منذ عملية رهائن مسرح روسيا التي قام بها مقاتلون شيشان للمطالبة بسحب القوات الروسية من الشيشان، والتي انتهت بمقتل الخاطفين وتحرير 750 من الرهائن, وقضية الشيشان لا تروح مكانها بين الظهور والاختفاء لكنها أضحت اليوم تعاني من غيابها عن مخيلة الكثيرين في الخريطة الذهنية لكثير من مناطق الصدام الحضاري التي يهتم بها فكرنا العربي والإسلامي؛ نظرًا لوقوعها في مكان معقد من الخريطة السياسية للعالم المعاصر. والسؤال يطرح نفسه على المحللين دائما : هل تفرط روسيا في الشيشان؟ وما هي أسباب التمسك الروسي بهذه الجمهورية الإسلامية؟ وما هي أوضاع المقاومة الشيشانية حاليًا؟، وما هي أسباب هذا الانحسار؟ وما تداعيات ذلك الانحسار على استقلال الشيشان عن روسيا؟ ولماذا هذا التعتيم الإعلامي؟ ولماذا تصر روسيا على رفض استقلال الشيشان ؟ وكما هو معروف،فإن تدفق النفط في منطقة بحر قزوين يجعل روسيا مستعدة في سبيل إبقاء كافة الأراضي في الجنوب تحت سيطرتها لدفع أي ثمن ، خاصة في ظل التوغل الأمريكي الأوربي في القوقاز وآسيا الوسطى, ذلك التوغل الذي يرتدي عباءة شركات الاستثمارات البترولية. والمشكلة أن معظم المناطق الروسية الغنية بالنفط حول بحر قزوين هي مناطق إسلامية. ويصف بعض الباحثين المنطقة بأنها بحر من الدين يطفو فوق بحر من النفط، ولنا أن نتخيل كم تساوي أهمية منطقة يجتمع فيها الإسلام والنفط معًا في كنف عالم ما بعد 11 سبتمبر. ولقد أفضت أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي اتخذتها الولاياتالمتحدة ذريعة لحربها في أفغانستان، إلى وصول القواعد العسكرية الأمريكية لأطراف البيت الروسي، وصارت الشيشان وباقي جمهوريات القوقاز على مرمى حجر من هذه القوات التي تتوغل رويدًا رويدًا في جمهوريات آسيا الوسطى. وعندما نستدعي إلى الأذهان النظرية القائلة بأن لكل زعيم حربه المقدسة لا ننسى أن تماسك الحكم الروسي في بداية عهد الرئيس بوتين كان مرهونًا بنجاحه في حرب الشيشان المقدسة للحفاظ على وحدة البيت الروسي، والقضاء على من يسمون الأصوليين والمتطرفين في الشيشان وداغستان. ويبدو أن روسيا استبدلت الأصولية بالنازية سيرًا على نهج الولاياتالمتحدة التي استبدلت الأصولية بالشيوعية. فحينما كانت العلاقات الروسية الأمريكية يعتريها الشك والتوجس (عالم ما قبل 11 سبتمبر) كانت الولاياتالمتحدة توجه اللوم دومًا إلى روسيا بضرورة أن تراجع سياستها القمعية في الشيشان، ووصل الأمر إلى الحديث عن مذابح جماعية ارتكبتها روسيا بحق الشيشان. وعلق البعض الآمال على إمكانية أن تستفيد الشيشان من بقايا الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدةوروسيا، ولكن بعد اتفاق سياسة الدولتين في محاربة الإرهاب الدولي ، وبعد أن أصبحت روسيا في مايو الماضي عضوًا في حلف الناتو -وإن كانت عضوية منقوصة-، ووجدت روسيا لنفسها مكانًا في التحالف الأوربي. مستقبل غامض وإذا ما قبلنا فرضية جدلية، مفادها قبول روسيا استقلال الشيشان,فإن الدولة الوليدة ستجابهها مشكلات عدة قد لا تعطي لها فرصة للاستمتاع بحلاوة النصر. وعلى رأس هذه المشكلات، أن الشيشان ستعاني الانعزال والانحباس الجغرافي؛ وهو ما سيجعلها معتمدة على دول الجوار وفى مقدمتها روسيا وجورجيا، وما يكتنف ذلك من تباينات أيديولوجية يصعب انتظار تغيرها. يضاف إلى ذلك قضايا الحدود الساخنة؛ فليس للشيشان حدود واضحة مع الجيران، وخاصة مع جمهورية أنجوشيتيا الواقعة في غربها. وهذه الحدود غير المتفق عليها هي القنابل الموقوتة المنتظر انفجارها بعد إعلان الاستقلال، وستطفو على السطح نزاعات حدودية كتلك التي وقعت بين أرمينيا وأذربيجان أو بين روسيا وجورجيا. كما أن مستقبل الشيشان يعتمد على تطوير التنقيب عن النفط، أو على الأقل الاستفادة من عبور أنابيب النفط عبر أراضيها, وإن كانت روسيا قادرة على تطويق الشيشان وحرمانها من مرور أنابيب النفط والغاز عبر أراضيها، وقامت خلال حرب الشيشان الثانية بذلك فعليًّا. وطبيعي أنه ستجابه الشيشان قضية خطيرة، هي إعادة الإعمار وإصلاح البنية الأساسية؛ وهو ما يتطلب قدرات اقتصادية كبيرة لا تتأتى للشيشان في ظل ضعف مواردها السابق الإشارة إليه, صحيح أن العمليات الجهادية اليومية في الشيشان ضد قوات الاحتلال الروسي ترهق موسكو بشدة، ولكنها على ما يبدو تظل محاولات قد تصيب روسيا وتحرج كرامتها الدولية، وقد تنتقص من هيبتها كدولة ذات استقرار وتماسك؛ إذ إن طبيعة الصراع الدولي ومفردات اللعبة الدولية سترجئ -إلى تاريخ غير معلوم- أمل الشيشان في أن تصل إلى اتفاق مع روسيا بشأن الاستقلال. وفى ظل المعطيات الحالية يبدو أن أقصى ما يمكن أن تسعى الشيشان إليه هو المطالبة بتفعيل القوانين الفيدرالية التي تربطها بروسيا (المسار التترستاني). والحصول على وضع أفضل في ظل قوانين الحكم الذاتي التي يمكن أن تحقق درجة من الاستقلالية لا ينقصها سوى الاسم. والخلاصة في هذا السياق، أن روسيا لن تفرط في الشيشان بسهولة لأسباب جغرافية وسياسية وإستراتيجية، وربما تساعدها حرب الإرهاب الأمريكية على تشديد موقفها، بعدما بدأت واشنطن تحول نظرها بشأن قضية الشيشان، وتعتبرها مجرد قضية انفصالية! أما عن أوضاع المقاومة الشيشانية حاليًا, فإنه يبدو للمراقبين، كم الفضائح الروسية هناك، وما يصاحب ذلك من تعتيم إعلامي غربي على الشأن الشيشاني، بعدما كشفت وكالة أنباء الشيشان عن جانب من الفظائع التي يرتكبها الجنود الروس ضد المعتقلين في معسكرات التعذيب، ونقلت عن الوزير الشيشاني إيداميرا باليوف أن هذه المعسكرات تضم حوالي 10 آلاف شيشاني. وتذكر الوكالة أن الروس يقومون بتكسير عظام الأيدي والأرجل بآلات حديدية، إضافة إلى فقء الأعين والتعذيب بالصعق الكهربي. ويقول شهود عيان: إن الروس يجبرون المعتقلين على التجرد من ملابسهم ويسرقون متعلقاتهم الشخصية، وقاموا باغتصاب عدد من النساء. وكانت صحيفة صنداي تايمز البريطانية قد كشفت في وقت سابق عما يدور في معتقلات التعذيب الروسية للمواطنين الشيشان، وما يحدث فيها من مذابح وحشية وجرائم حرب. ونقلت الصحيفة روايات شهود عيان إلى منظمة العفو الدولية، أو المعروفة باسم هيومان رايتس ووتش بأنه تمّ إلقاء كل 12 مدنيًا شيشانيًا معظمهم من الرجال في حفر عمقها 9 أمتار بجنوب الشيشان، ويحاط المحتجزون بعدد من الجنود الروس المدججين بالسلاح، ويتمّ إخراج المحتجزين عند مساءلتهم أو لتعذيبهم. ويقول الشهود: إن المحتجزين يعانون من الجوع الشديد والهزال؛ حيث تلقي إليهم قطع خبز ومياه مرة واحد يوميًا، في حين يسكبون المياه الباردة على أجسامهم في المساء حتى يواجهوا الصقيع طيلة الليل. ويقول بيرت بوكارت -أحد الباحثين بالمنظمة-: لدينا أدلة صريحة عن وجود محتجزين شيشان في حفر قرب المواقع الروسية، بهدف الحصول على ما لديهم أو لدى أسرهم من مال، مشيرًا إلى أن بعض المحتجزين يتمّ نقلهم إلى معتقلات التعذيب لما يدور حولهم من شكوك حول علاقتهم بالمقاتلين الشيشان، بينما يسلمون البعض الآخر إلى أسرهم مقابل أن تدفع أسرته ما لديها من نقود، كما يعتبر الروس السيارات والفودكا ، وحتى الأسلحة نوعًا من المقابل المرغوب فيه. وأضافت المنظمة في تقريرها أن تعنّت الروس بلغ إلى حد المطالبة بالفدية، ليس على الأحياء فقط، بل على الأموات أيضًا؛ حيث اضطر أحد الآباء إلى دفع مبلغ 10 دولارات مقابل استرداد جثة ابنه. وتذكر الصحيفة البريطانية أنه من المتوقَّع أن تصدر المنظمة الأمريكية تقريرًا لتوثيق مذبحة الشيشان في قرية الخان يورت , وأنه منذ ديسمبر 1999 حتى الآن؛ قام الروس بنهب وحرق عشرات المنازل، وقتلوا 14 ألف شيشانيًا على الأقل. وتأتي هذه الأنباء في الوقت الذي أعلنت فيه وكالة أنباء الشيشان أن المجاهدين تمكّنوا من قتل 10ألاف جندي روسي خلال تلك الفترة., في الوقت الذي اعترف فيه المتحدث باسم الكرملين سريجي ياسترزمبسكي بأن القوات الروسية تكبّدت خسائر فادحة. وقال: إن ذلك يشير إلى اعتزام المقاتلين الشيشان شنّ حرب عصابات عنيفة، وإنهم لن يقبلوا الهزيمة، غير أنه استبعد إجراء محادثات مع قادة المقاتلين الشيشان إلا إذا كانت هذه المحادثات ستبحث استسلام المقاتلين. المقاومة الشيشانية أين ؟ وفى محاولة للإيهام بتحقيق نصر بعد الضربات الشيشانية الناجحة, فقد سبق أن أعلنت موسكو, أنها ستعيِّن مسئولاً يكلف بقيادة الشيشان خلال الفترة الانتقالية التي ستسبق إقامة نظام برلماني أو رئاسي في الجمهورية، وقال المتحدث باسم الكرملين سيرجي ياسترجمبسكي: إن المسألة لمعرفة ما إذا كانت الشيشان ستصبح جمهورية بنظام برلماني أو رئاسي تبقى مفتوحة، لكن موسكو ستعين شخصًا لقيادة إدارة الجمهورية خلال فترة انتقالية تستمر سنة أو 3 سنوات . ولم يحدث هذا حتى الآن. وفي سياق مفاوضات السلام لوضع حد للصراع في الشيشان, فقد استبعد المتحدث أيَّ حوار مع أولئك الذين يقاومون القوات الفدرالية بالسلاح على حد تعبيره، لكنه أكّد أن محادثات قد بدأت مع بعض الشخصيات الشيشانية، مشيرًا إلى ذلك بقوله: لقد أجرينا اتصالات مع المسؤول (المؤيد لروسيا) بيسلان جنتاميروف والمفتي قديروف وأشخاص آخرين من الشتات، لكن لم يظهر أن أيًا منهم قادر على تمثيل الأمة بكاملها . وكان الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والشيشاني أصلان مسخادوف، غير المعترف به من موسكو وتصفه بـ المجرم ، أكّدا تبادل خطط للسلام منذ فترة، إلا أن هذه الاتصالات يبدو أنها تجمّدت منذ ذلك الحين. ويشار في هذا السياق، إلى أن المجتمع الدولي والغربي على وجه التحديد بضغوط من أمريكا قام بالضغط على روسيا، وفي ظل هذه الضغوط الدولية والداخلية قررت موسكو التجاوب مع مطالب المجتمع الدولي والمدني وحل الأزمة الشيشانية عبر السبل السياسية بشكل سلمي، إلا أن حل موسكو السياسي لم يكن به مكان لمسخادف بعد اغتيال قديروف، والذي كان مكلفًا بهذه المهمة، وتمت المصادقة علي الدستور وتشكيل هيئات الدولة، وقوات الشرطة، وأخيرًا تم إجراء الانتخابات والتي أسفرت عن انتصار ساحق لقديروف، بعد انسحاب منافسيه الأقوياء استجابة لطلب الكرملين. هذا الوضع كان يعبر عن وجود أطراف مختلفة من المعارضة الشيشانية إلى جبهة أنصار الكرملين لها مصلحة في اغتيال قديروف، وسيؤدي أيضًا إلى إثارة الصراع حول السلطة في الشيشان. وما لاشك فيه أن موسكو حتى تستعيد هيبتها وحتى تقضي على الدعم المعنوي لبقايا مقاتلي المعارضة الناجم عن اغتيال قديروف ستشن حملات عسكرية واسعة وقاسية لتصفية المقاتلين، مما يعني أن الملف الشيشاني عاد مرة أخرى ليغرق الكرملين في مشاكل لا حصر لها. ولابد من القول بأن موسكو لن تتمكن من إغلاق الملف الشيشاني ما لم تجد حلاً جذريًا لأزمات الشعب الشيشاني الاقتصادية، وتوفير فرص العمل للشباب حتى تقطع مصدر تغذية مختلف الفصائل المسلحة البشرية، إضافة للتجاوب مع مطامح الشيشانيين في الأمن والاستقرار وحرية التعبير وعدم إهدار حقوقهم الإنسانية والتي لم تتم فقط على أيدي بعض العسكريين أو بقرارات من بعض حكام الأقاليم الروسية، وإنما أصبحت تحصل على طابع قانوني في المحاكم الروسية، التي تبرئ ساحة العسكريين الذين يقتلون المدنيين. لقد أصبح الانتماء للشيشان في روسيا مرادفًا للإرهاب والنهب والإجرام بفضل سياسات بعض حكام الأقاليم ووسائل الإعلام الروسية، وأصبح المواطن الشيشاني محاصرًا من الجميع. ويبقي أن نشير إلى أن سياسة الاعتماد على هذا الفصيل المسلح في مواجهة الفصائل الأخرى لا يمكن أن يشكل مخرجًا، وإنما هو السبيل الناجع لإبقاء الأزمة الشيشانية متفجرة, في الوقت الذي يتوقع فيه المراقبون، أن تبرز مشكلة الشيشان مرة أخرى على سطح الأحداث في مستهل هذا العام، أو قريبًا.