أظهرت النهاية المأساوية التي انتهت إليها قضية الرهائن بمدرسة بيسلان في جمهورية أوسيتيا الشمالية الروسية قبل يومين، وأودت بمقتل 335 شخصا على الأقل أغلبهم من الأطفال، المأزق الذي توجد فيه السياسة التي نهجها الرئيس فلاديمير بوتين إزاء قضية استقلال الشيشان. فقد بينت عملية اقتحام المدرسة لإنقاذ الأطفال المحتجزين بعد ثلاثة أيام، التي تحولت إلى حمام دم بموت عشرات الأطفال، أن الكرملين يفتقد إلى أدنى تصور واضح بخصوص مسألة التعاطي مع أزمة الشيشان، وأنه لا يملك سوى استراتيجية العنف والعمل العسكري التي أبانت عن فشلها بحسب الخبراء العسكريين، حيث إن القوات الخاصة التي اقتحمت المدرسة لم تكن مدربة لمثل هذه الأعمال لإطلاق سراح رهائن محتجزين، وأن نجاح بعض المختطفين في الفرار كشف الثغرات الكبيرة في خطة الاقتحام. وقد أعلنت المقاومة الشيشانية بعد عملية الاقتحام الدموية، أنها بريئة من المجزرة التي راح ضحيتها المئات من الأشخاص، حيث اتهم قيادي شيشاني معارض لموسكو الحكومة الروسية بممارسة تضليل متعمد حول عملية احتجاز الرهائن في مدرسة الأطفال بأوسيتيا الشمالية، مؤكدا عدم وجود دليل حتى الآن على مشاركة شيشانية في العملية، وكشف عن عرض تقدم به الرئيس الشيشاني السابق أصلان مسخادوف المطلوب لدى روسيا بالتوسط لدى الخاطفين إلا أنه لم يتلق ردا بشأنه. وقد اعترف بوتين نفسه بعد يوم من العملية في الخطاب الذي استمر عشر دقائق بالفشل في تدبير الأزمة، لكن هذا الاعتراف لم يصل إلى حد إعادة النظر في جوهر المشكل الذي يتعلق بالتعامل مع مطالب الشيشانيين بالاستقلال وقبول التحاور معهم، وهي السياسة نفسها التي نهجها قبله الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، الذي حاول تجريب أسلوب القوة العسكرية لحل الأزمة المستعصية مع الجمهورية المسلمة، فيما لم يزد ذلك سوى في إشعال نيران التوتر والمواجهات التي أدخلت روسيا نفقا مظلما. لقد جاء بوتين إلى السلطة في العام 1999 من جهاز المخابرات الروسية بخلفية حل الأزمة التي ورثها عن سلفه يلتسين، واعتقد الروس أن رجل المخابرات السابق الذي خبر الحيل السياسية والدهاء الاستخباري يمكن أن ينجح في المهمة، مرتكزا على الخبرة الطويلة التي حصلها في الجهاز القوي ذي النفوذ الواسع في عهد حكم الحزب الشيوعي، ومراهنا في الوقت نفسه على جعل أزمة الشيشان حصان طروادة للتألق أمام الروس في عالم السياسة، وتوقع كثيرون أن ينجح بوتين بقوته في إزالة الشيشان من خارطة العالم؛ ولكنه وقع في فخ الشيشان كما وقع سابقوه، ليجد نفسه يمر من نفس الورطة التي مر منها أسلافه الذين حاولوا تجاوز حقائق التاريخ والجغرافيا والدين في التعاطي مع الأزمة، وتأكد فشل تلك السياسة مع حادث مسرح موسكو في العام الماضي التي قتل فيها المئات من المواطنين الروس. لقد جرب بوتين ويلتسين لتركيع الشعب الشيشاني عدة وسائل، الأولى هي توظيف القوة العسكرية وملاحقة المقاومة الشيشانية، والثانية هي زرع رجال الكرملين في جهاز الحكم بالشيشان عبر انتخابات مزورة هدفها إيصال خدام الكرملين إلى موقع القرار في غروزني، لكن كما فشلت الوسيلة الأولى أمام صلابة المقاومة وإردتها الصلبة في تحصيل الاستقلال بأي ثمن، فشلت السياسة الثانية التي كانت تنتهي دوما باغتيال رموز السلطة التابعين للكرملين. واليوم بعد النهاية المأساوية لعملية الإفراج عن الرهائن في بيسلان، يتبدى بوضوح أن سياسة بوتين فيما يتعلق بجمهورية الشيشان المسلمة باتت أمام مفترق واضح، إما أن يقبل التفاوض مع المقاومة ورموزها، وإما أن يستمر في نفس السياسة إلى أن يخسر موقعه السياسي ويدخل تاريخ روسيا الحديث كأول من أغرق الروس في حمام دم وقتل عشرات الأطفال الأبرياء. ويبدو أن بوتين بات غير مستعد للتخلي عن هذا النهج التقليدي الستاليني في التعامل مع قضايا الأقليات ومطالبهم، فبعد عملية المدرسة الدموية، وخروج عائلات الأطفال الضحايا للتنديد بسياسته العمياء، وظهور أصوات تطالب بالحوار مع المقاومة الشيشانية، هاجم بوتين المطالبين بدخول روسيا في محادثات مع الانفصاليين الشيشان، وشبه هؤلاء بمن يطالبون أوروبا بالدخول في مفاوضات مع أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، وهذا يعني أن قضية الشيشان مرشحة لمزيد من التطورات في غضون الأيام القادمة. إدريس الكنبوري