غابت مصطلحات كثيرة ومهمة عن حياتنا السياسية والاجتماعية ، ولم تستخدم بمعناها الأصلي والجوهري ، وإنما اكتسبت معاني جديدة وتحولت إلى وجهات نظر ، والرأي الآخر ، بعد ما كانت حاسمة قاسمة.ومن بين هذه المصطلحات ، مصطلح الخيانة ، وهو الإنسان الذي يخون الأمانة ، والأمانة إما مال أو أرض أو وطن أو عهدة أو سر أو أي أمر يؤتمن عليه الإنسان. وقد غاب هذا المصطلح أو تم تغييبه نتيجة للمتغيرات السياسية ، أو (الهزائم) السياسية على وجه أدق.في السابق ، كان كل من يتعامل مع العدو الصهيوني ، بالاتصال أو اللقاء ، أو تزويد المعلومات ، أو الحديث معه في وسيلة إعلامية ، يعتبر خائنا ، وقد تحاكمه معظم الجهات بتهمة التخابر مع العدو. أما الآن فإن الاتصال بالعدو أصبح مفاوضات ، واللقاء به للتشاور وتبادل الآراء بشأن العملية السلمية ، أو فتح المعابر ، أو التهدئة ، أو الهدنة ، أو تحويل أموال الضرائب أو الجمارك ، أو إطلاق الأسرى وغيره ، ولا ضرر أن يكون اللقاء حول مائدة غداء ، ولا ضرر أيضا إن شاع في الجلسة جو من الود وإطلاق النكات والتقاط الصور التذكارية ، ولا ضرر كذلك إن تم تبادل القبلات والأحضان. أما الحديث معه في الوسائل الإعلامية فبات من قبيل الاستماع إلى الرأي الآخر ، وأخذ الأخبار من مصادرها ، أما التخابر معه وتزويده بالمعلومات ، فبات يفسر على أنه يتم تحت الضغط والتهديد ، أو من أجل لقمة العيش ، أو حتى يأمن شره ، ولا ضرر في هذا السياق وفي تنفيذ المهمة ، أن يتم رصد (المقاومين وقادتهم) وإن تم قتلهم فهم شهداء ، وإن تم أسرهم فهم مناضلون أسرى ، إلى غير ذلك من التفسيرات (والاجتهادات).وفي السابق أيضا ، كانت تحدث انقلابات بوساطة الأحزاب المعارضة ، فتطيح بما يسمى الدكتاتور أو الطاغية أو المستبد ، وتحل مكانه سلطة تصبح مع مرور الزمن ، طاغية ودكتاتورية ومستبدة في منظور الأحزاب الأخرى ، وهكذا ، ينقلب المستبد على المستبد ، والضحية هم المتفرجون من أفراد الشعب. أما الآن فقد تحولت أشكال وأساليب الانقلابات ، فصارت المعارضة تلجأ إلى الخارج ، وتتلقى الدعم من دول عدوة ، ثم تأتي إلى السلطة على دبابات ذاك العدو ، فتعيث في الوطن فسادا ، وتحرق وتقتل وتدمر بلادها ، وتضرب بنيتها التحتية ، وتأسر وتعتقل وتملأ السجون بالأبرياء ، وتسمي نفسها حكومات وطنية ثأرت من الطاغية والمستبد ، ثم تبدأ هي في نهب خيرات البلاد ، وتشيع الأمية ، وتقسم البلاد ، وتزيد من النعرات الطائفية.أما في الدول الضعيفة ، التي لا تمتلك جيشا قويا ، ولا حكومة قوية ، فتحولت الأحزاب إلى أنظمة داخل أنظمة ، لها ميليشياتها وقواتها الضاربة ، ومؤسساتها الاجتماعية والصحية والتعليمية ، وتدين بالولاء إلى جهة خارجية ، وتتلقى مئات الملايين من الدولارات جهارا وأمام الخلق أجمعين ، وتدين بالولاء للمرجعية في تلك الجهة ، وتأخذ أوامرها وسياساتها واستراتيجياتها من هناك ، ثم تتحدث بالوطنية والدين والقومية والعروبة ومناهضة العدو. ولا ندري ، هل نسمي هذا السلوك خيانة ، بناء على أن الخيانة هي التخابر مع جهات أجنبية ، أي غير وطنية ، أم نعتبرها انقلابا على الدولة؟ هذه الأحزاب لها وجهة نظر ، تفندها وتحللها وتبررها وتقدمها على طبق من الوطنية والتضحية والإخلاص.البعض لم يعد يعترف بمصطلح الخيانة لأنه يسعى إلى الحصول على الحقوق المشروعة لأبناء شعبه ، أو أنه يسعى إلى إعادة الكرامة لأبناء طائفته المسحوقين المستضعفين ، أو يسعى إلى الحفاظ على كرسي الحكم ، أو يحافظ على تجارته المترامية الأطراف ، أو يقود التنمية إلى الأفضل ، وبذلك ، تكون الخيانة أصبحت مثل الحرباء ، تغير لونها وفق البيئة والمعطيات ، ولكن ، أمام هذا التلون ، تقع الخسارات والأثمان الباهظة ، فالخيانة وإن غاب مصطلحها تبقى خيانة ، ونشر التوتر والأزمات في الوطن يبقى خيانة ، والحصول على أموال من جهة خارجية يبقى خيانة ، والاختلاس خيانة.الخيانة مثل السرقة ، فالسارق ليس من يمد يده وبشكل مباشر ليحطم أبواب البيوت ويستولي على ما زاد ثمنه وخف حمله ، السارق هو من يأكل حقوق الناس ، ومن يستولي على أموال الناس بطرق ، وإن بدت شرعية ، إلا أنها ليست كذلك ، والخيانة أيضا حساسة إلى درجة أن كل من يفكر في التعامل مع العدو يصبح خائنا ، لأن الفكرة قد تتم ترجمتها على أرض الواقع ، والفكرة تعكس نفسا ضعيفة قابلة ومستعدة لبيع الوطن بما ويمن فيه.طبعا هنالك مصطلحات لا تقل خطورة عن الخيانة اختفت أو تم إخفاؤها ، مثل مصطلح الرجعية ، وهو الإنسان الذي يميل للتعامل مع الجهات الظالمة والقريبة من العدو ، أمريكا وأوروبا والغرب كله ، كان كل من يتعامل معه رجعيا ، وعلى المستوى الاجتماعي ، فإن كل من يقف أمام التطور ويتمسك بالتقاليد البالية ، التي لا هي من صلب الدين ولا من أصل الشريعة ، ولا من القيم ، يسمى رجعيا ، أما اليوم ، فيسمى محافظا ، أو متطرفا ، أو متشددا.إن تهاوي المصطلحات يدل على تهاوي السياسات ، وانهيار القيم الوطنية يدل على انهيار المنظومة الوطنية ، ومحاولات الاجتهاد ما هي إلا لتبرير الفعل الرديء ، والموقف الأكثر رداءة.إن التغيير في موازين القوى يجب ألا يقود إلى الخيانة ، والهزيمة في المعركة لا تقود إلى الخيانة ، وشح الأموال والفقر والضغوط النفسية لا تقود إلى الخيانة ، فلماذا يستشري هذا المصطلح في النفوس بينما يختفي من الأدبيات ، كما يختفي من المحاكم؟هنالك وجهة نظر في تغييب الخيانة وتهمتها عن المحاكم ، لأنها لو بقيت واستخدمت ، ووجهت التهم بالخيانة إلى كل من يتعامل مع العدو ، أو يتحاور معه ، أو يتلقى أموالا منه ، أو يزوده بالمعلومات ، فإن المحاكم ستزدحم بمئات الآلاف من الشخصيات الكبيرة والصغيرة ، بل من عامة الناس ، ولهذا ، تغيب مفردة أو مصطلح الخيانة ، أليس هذا وجهة نظر؟ ربما.-- سليم حجار