يخطئ ألف مرة من يَحْسَب أن إصلاح أوضاع التعليم أمْرٌ في حكم اختصاص فريق دون آخر لا يختلف اثنان في أن التعليم في البلاد العربية كافة بلَغَ حالاً من الاستنقاع تُنْذِرُ مجتمعاتنا بأَوْخَمْ العقابيل. مناهجُهُ متخلّفة، وبرامجُه فقيرة، ومضمونُه البيداغوجي والعلمي أجوف، ومؤسساتُه متهالكة، وجمهورُ المتعلمين فيه ضعيفُ التكوينُ، وخرّيجُوهُ في حالٍ من الضياع، والقائمون على أمْرِهِ لا مبالون! والنتيجة؟ أفقٌ مسدودٌ أمام التقدم، ومواردُ بشرية ومادية في حالةِ هَدْر، وغد» اجتماعيّ» وثقافيٌّ مكْفهرُّ الوجه ! لا بأس من تحديد أدقّ يحرّر نظرتنا من ثْقل لغة التعميم. حصّة التعليم الرسمي، الذي ترعاه الدولة وتنفق عليه من المال العام أسوأ في ميزان الخسائر العامة التي تعصف بهذا القطاع منذ عقد الثمانينيات. ولقد وَطَن في أذهان الناس أن المدارس الحكومية لم تعد مكانا مناسبا كي ترسل العائلاتُ أبناءَها للتعلّم والتكوين، فبات من يستطيع أن يكون في غنَاء عن خِدمتها لا يتردد في إرسال أبنائه إلى مدارس خاصة على مايرتّبه عليه ذلك من نفقات مادية مرهقة بسبب ارتفاع أقساط الدراسة فيها. رسخت عن هذا التعليم صورة، تكاد تصبح نمطية، مفادها أنه حيّزٌ لقضاء الفراغ والتمرين على الضياع واليأس. ولم يكن في الصورة كبيرُ مبالغة لأن حال التعليم الرسمي ومؤسساته ليست بعيدة تماما عن هذا التمثُّل الجماعي، ولأن الذين يطلقون في حقّه هذه الأحكام آباء وأولياء يقيسون أداءه بما تَحَصَّلوهُ من نتائج في أبنائهم، ويقيسون الفارق بين المدرسة في عهدهم والمدرسة في عهود أبنائهم وأحفادهم ويتحَسَّرون. ولكن، من قال إن التعليم الخاص أفضلُ حالاً وأجزل فائدةً وثماراً من التعليم الرسمي؟! ثم من يدري إلا كان الكثير ممّا يُقْذف به التعليم الرسمي من أوصافٍ بالتردّي وضعف المردودية والإفلاس إنما هو مصروف لصرف الناس عنه ودفعهم دفعا إلى التعليم الخاصّ؟ أو للدقة- من يَضمن أن لا يكون للقائمين على التعليم الخاص، مستثمرين ومستفيدين، مكانٌ ما في معركةٍ مع التعليم الرسمي يفتحها عليه من هُم حريصون على سوائِهِ وعافيته واستقامة أدواره، ومن يراهنون على مزيدٍ من تفسُّخه وتعفُّن أوضاعه بغرض مَحْوه ووراثته؟. وإذا كانت معركةُ الأوّلين إنما هي لإصلاح ما فَسُد، فإن معركة الآخرين إنما لقطع الطريق على الإصلاح. وسبيلهم إلى تلك الغاية إنما هو أن يُشيعُوا في الناس في المجتمع والدولة- أن حال التعليم تَعُد تَقْبَل معه إصلاحات. وتكفينا الدعوات المتباكية على موارد الدولة «المهدورة» في قطاع التعليم وحاجة البلاد والعباد للتنمية إليها (وكأن التعليم ليس من مداميك التنمية وعناصرها ومواردها !)، والتحريض المتعدد الصيغ والمفردات على سياسة الإنفاق الحكومي على هذا القطاع. ففي هذه الدعوات، والجهات التي عنها تصدر، فائض الأدلة على أن المعركة ضد التعليم الرسمي ليست دائما – على تعفُّنه – نظيفة الوازع والمَقْصِد، ولا هي دائما على تطوير التعليم حريصة. ونحن لا نتزيَّد إن قلنا إن أوضاع التعليم الخاص وإنتاجيَّته ليست على مثال ما يريد القائمون به، والقائمون عليه، أن يصوّروها ويروّجون صورتها في الناس حتى لا نقول إنها لا تختلف كثيرا عن أوضاع التعليم الرسمي في الملامح وإن اختلفت في القَسَمات. وإن توخّيْنا الدقة في المضاهاة قلنا إن في التعليم الخاص مَزِيَّاتٌ لا تتوفر في التعليم الرسمي أو لم تعُد تتوفر فيه، وفي قلبها حُسْن الإدارة والمراقبة. وما هذا بأمْرٍ قليل الشأن، لكنه ليس يكفي وحدُه كي ينتج تعليماً فعَّالاً ومميَّزاً. فالفوارقُ بين الطواقم المكونة أو التعليمية ( المعلمين والأساتذة) تكاد لا تُلْحَظ، دعْك من أن التعليم الخاص يستفيد كثيراً من قوة العمل المهنية العاملة في المدارس الحكومية. والبرامج المدرسية هي عينُها أو تكاد. ولمَّا كانت الأمورُ تُقَاس داْئما بنتائجها، فإن الأرقام والمعطيات تقول إن نسبة النجاح في القطاعين متقاربة. والأهم من ذلك أن مستوى التأهيل العلمي – كما يُلَحظ في الجامعات عند الالتحاق بها – هو نفسُه لدى المتخرجين من مدارس المال العام ومدارس الرأسمال. فلماذا كل هذا الضجيج عن «الفرادة» و»التميُّزّ؟ نحن، إذن، أمام نظامٍ تعليمي يعاني من قصور حادّ في الأداء وعجْزٍ فادحٍ في الإنتاجية. يستوي في ذلك الرسميُّ والخاصُّ من قطاعاته، وما بينهما لا يعدو أن يكون – في هذه الحال – فَرْقَ عُمْلة. وإذا كان لا بد من دقّ ناقوس الخطر للتحذير من المآلات الكارثية التي تتدحرج إليها أوضاعنا التعليمية، فَحريٌّ بنا أن ندقَّه في ساحات المدارس الحكومية والخاصة معا وأن لا نوفّر من المحاسبة قطاعا من القطاعيْن تحت أيّ عنوان. فإذا كانت الدولة تنفق على التعليم الرسمي من المال العام (أي مال الشعب)، فلا ينبغي أن يُتَّخذ ذلك تَكِئََةً للقول إنه أولى بالمحاسبة من غيره، ذلك أن الشعبَ نفسه يُنِْفِق من ماله لتعليم الأبناء في مدارس القطاع الخاص، فحقَّ له – إذن – أن يحاسب ذلك التعليم على خِدمة مؤدى عنها وليست مسدادة «لوجه الله». لابد للمحاسبة من وازعٍ يَحْمل عليها ويبررها، وهو في الحالة التي نحن بصددها الإصلاح، وإلا سلكت دروبا أخرى غير معنية ببناء المستقبل. وتفترض المحاسبةُ ابتداء، وفي شأن عظيم الخطر كهذا الذي نتحدث فيه، أن نسلم بمسؤولية الجميع – دولةَ وقطاعا خاصَاَ ومجتمعاَ وأهالي ومدرّسين – في الوصول بالتعليم إلى هذه المآلات المأساوية. فليس في المشهد أبرياء ومتهمون، ملائكة وشياطين، ضحايا وجُناة . الجميع أمام المسؤولية وإن تفاوتَت المقادير: السياسة التعليمية، البرامج المدرسية، منطق الاستثمار وإغراءات الرّبح، الفساد الإداري الممتد إلى المؤسسات المدرسية، تأهيل الأطر المدرّسة، الضمير المِهنيّ ،ضعف الرقابة المدرسية والأسرية، نظام التلقين، نظام الامتحانات... الخ. وما لم يكن في الوسع النظر بعين الجمع والتأليف بين هذه العوامل كافة، فلن يكون في الوُسْع الذهابُ إلى مقاربة شاملة لهذا الإعضال الذي يَفْتِك بالمستقبل. ويخطئ ألف مرة من يَحْسَب أن إصلاح أوضاع التعليم أمْرٌ في حكم اختصاص فريق دون آخر، أو أن في المُكْنِ تحقيقُه بإجراءات وقرارات فوقية من موظفين بيروقراطيين كبار، أو أن يدعيه لنفسه حزبٌ في السلطة أو ائتلاف أحزابٍ «حاكم» أو جهازٌ وصيّ أو ما شابه. إنه غير ممكن ولا متاح إلاّ من طريق حوار وطني عميق وصادق يشارك فيه المعنيُّون جميعا بهذا الأمر. وحوار المعنيّين يختلف عن حوار المُحَاصَصَة السياسية (الكوطا) من دون أن يلغي تمثيل القوى السياسية والنقابية بحجم يناسب نوع العلاقة بالموضوع ولا يفرض جدول أعمال سياسيّ على قضية يكون فيها للكفاءات وأهل الاختصاص في المقام الأول.