى بقاءنا في المعارضة تفهما منه أن عمرنا السياسي وحجمنا البرلماني الحالي ووضعنا داخل المكونات السياسية السائدة لا يقوى على المدافعة من موقع المشاركة الحكومية وهو أقوى وأعند وأصلب وأزكى له في الوسط الشعبي أن يكون معارضا. أبو يوسف رشيد سودو