حب الاستطلاع لتجميع المعلومات واكتساب المعارف عن طريق التجربة والملاحظة وملامسة الواقع، ظاهرة بشرية، قد طبع عليها هذا الكائن، لتصبح من ثم من أهم عناصر مكوناته كموجود عاقل، يسعى لاستثمار وجود الحياة المختلفة، بقصد إبراز ذاته أولا، وتحقيق مآربه ثانيا، يعزز كل ذلك قدراته الفائقة على تفسير مظاهر الوجود ومحاولة تسخيرها لخدمته. وحتى يستطيع فسح مجالات المعرفة لنفسه، أو لنقل الحصول على مفاتيح تلك المعرفة، طرق أبواب العلم من خلال مقوماته الذاتية ككائن مفكر ليجعل من نتائج بحثه مفاتيح جديدة تمكنه من دخول أبواب المعرفة، وغزو آفاقها الواسعة، معززا مسلماته، كل حين، بما يزيده يقينا بقدرته على اختراق تلك الآفاق. وخلال هذا الخضم من الممارسة العاقلة، جاءت الصحافة لتمثل تلك العين الرقيبة في المجتمع المعاصر، ولتكون صورة للحياة، فتستنسخ أحداثها ومقوماتها الحاضرة، بل وتستخلص ما تستنبطه تلك الحياة، مستهدفة إطلاع هذا الإنسان على مجريات عصره، وحثه، من خلال استطلاعاتها، وآراء منظريها على استخلاص العبر لتقويم الممارسة وتعديل السلوك. وهكذا أمكن للصحافة أن تكون نسيجا حضاريا، تمده كل آليات المجتمع الإنساني الحديث بالوسائل المستحدثة لتقوية عموده الفقري، مما يزيد من تعزيز السلطة المعنوية للصحافة. وما دام للصحافة تلك المكانة، كان حريا بها أن تنتظم في سلك الواقع والموضوعية، تلف مشارطها شميلة أخلاقية فلا تنفرج عنها إلا حين تستهدفها سهام التسلط المرسلة من قوس صنع أساسا لنصرة اللامبالاة بالقيم والمبادئ المثلى. ولا يعني ذلك شن حرب على الطرف المعادي، ولكن فقط لاستخلاص الدم الخبيث بقصد إذاعة مرضه وإشهاره أمام المرضى أنفسهم. وبناء على ذلك الدور الذي تلعبه الصحافة، فقد ارتبطت نفسي بها فعانقتها زمانا، ثم حالت بينها وبيني ظروف ليبقى عشفها في نفسي، تلك إذا هي الصحافة. أما أن يأتي قوم ليجعلوا منها مقاولة تجارية، هدفهم الأسمى الربح المادي ولو على حساب قيم الأمة، وقيم الصحافة، وقيم الأخلاق العامة، ببذر بذرات ملعونة لا تنبث إلا الشك في المقدسات، والضعف في مرامي الأمة ومرجعياتها، من خلال شذوذ حضاري تغلب فيه النزعات الشخصية المؤطرة تأطيرا محكما من قبل أشخاص، أو هيئات لتسحب البساط من تحت الأقدام الطاهرة وتعوضها بشوك يصعب جرفه إذا ما نبت، فتحول الأنظار إليه غافلة عما سواه، لتعم، من ثم، الفتنة في الأخلاق والسلوك، عندما تكتمل تلك الصورة للصحافة في بلادنا، فلا كانت الصحافة، ولا كان الصحافيون، ولا كان هاوي الصحافة مثلي. امحمد الإدريسي