بين الوسع الصادق والوسع الكاذب إن للمعاني الشائعة بين الناس في مسمى الأشياء جناية عظيمة على الحقائق الشرعية. ومن ذلك مسمى "الوسع" الذي شاع في تداول الناس على غير حقيقته، إذ أصبح عنوانا للعجز والكسل وترك الواجب وفعل المحرم. والتقاعس في أداء الأعمال والواجبات الحياتية في واقع الناس. ويستشهد بالآية الكريمة في غير موضعها، قال صاحبي وهو يحاور أحدهم: إن الله جعل الصلاة كتابا موقوتا وأنت جالس لغير حاجة ولا عذر شرعي ولا تؤدي الصلاة لوقتها. فأجاب: >لا يكلف الله نفسا إلا وسعها<، وآما الآخر فقد ندب نفسه لعمل جمعوي، وفي نشاط من أنشطة الجمعية لم ينجح لضعف الأخذ بأسباب النجاح خاطبه صاحبه معاتبا على التقصير الواضح فقال: لقد بدلت ما أستطيع وبرر تقاعسه بقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها). قلت لصاحبي إن المعاني الشائعة إذا غلبت على الحقائق الشرعية وقع الفساد في الأرض، إذ السلوك الإنساني وليد التصورات الفاسدة، والوسع كما أراده المشروع جاء بعبارات مختلفة ومتنوعة في آي الذكر الحكيم وفي السنة المبنية لكلام رب العالمين. ولا يستقيم المعنى مع الحقائق إلا أن يستقيم الفهم لشرع الله على مراد الله منه، ومما يعين على ذلك معرفة أسباب النزول. ولقد بين جلال الدين السيوطي في معرض حديثه عن أسباب النزول (1) فوائد هذا العلم ومنها: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، والوقوف على المعنى وإزالة الإشكال. أورد الإمام مسلم في صحيحه (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله ما في السماوات وما في الأرض، وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير). قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها، قال رسول الله: >أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير< قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في أثرها: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمومنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) البقرة 285. فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) قال: نعم (ربنا لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) قال: نعم (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) قال: نعم (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) قال: نعم< الحديث. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس معناه وقال: (قد فعلت، قد فعلت)، بدل "نعم" (3) قال ابن كثير في معنى الآية (4) "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" (أي لا يكلف أحدا فوق طاقته وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة في قوله (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) أي هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه أما ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان). أما الإمام القرطبي فيقول في تفسير الآية: (التكليف: هو الأمر بما يشق عليه، وتكلفت الأمر تجشمته، حكاه الجوهري، والوسع: الطاقة والجدة... نص الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح ألا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر). إن وسوسة النفس أمر ملازم للعبد وقد توسوس له نفسه بالسوء والفحشاء والمنكر وهو كاره لذلك فيحمد على كرهه ذلك ولا يحاسب لأنه لا طاقة له بترك الوسوسة. أما من لبس عليه إبليس ففهم أن كل تكليف شرعي هو مما لا يطيقه ويبرر عجزه بأنه ليس في وسعه ومقدوره واستطاعته فعل ما أوجب الله ورسوله أو ترك ما نهى الله عنه ورسوله، فذلك محض افتراء على الآية الكريمة وهو من باب تلبيس إبليس على الإنسان حتى يظهر له الباطل في صورة الحق (وإنما يدخل إبليس على الناس كما قال عبد الرحمان ابن الجوزي بقدر ما يمكنه، ويزيد تمكنه ويقل على مقدار يقظتهم وغفلتهم وجهلهم وعلمهم) (6) فاعلم أن "المستطاع هو ما اعتاد الناس قدرتهم على أن يفعلوه إن توجهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع" (7) والموانع هي الأعذار الشرعية التي تقعد عن فعل الواجب أو ترك المحرم مثل من قعدوا عن الجهاد في غزوة تبوك فساواهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالمجاهد في الأجر والثواب. وذكر الله عز وجل أصحاب الضرر واستثناهم من القاعدين فقال سبحانه: (لا يستوي القاعدون من المومنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، درجات منه ومغفرة، ورحمة وكان الله غفورا رحيما) النساء 95 96. (فالله تعالى نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز، ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز، بل يقال: دليل الخطاب يقضتي مساواته به...) (8) ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك: (إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، قالوا وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة، حسبهم العذر) رواه البخاري. قال صاحب الفتح ابن حجر العسقلاني: >وفيه أن المرء يبلغ بنية أجر العامل إذا منعه العذر عن العمل). فانظر إلى مال هذا الذي يتحرق قلبه وتفيض عيناه أن منعه العذر القاهر من أداء واجب الجهاد فنال أجر المجاهد وهو قاعد معذور، وانظر إلى من لم يحل بينه وبين العامل الجاد المثمر إلا أهواء النفس والعجز والكسل والتقاعس وضعف الإحساس بعظيم المسؤولية. إن الاستطاعة والوسع الصادق وبدل الجهد الممكن المقدور عليه هو بناء وجب الاجتهاد في اتمامه، وكلما أحس المومن أنه لم يبدل الوسع إلا وعاد إلى نفسه يذكرها بأن يومه وجب أن يكون أفضل من أمسه وغده وجب أن يكون أفضل من يومه، حتى يكون حاله مع الوسع في ازدياد وعزم لا في تناقص وتراخي. وكل من استفرغ الوسع نال الثواب. والثواب حافز من حوافز بدل الوسع. وحافز آخر هو أن يحس أن التكاليف داخلة في طوقة كما يقول سيد قطب في تفسيره في ظلال القرءان ولو لم تكن داخلة في طوقة ما كتبها الله عليه، فإذا ضعف مرة أو ثقل العبء عليه، أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء! واستجاش عزيمته ونفض الضعف عن نفسه وهم همة جديدة للوفاء، مادام داخلا في مقدوره! وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق (9) ارفع همتك يا من أحس بالضعف وعاود الكرة إلى السمو واشحذ عزيمتك، واعلم أنه من أراد المعالي سهر الليالي وخالف الهوى وجعل أكبر همه رضى الله ونيل الدرجات العلى من الجنة، والإرادة العازمة بها فرق الله بين أهل الجنة وأهل النار فقال سبحانه: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مومن فأولئك كان سعيهم مشكورا) الإسراء 18 19. السعي المشكور هو ما بدل فيه الوسع المقدور عليه والسعي المذموم هو من تمنى صاحبه على الله الأماني وعجز بإرادته عن السير إلى الأفضل والأحسن، فكانت له فترة مهلكة كما في الحديث: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >لكل عمل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك) الترمذي. فإذا فترت وضعفت وانكسرت وقصرت فلا تكن فترتك إلى خارج السنة أو بعيدا عنها، بل يجب إن تلزمك السنة حتى في حال الضعف والتقصير، ومن خرج عن السنة حين ضعفه بعد شدة فقد هلك. فاللهم ارزقنا صدق الوسع وبدل الجهد والازدياد في الخير والمجاهدة وباعد بيننا وبين الوسع الكاذب فإنك لا تكلف نفسا إلا وسعها واغفر لنا تقصيرنا. 1 الإتقان في علوم القرآن: ج 1 ص 82 وما بعدها (بتصرف) 2 صحيح مسلم كتاب التفسير باب في قوله تعالى: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه...) 3 صحيح مسلم، كتاب الإيمان 4 تفسير ابن كثير ج 1 ص 343 5 الجامع لأحكام القرآن ج 3 ص 429 6 تلبيس إبليس في معنى التلبيس ص 38 7 تفسير التحرير والتنوير محمد الطاهر بن عاشور ج 3 ص 135 8 الفتاوى ابن تيمية ج 10 ص 409 9 في ظلال القرءان سيد قطب ج 1 ص 344 345 ذ. عبد الجليل الجاسني