تعرف الساحة الثقافية والفكرية المغربية في الآونة الأخيرة تزايدا للانتاجات البحثية والاصدارات لعدد من الباحثين الشباب الذين أصبحوا يشكلون موجة جديدة من الكتابات واعدة بعطاء فكري ثري. الأسماء الجديدة تكتب في الفلسفة والاجتماع والنقد والسياسة وتبحث لها عن موطئ قدم في المشهد الثقافي بالقدر ذاته التي تراهن على الجدة والنقد، والذي يبدو جليا من خلال مراجعة إشكاليات كبيرة في الفكر العربي والإسلامي سواء تعلقت بالمشاريع الكبرى أو بأسئلة المنهج. إلا أنه لا يخفى على المتتبع الدور الكبير الذي تلعبه المؤسسات والمراكز خاصة من خارج المغرب في التعريف بهذه الأسماء وتوفير حضن لها عبر استفادة متبادلة تربح فيها المراكز طاقات بحثية منتجة ويربح فيها الباحثون فرصة للوصول إلى القارئ والتداول. على بعد أيام من المعرض الدولي للكتاب الذي سينطلق بعد أيام قليلة؛ بدأ عدد من الباحثين في التعريف بإصداراتهم الجديدة التي ينتظر أن يجدها القارئ في أروقة المعرض. هي كتابات في مجالات مختلفة بين الفلسفة والاجتماع والنقد والأصول والمقاصد والسياسة تعد بموجة جديدة من الباحثين الذين لا يترددون في الانخراط في مشاريع فكرية عبر مؤسسات بحثية أو مراكز تحتضن الباحثين أو تمتلك مشاريع ثقافية. ظرف تاريخي ملائم وعن هذه الموجة في التأليف والانتاج البحثي، قال الباحث فيصل الأمين البقالي إن الظرف التاريخي الذي نمر منه مرهص ومخصب. ويضيف البقالي الذي صدر له عن مركز نماء كتاب "القومية العربية : نظرات في الفكر والمسار"، أنه على الرغم من المحاولات القليلة والمبادرات الصغيرة لمراكز البحث ومؤسسات الصناعة الثقافية عندنا إلا أنه تنبعث من هذا الوضع العليل الكليل الذي يعانيه البحث العلمي وتعانيه الثقافة عموما أسماء هنا وهناك واعدة ومتوقدة. ويدعو فيصل الأمين في حديث ل"التجديد"، إلى إيلاء مزيد من الاهتمام بهذا المجال، معتبرا أن مجال البحث العلمي والانتاج الفكري مجال مؤسس ومنتج وأكيد المفعول ومضمون المردودية لكل مشروع اجتماعي يبتغي الإصلاح والنهوض. وعن كتابه الذي سماه «القومية العربية : نظرات في الفكر والمسار »، يقول البقالي "حاولنا من خلال هذا البحث أن نتحدث عن إرهاصات الفكرة القومية العربية وناقشنا ما اعتبرناه محطات هامة في تاريخها. فأما عن الإرهاصات فقد حاولنا أن نناقش القول السائد بأن الحملة الفرنسية على مصر كانت أهم البواعث للفكر الإصلاحي عموما، وللفكر القومي على وجه الخصوص، بل ألزمناها بضميمة تاريخية أخرى أوردها بعض المحققين خصوصا منهم المحقق محمود محمد شاكر رحمه الله والتي تبين أن الفكرة الإصلاحية كانت حاضرة قبيل الحملة الفرنسية على مصر مستشهدين بما تيسر لنا سوقه بعد الوقوف عليه في هذا الإطار. ثم "مضينا مع المسارات التاريخية للقومية العربية على شاكلة من تناولها بالنظر وما جروا عليه من تقسيم زمني لتطورها محاولين أن نعطي نظرة عامة على أهم ما مرت به الفكرة القومية العربية يسكننا في ذلك وعينا بأن النظر في الظاهرة القومية لا ينفك عن النظر في تاريخيتها". ويضيف البقالي ابن مدينة طنجة أن الكتاب تضمن أيضا نقاشا لمقولات الخطاب القومي العربي عبر تصنيفها إلى مقولات تأسيسية ومركزية وغيرها. كما يقدم الكتاب مساءلة للقراءات النقدية التي تعرضت للخطاب القومي العربي والتي يميز صاحب الكتاب ما بين الداخلية منها والخارجية. في الداخلية يشرح الكاتب "عمدنا إلى ملاحظة منسوب النقد الذاتي في تطوره التاريخي وصنوف الجدل الذي صاحبه على مستوى بعض المقولات المركزية كمقولة الوحدة العربية وبعض القضايا الهامة كالعلاقة بين العروبة والإسلام. وفي الخارجية عرضنا لثلاثة قراءات قراءة "صهيونية" من خلال مارتن كرامر وهو نائب رئيس معهد "موشي دايان" الدراسات الإفريقية والشرق-أوسطية بجامعة تل أبيب. وقراءة "إسلامية" من خلال محمد عمارة وقراءة أكاديمية مغربية من خلال المهدي المنجرة رحمه الله" جهد بحثي جماعي خمسة باحثين في تخصصات مختلفة تصدوا للكتابة عن إشكالية المنهج، وذلك في كتاب جماعي من إصدارات هذه السنة، تناول خمسة حقول معرفية تنتمي إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية: الفلسفة، علم الاجتماع، وعلم السياسة، وعلم الأنثروبولوجيا، والنقد الأدبي. سلمان بونعمان أحد المساهمين في الكتاب والمشرف أيضا على البحوث التي عرّفت بكتّاب جدد وباحثين يخوضون تجربة الإصدار لأول مرة؛ قال إن هناك تشكلا لجيل فكري جديد يطرح أسئلته الخاصة ويتفاعل مع تحديات الواقع بطريقة حرة ومستقلة، سلاحه البحث العلمي الجاد والتنقيب التاريخي والصرامة المنهجية واستحضار الأبعاد الفكرية والفلسفية في تفاعل مع قضايا عصره والاشكالات الكبرى التي يثيرها الفكر العربي المعاصر. ويرى سلمان في حديث ل"جديد بريس"، أن هناك حاجة ملحة لبناء مؤسسات فكرية وعلمية تمنح الشباب حرية التفكير والإبداع والتأليف وتشجيع هذه الطاقات، مشددا على أن المشكل في تحريك الساحة البحثية والفكرية ليس مشكل موارد بحثية ولا طاقات بل مشكل الهيئة العلمية المحتضنة والمؤسسة والناشرين الذين عليهم الايمان أولا بقدرات الباحثين وخاصة الشباب منهم وإمكانات أن يقدموا جديدا ومتميزا ويتسم بالعمق والاصالة، ثم ثانيا الاحتضان والتشجيع داخل مشاريع علمية جماعية وفردية بشكل يجعل المنتوج قادرا على الحضور والتداول. الكتاب الذي يقترحه الباحثون على القراء؛ والذي صدر هو الآخر عن مركز نماء (2015) وقدم له بلال التليدي؛ لا يدعي أنه يقدم كل الإجابات عن القضايا التي طرحها بين الفلسفة والاجتماع والنقد الادبي، ولكنه على الأقل، يضيف المشرف على الكتاب؛ يقدم مساهمة تسعى إلى لفت الانتباه إلى أهم الأسئلة التي تعتري المنهج الدارس في العلوم الاجتماعية. وحول أهمية العمل المقدم، يقول سلمان بونعمان، إن رسالة الكتاب الجماعي هو التأكيد على أن الهدف النهائي للباحث من العمل العلمي ليس حشد أكبر قدر من المعلومات وتجميع كمّ هائل من المعطيات بدون أي رؤية معرفية ومنهجية ناظمة لعمله، حيث أن ذلك سيسقطه في آفات: "المعلوماتية" و"التقليدية" و"الجاهزية" و"التبسيطية" التي تحوّل الباحث إلى آلة صماء وبنك معلومات لا يحمل قلق المعنى وحرقة السؤال ولذة المعاناة ووجع التفكير خارج الإطار السائد، بل إن الإسهام في تعزيز حركة الإبداع العلمي والتجديد الفكري وتطوير التراكم المعرفي لخدمة قضايا الانسان والنهوض والكتاب يناقش إشكاليته من خلال الورقة البحثية التي تقدم بها سلمان بونعمان عن أسئلة المنهج في العلوم الاجتماعية، والتي حاولت استيعاب الأسئلة القديمة والمتجددة التي طرحت ولا تزال تطرح على المقتربات المنهجية لعلم الاجتماع، والورقة الجادة لمحمد الطويل الباحث في العلوم السياسية الذي خاض في حفريات علم السياسة، وتوقف عند أهم الإشكالات المنهجية التي تعرفها مقاربات علم السياسة، والورقة المتميزة الاستاذ الفلسفة محمد الأشهب التي عالج فيها سؤال المنهج في الفلسفة الحديثة من خلال دراسة حالة كل من الفلسفة الوضعية والماركسية. ويتضمن الكتاب أيضا دراسة للباحث أسامة الخضراوي الذي توقفت من خلال نقد المقترب الانقسامي في الأنثروبولوجيا على جوانب مهمة من أزمة المنهج في فهم البنية الثقافية في المجتمع العربي من خلال نماذج مدروسة، لى جانب ورقة بحثية للباحث في النقد والبلاغة عمر الطاهري التي توقفت بإسهاب عن جانب من جوانب أزمة المنهج في النقد الأدبي ومدارسه. وتكمن أهمية هذا الكتاب حسب المشتغلين عليه في أنه يعيد فتح سؤال المنهج، ويحاول تقريب القارئ من العلاقة القائمة بين الموضوع وأداة دراسته، وأثر ذلك على النتائج المستخلصة. فكثيرة هي الخلاصات الخاطئة التي يكون منشأ الخطأ فيها هو عدم استواء المقترب المنهجي، وكثيرة هي المعارف التي يزعم أنها علمية، لكنها لا تصمد أمام الحقائق السوسيولوجية بسبب كونها نتجت عن تعسف في استعمال أدوات المنهج. استقطاب الأقلام المغربية من الملفت اليوم للانتباه احتفاء المؤسسات البحثية والمراكز المتواجدة في المشرق بطبع الاعمال المغربية واستكتاب الكُتاب المغاربة، وفي الوقت الذي تجد تلك المؤسسات طاقات علمية معطاءة ومنتجة، يحظى الباحثون وخاصة الشباب منهم بفرصة النشر والخروج إلى القارئ العربي من اسواق مختلفة. ويعلق على ذلك عمر طاهيري الذي شارك في إصدار عن مركز نماء؛ بالقول إن المشارقة اليوم أدركوا قيمة الباحث المغربي والعالم المغربي والمفكر المغربي؛ فراحوا يتهافتون على استقطابه من مداخل مختلفة. ويضيف طاهيري المتخصص في النقد والبلاغة أنهم تمكنوا فعلا من إخراج الكثير من الأسماء التي لم يكن يسمع بها أحد من قبل إلى فضاء التأليف والكتابة، حتى صارت بعض الأسماء مراجع في تخصصاتها، وأغلب تلك الجهات إما مراكز بحثية وإما دور نشر لها مشاريعها. وحسب المتحدث فلقد كان لها الفضل فعلا في ملء الفراغ الذي تركته مؤسساتنا الوطنية، بعدما تخلت عن واجباتها تجاه الطاقات والكفاءات الوطنية، وتركت مجالا واسعا من مجالات العمل والاستثمار الحقيقي، إنه الاستثمار في العنصر البشري لصالح العلم والمعرفة.