بعد الحديث عن مبرر هذه المادة العلمية، والحديث عن حقيقة الاجتهاد وأنواعه وحكمه، وكذا الاجتهاد بين الاستمرارية والانقطاع، والحديث عن مجال الاجتهاد، شرعنا في الحديث عن شروط الاجتهاد وبدأنا بتعريف المجتهد ومراتب المجتهدين، ثم تحدثنا عن شروط المجتهد بخصوص الجانب العلمي المتعلق بالأصول الكبرى من كتاب الله عز وجل، ثم تناولنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا ما يتعلق بالإجماع وشروط الفهم والاستنباط، والتي بدأناها بالعلم بالعربية، والحديث عن شرط العلم بأصول الفقه والعلم بمقاصد الشريعة. والحلقة الماضية تحدثنا عن شرط تنزيل الحكم على الوقائع، والمتمثل في معرفة الناس والحياة، وفيما يلي شروط أخرى مكملة في الفهم والاستنباط كالفطنة والذكاء ومعرفة الفروع الفقهية وغيرها، ونتناول أيضا شروط المجتهد بين المثالية والواقعية، وضمنها مسألة الاجتهاد بين الخطأ والصواب وتجزيء الاجتهاد.. شروط مكملة في الفهم والاستنباط يذكر العلماء بعض الشروط المفيدة في الفهم والاستنباط، ولعل مراعاة الشرطين الأخيرين: (المقاصد وأحوال الناس)، واللذين كانا محور الحلقتين الماضيتين، يحقق شيئا من ذلك. فهم يشترطون أن يكون المجتهد، جيد الفهم، نير البصيرة، سليم التقدير، ذا عقلية متهيئة لعلم استنباط الأحكام من الأدلة: أي على نصيب من الفطنة والذكاء وتوقد الذهن وجودة الملاحظة ورصانة الفكر وحضور البديهة، وعموما ما يسميه البعض ب فقه النفس، والذي لا يتأتى كسبه، فإن جبل على ذلك فهو المراد، و إلا فلا يتأتى تحصيله بحفظ الكتب(1). ومن المكملات التي ذكرها بعض الأصوليين: معرفة الفروع الفقهية، باعتبار أن منصب الاجتهاد يحصل كما يقول الغزالي في زماننا بممارسته، فهو طريق تحصيل الدربة في هذا الزمان.(2) . الشروط الشخصية أولا:البلوغ والعقل باعتبارهما مناطا للتكليف ومن لا يستقل بالنظر في مصالحه كيف ينظر في مصالح الخلق. ثانيا: الإسلام فلا يعقل اجتهاد الكافر للمسلمين. ثالثا: العدالة والتقوى:وهي شرط لقبول اجتهاد المجتهد وفتواه عند المسلمين، فإذا كانت العدالة مطلوبة فيمن يشهد على الناس في معاملات دنيوية جزئية، فكيف بالذي يشهد على الله عز وجل أنه أحل أو حرم أو أوجب أو رخص أو صحح أو أبطل، فالمطلوب من المجتهد تجنب جميع المعاصي القادحة في العدالة، وأن يتحرى الإخلاص وسلامة المسلك والعفة والورع وقول الحق والجرأة فيه. نقل ابن القيم عن الإمام أحمد أنه قال: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:أولها أن يكون له نية ،فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور، والثانية:أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، والثالثة أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته، والرابعة :الكفاية (أي من العيش) و إلا مضغه الناس، والخامسة :معرفة الناس(3). وأما أهل الفسق والعصيان فقلما يوفقون إلى صواب، لأن الوحي لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي إلا القلوب الطاهرة(4). المجتهد بين المثالية والواقعية المجتهد ومسألة الخطأ والصواب: وقع خلاف عريض في التصويب والتخطئة في الاجتهاد في المسائل الفرعية بين المصوبة، الذين يقولون بأن كل مجتهد مصيب في اجتهاده، والمخطئة الذين يقولون إن المصيب في اجتهاده واحد من المجتهدين، وغيره مخطئ لأن الحق لا يتعدد. وأجمعوا على أن المصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد لتحريه الصواب وطلبه إياه، شرط توفره على الشروط المعتبرة للاجتهاد وبذله الوسع. وفصل البعض القول فذكر أن الوقائع الشرعية خمسة أقسام: ما فيه نص صريح فالمصيب فيه واحد. ما لا نص فيه، ولكن يدل النص عليه، ومهما تعين المطلوب كان مصيبه واحد. ما لم يتعرض له الشرع، وللخلق فيه مصلحة، فالمصيب ما كان أصلح للعباد. ما ليس للشرع فيه حكم معين، والآراء فيه متكافئة ومتساوية في الصلاح، فكل مجتهد مصيب، مثل: اختلاف قسمة العطاء زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. إذا كانت المسألة تدور بين نصين متعارضين، فحكم الله فيه الأصلح إن كان معقول المعنى، أو الأخذ بالأشبه إذا لم يكن معقول المعنى، وإذا تساويا فكل واحد من القولين صواب.فإن المباحات كلها إنما سوى الشرع بين فعلها وتركها لتساويهما عنده في صلاح الخلق، وكذلك سائر أحكام السياسات وجميع مسائل تقابل الأصلين يكاد يكون من هذا الجنس إذ قلما يكون فيها ترجيح(5). فائدة الخلاف بين المصوبة والمخطئة: وفائدة الخلاف بين المصوبة والمخطئة، هو أن هذا الخلاف على المستوى النظري، يمكن أن يتحول على المستوى العملي والفعلي إلى تضافر الجهود لترشيد الاجتهاد في الفهم فيؤدي رأي المخطئة إلى المزيد من أسباب الحيطة وإفراغ الوسع في النظر لعدم السقوط في الإثم، ويؤدي رأي المصوبة إلى رفع التهيب من الاجتهاد في الفهم والاستنباط.. وربما يكون هذا الموقف الأخير أجدى من الناحية العملية في تطوير مجال الاجتهاد، والملاحظ أن فكرة التصويب كانت أكثر رواجا عند الأقدم زمنا وفكرة التخطئة راجت عند المتأخرين، لأنها أكثر تلاؤما في طبيعتها مع التقليد(6). المجتهد ومسألة تجزيء الاجتهاد: قال ابن رشد بعد ذكر الشروط الواجبة في حق المجتهد وهذه الشرائط بالجملة إنما هي في حق المجتهد بإطلاق، الذي تمكنه الفتوى في كل نازلة ،وأما من لم تكن عنده كل هذه الشرائط، وكان عنده بعضها ،وكانت المسألة المنظور فيها يكفي فيها ما عنده من تلك الشرائط، جاز له الاجتهاد فيها، لأن نسبته إلى هذه المسألة نسبة المجتهد بإطلاق لجميع المسائل(7). ويستفاد من النص أن ابن رشد من القائلين بأن الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام، إذ يمكن أن يكون المجتهد مجتهدا في نوع من العلم مقلدا في غيره، ويمكن أن يكون مجتهدا في باب من أبواب الفقه كالفرائض مثلا أو البيوع، مقلدا في غيرها. وهو مذهب جمهور الأصوليين بخلاف قلة منهم ذهبوا إلى عدم جواز ذلك لأن المسألة في نوع من الفقه ربما كان أصلها في نوع آخر منه(8). والراجح قول الجمهور مع الاحتياط للأمر بتوفر القدر الضروري من شروط الاجتهاد أو بالأحرى ما يكفي في المسألة موضع البحث، بحيث يتم استفراغ الوسع في دراسة المسألة دراسة مستوعبة يحيط بها الفقيه من جميع جوانبها ومعرفة متعلقاتها في الأبواب الأخرى. وهو المناسب في مثل ظروفنا الحاضرة، حيث فتور الهمم وتشعب العلوم، بل هو النافذة التي استطاع بها العلماء تخفيف غلواء ادعاء الكثيرين من المقلدة سد باب الاجتهاد، نزولا تحت عامل الضرورة أو الحاجة التي تصادف العلماء في كل زمان للإفتاء في حكم الحوادث المستجدة.. كما أن تجزؤ الاجتهاد يشبه ما عرفه عصرنا من أنواع التخصص الدقيق، الذي تتقدم به العلوم فنجد مثلا في القانون مختصين في الجانب المدني والجنائي والإداري أو الدولي وكذلك الشأن في مختلف العلوم. ومما يناسب واقعية الإسلام أمام ندرة المجددين الكبار الجامعين لشروط الاجتهاد المطلق، قبول ثمرات الاجتهاد الجزئي القائم على أسس علمية ومنهجية سليمة.ولعل في بعض أطروحات الدراسات الجامعية العليا، لونا من هذا الاجتهاد الجزئي، بحيث يقصد فيها دراسة موضوع أو قضية معينة، واستيعابها من كل جوانبها وبيان الحكم فيها وكثيرا ما تؤدي إلى نتائج علمية لها قيمتها عند أهل الذكر(9). وفي إمكان المتخصصين من مختلف العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية المتمكنين، دراسة ما يتعلق بتخصصهم في الفقه الإسلامي والمصادر الإسلامية دراسة مستوعبة والخروج باجتهادات في تلك المجالات..ولا يمكن النجاح بشكل أكبر إلا بإزالة هذه الثنائية بين كليات الشريعة والدراسات الإسلامية من جهة والكليات القانونية والاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى وذلك بأسلمة هذه العلوم وتفريع الفقه الإسلامي إلى تخصصات تتعمق في الجانب الشرعي والإنتاج البشري على السواء، حتى نخرج من أزمة أبرز معالمها وجود من يفهم الخطاب الإلهي، ولكن لديه قصور في إدراك آليات فهم الواقع. ووجود من يدرك آليات فهم الواقع ولكن يجهل دينه وشريعة ربه، ومنهم من لا يومن بالخطاب الإلهي أصلا أو لا يرى له دخلا مما هو فيه جاهلا بشموليته لكافة نواحي الحياة.. 1 الإمام الجويني البرهانج2/ص:.1330 2 المستصفى ج2/ص: .353 3 إعلام الموقعين ج4/.199 4 المرجع السابق ج1/.226 5 الزركشي البحر المحيط.ج /.303/301 6 عبد المجيد النجار في فقه التدينج1/.88 7 الضروري في أصول الفقه ص/.138 8 وهبة الزحيلي أصول الفقه الاسلاميج2/.175 9 يوسف القرضاوي الاجتهاد في الشريعة الإسلاميةص: .62