مغرب بدون نصب تذكاري في هذا المغرب الجميل بجباله العالية وشطآنه الشاسعة ورماله التي تلمع في كل الفصول، في هذا المغرب الذي يرفع شعار الأصالة والمعاصرة طبعا قبل أن يخرج للناس نبي الجرّارين- والذي يجمع الحضارة القادمة من الشرق بالحضارة الممتدة من عهد الأمازيغ وما قبل الأمازيغ، في هذا المغرب المتعدد والمتنوع، مغرب الثقافة والفنون لا يوجد تمثال واحد لشاعر أو فنان أو زعيم وطني، كأنما هذه الأرض عاقر لم تلد شخصا عظيما منذ أن انقرضت الديناصورات.لا أعرف لماذا لا يوجد نصب تذكاري واحد في هذا المغرب لعلم من أعلامه كأنما هناك من يريد أن يقنع التاريخ ألا وجود هنا لعبقري دبّ على هذا المغرب 'الأقسى'. لا أعرف أيضا إن كان مثل هذا السؤال قد تبادر إلى أذهان السادة الذين تعاقبوا على وزارة الثقافة في المغرب، والسادة الذين تعاقبوا على الهيئات الثقافية الكبرى في هذا البلد كالجامعات والمعاهد واتحاد الكتاب وبيت الشعر.كأن أحدا ما في سماء هذا الوطن يريد أن يمحو أثر النجوم التي لمعت فيه والتي أضاءت ظلامه، كأن أحدا ما لا يريد أن يخلّد صنّاع الجمال في هذا المغرب، ويريد بالمقابل أن نحفظ عن ظهر عنف أسماء المخرّبين واللصوص الكبار ومصاصي الدماء.كأن أحدا ما يريد، وهو يغض الطرف عن الكبار الحقيقيين، أن يحفظ الوهم ويرفع من شأنه عاليا، ويقنع السابلة أن الفحم مرمر، وأن المرمر مجرد فحم احترق.ليس هناك تمثال في هذا المغرب الثقافي لشاعر أو كاتب أو عالم أو رياضي أو وطني حقيقي، طبعا لا أقصد أولئك الوطنيين الذين آمنّا بهم في طفولتنا وأحببناهم بسذاجة، وحين كبرنا اكتشفنا أنهم كانوا جلاّدين.الغريب في الأمر أن مجموعة من علماء هذا الكون اكتشفوا قبل عشر سنوات أن أقدم تمثال في العالم نحتته اليد البشرية قبل 400 ألف سنة يوجد بالمغرب، كان تمثالا صغيرا بالضفة الشمالية لوادي درعة على مقربة من طانطان.يعود هذا التمثال إلى الحقبة الأشولية التي استمرت حوالي 200 ألف عام، وقد زاد هذا الحدث من حدة النقاش المفتوح حول تاريخ اكتشاف الإنسان للرمزية. المغرب الذي نحت فيه أول تمثال في العالم قبل أربعمئة ألف سنة هو المغرب الذي لا يوجد فيه الآن تمثال واحد في ساحة عامة لرجل واحد من الشعب.ونحن لا نعرف إن كان فقهاء المغرب أو ساسته هم الذين يقفون وراء هذه الحكاية، لكننا كنا نلمح في تسعينيات القرن الماضي تمثالا برونزيا للمخرج الأمريكي أورسن وايلز في قلب مدينة الصويرة، لا أعرف من جاء برأس صاحب 'المواطن كين' إلى هنا ولا أعرف أيضا من نكّل به فيما بعد، حيث لم نعد نرى له أثرا.في الجارة اسبانيا يوجد تمثال الشاعر لوركا، وفي الأرجنتين تمثال مغني التانغو كارلوس كارديل، وفي روسيا يوجد تمثال الشاعر ألكسندر بوشكين وفي ألمانيا يوجد تمثال الشاعر شيلر، وفي المجر يانوش أران، وفي البرتغال فرناندو بيسوا، وفي فرنسا لامارتين، وفي مصر العربية المسلمة يوجد تمثال الأديب طه حسين والفنانة أم كلثوم والسياسي طلعت حرب، بل إن الإيطاليين خلدوا الشاعر المصري أحمد شوقي حين نصبوا له تمثالا في إحدى حدائق العاصمة روما، بينما في المغرب لا يوجد شيء. هل نحن فعلا كتّاب أحرار؟سؤال صعب جدا، مقلق ومضجر، ويبعث على الشك في كل شيء، هل نحن فعلا في هذا المغرب كتّاب أحرار؟ هل نكتب كل شيء عن كل شيء؟ هل ننتقد ما نريد دون خوف من أحد؟ وهل بإمكاننا أن نشير لكل مرض في هذا المجتمع، وأن نشير للميكروبات والجراثيم التي تقف وراء هذا المرض؟ وهل بإمكان الكاتب أن يكتب مقالة صريحة ينتقد فيها كل شيء، حرا طليقا، غير خائف من تبعات ما يسميه الكثيرون 'خطوطا حمراء'، تلك الخطوط الوهمية التي تصير في مجتمعاتنا العربية عريضة جدا، وثقيلة جدا؟وهل بإمكان الشاعر أن يواجه السلطة عاريا وواضحا بدون استعارات وتورية؟ وهل بإمكان الروائي أن يضع المغرب مشرّحا في روايته ، شرط أن يضع الجسد كاملا دون أن ينتقص منه أي عضو؟ وهل بإمكان الصحافي أن ينتقد الفساد والفاسدين في مغرب الأمس واليوم دون أن يخاف من عواقب كلماته؟ هل يمكن لكتّاب الأعمدة الصحافية أن ينتقدوا القضاء دون أن يقضي عليهم؟ القضاء الذي صار مقدسا جديدا في بلدنا، مع أن جميع المغاربة يعرفون أن هذا القضاء قد أفسده المال الحرام والمكالمات الهاتفية وثقافة 'لي ما عندو سيده عندو لالاّه'، وثقافة أنت ابن من؟ وإلى أي عائلة تنتمي؟ وما قيمتك المادية داخل المغرب؟كل كاتب يكتب يغلّف الخوف كلماته، فقد تزج به جملة ما إلى الهاوية، وكل صحافي صار لزاما عليه أن 'يفلي' مقالته حتى لا يجود عليه القضاء ببضعة أشهر من السجن ويغرّمه عشرات الملايين. هل تغير الزمان، أم أن الزمان هو الزمان؟ هل صارت الحرية متنا أم أنها لا تزال مجرد هامش؟ إذ في بلداننا العجيبة فقط يوجد هذا المفهوم الغريب 'هامش الحرية'.السلطة هي السلطة كما حلّلها وشرّحها المفكرون منذ أزل هذه الكلمة، تريد السلطة دائما مثقفا يقول كلاما مبهما ويمضي، تحب شعراء الطلاسم وتكره الشعراء الذين يكتبون قصائد واضحة وصادمة، تكره المثقفين الذين تخلوا عن بلاغات الأسلاف وصاروا يبقرون بطن السلطة بكلام مباشر وعنيف، لا يهادن ولا يخفي جبنه خلف الاستعارات والمجازات.لا تنظر السلطة خصوصا في المجتمعات المتخلفة- إلى الفكر إلا حين يواجهها، ولا إلى الثقافة إلا حين يزعجها المثقفون، ولا إلى الصحافة إلا حين يعري الصحافيون عورتها، لأنها ضعيفة ومرتابة وترتجف مما قد يأتي.السلطة هي السلطة، قد تغير ملابسها حسب الموضة، وقد تغير 'اللوك'، وقد تغير حتى جلدها إذا اقتضت الضرورة السياسية، لكنها المرأة ذاتها، المريضة الأنانية الحرباء الشيطانة اللعوب، والجبانة أيضا.شاعر في البرلمان؟يبدو هذا الأمر غريبا، هل هناك فعلا شعراء البرلمان؟ وإذا كانوا فما وظيفتهم؟ قبل ثماني سنوات استحدث هذا المنصب في كندا، وقد تناوب عليه أربعة شعراء، آخرهم هو بيار دي رويسو البالغ من العمر ستة وثمانين عاما، ووظيفة هذا الشاعر الكيبكي الذي درس الفلسفة واشتغل بالصحافة والترجمة ستكون تنبيه الناس إلى أهمية الشعر وتعميق إيمانهم بجمال اللغة. وطبعا في بلد مثل كندا لن تكون هذه الوظيفة مجانية، فالشاعر سيتقاضى عن هذه المهمة راتبا سنويا يقدّر بعشرين ألف دولار، إضافة إلى تغطية مالية لكل سفرياته وتحركاته تصل إلى 13 ألف دولار في العام، وستكون من بين مهامه العناية بمكتبة البرلمان وإعداد نصوص شعرية في الأعياد والمناسبات العامة بكندا.في المغرب، أعتقد أننا لسنا بحاجة إلى شاعر برلمان، فمعظم البرلمانيين عندنا شعراء، ونحن نسمع مباشرة قصائدهم المنظومة على البحر الطويل جدا قبل وصولهم للبرلمان منمّقة ومدبّجة ومقفّاة، ثم نسمع فضائحهم وكوارثهم اللغوية على الأثير وعبر التلفزيون 'الوطني' بعد دخولهم تحت القبة.وبالنسبة لي لا تختلف قبة البرلمان المغربي كثيرا عن قبة الضريح، فقط موتى الأضرحة هادئون وودعاء، بينما الجثث في البرلمان تتحرك وترعد وتزبد وتصرخ في الميكروفون وتضرب بأطرافها على الكراسي والطاولات.ولنتخيل أن البرلمان المغربي اختار أحد الأدباء شاعرا رسميا له، فكيف سيكون؟ وما مواصفاته؟ طبعا لن يكون من شعراء قصيدة النثر، ولا حتى من أهل الشعر الحر، فهؤلاء غالبا ما يقلبون الطاولات على المدعوين، وقد يأتي أحدهم مخمورا ويقرأ قصيدة ماجنة في عيد وطني.سيكون شاعر البرلمان بالضرورة 'عموديا' فالدولة ترتاح لكل ما هو عمودي، وسيكون مكروها ومنبوذا من طرف البرلمانيين لأن مداخلته الشعرية ستكون تافهة وبدون فائدة، أما الوزراء فسيسمونه بأسماء عدة، وسينعتونه بنعوت لا حصر لها، سيسمونه الحطيئة، أو أبو الشمقمق، والوزراء الذين لا يعرفون شيئا عن اللغة العربية والأدب العربي والذين يخلطون بين الشعر والطرائف سيسمونه جحا. فقط الأطفال هم الذين سيجلسون أمام التلفزيون لمشاهدته، وسيستمتعون كثيرا بحركاته وبطريقة إلقائه لأشيائه، وسيفرحون بذلك لأنهم يحبون الكراكيز.أما في كندا حيث عيّن رئيس مجلس الشيوخ شاعرا جديدا للبرلمان فسيتم التعامل مع الأمر بجدية، فقط لأن الشاعر في مثل هذه البلدان يحظى بالاحترام وبالمحبة، ولا ينظر إليه بالتفكّه والاستهزاء والازدراء كما في بلادنا، أحيانا حين تقدم نفسك لرئيس برلمان أو رئيس مقاطعة أو رئيس غرفة فلاحية على أنك شاعر، ينظر إليك بتمعن ويتأكد في قرارة نفسه- أنك فعلا غبي. لماذا لسنا في حاجة إلى شاعر رسمي للبرلمان؟ لأن أهل السياسة في المغرب يعتقدون أيما اعتقاد أنهم جميعا شعراء وأدباء ومثقفون وعباقرة، ويكفي أن تجلس مع أغبى برلماني لتكتشف أنك في حضرة كونفوشيوس، فالحِكم تتشتت في الهواء والمنطق يجري على لسانه، ويمكن لأي رئيس جماعة أمي أو نائب نائم أو عمدة فاشل في مغربنا أن يقدم دروسا في التاريخ والفكر والأدب وعلم الفلك، وقد تابعنا كيف تحوّل مؤخرا بعض المغمورين في السياسة إلى فلاسفة ومفكّرين، أما الذين لا تاريخ لهم فقد صاروا مؤرخين، بل إن أي جاهل في هذا البلد الأمين يتحول فجأة وبقدرة قادر إلى أبيقور.انتخابات، أوف انتخاباتيبدو إميل سيوران، الفيلسوف الروماني الرهيب، حاسما في مسألة الدنوّ من عرش السلطة، فهو يقول في كتابه 'المياه كلها بلون الغرق' وبالتحديد في فصل بعنوان دوار التاريخ :(حين يشبع الطغاة شراستهم يتحولون إلى رجال طيبين، وكان يمكن أن تعود الأمور إلى نصابها لولا غيرة العبيد، ورغبتهم في إشباع شراستهم هم أيضا).يواصل سيوران الذي كان يرى أن الإنسان يسيل خرابا :( إن طموح الخروف إلى أن يتقمص دور الذئب هو باعث أغلب الأحداث، كل من ليس له ناب يحلم به، ويريد أن يفترس هو أيضا، وينجح في ذلك بواسطة حيوانية الكثرة).تشكل هذه القولة بالنسبة لي منظارا كبيرا يمكن من خلاله النظر إلى الغبار الذي أثارته هذه الأيام الثيران التي تركض في حلبة السباق الانتخابي، فكل من ليس له ناب يحلم به، ويريد أن يفترس هو أيضا، هكذا ترى الكثرة الكاثرة في بلدنا مفهوم العضوية في مجلس جماعة من جماعات المغرب.تحيل كلمة الناب في معظم التأويلات على اثنين لا ثالث لهما: الذئب أو الكلب، ومعظم الكائنات الانتخابية لا تذهب أبعد من حدود هذه الضيعة، إنها تقف بين فكرة الحراسة حراسة القطيع- التي تدور في ذهن الكلب وفكرة الافتراس التي تراود الذئب.امتلاك الناب هو حلم الكثيرين من مرضى السياسة، الرغبة في الحصول على موقع سلطة، مهما كان حجم هذه السلطة، الحلم بالتحكم في مصير الآخرين، حتى لو كان هذا الحلم وهما، الجشع والطمع في الحصول على نصيب من ثروة الفقراء، المرض المزمن بالتسلط والجلوس على كرسي من أجل تسيير وتدبير الشأن العام، الذي يتحول بالتدريج إلى شأن شخصي.يفكر المترشحون للانتخابات في النجاح والفوز بمقعد داخل المجلس، الحلم الوحيد للمترشح المغربي هو النجاح فقط، معظم المترشحين عميان، ولا يرون أبعد من النجاح، لا يفكرون في هذه السنوات الضوئية والمائية التي قضيناها في التخلف، لا يحلمون بتغيير التاريخ، وتحويل القمامة إلى حديقة.يؤكد المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه 'مفهوم الإيديولوجيا أن كل حزب سياسي لا يملك إيديولوجيا هو حزب انتهازي، وعليه فمعظم أحزاب المغرب اليوم انتهازية وتدافع عن انتهازيتها عبر تزكيتها لعدد هائل من المجرمين والمعتوهين والمحتالين لتولي أمر هذا الشعب، لم تعد الصراعات بين الأحزاب صراعات أفكار وتوجهات وانتماءات بقدر ما صارت صراع أموال ومصالح ونفوذ. لا يذهب الكثير من المغاربة إلى صناديق الاقتراع للتصويت على هذه الكائنات، لأن هؤلاء الكثيرين من المغاربة صاروا اليوم ينتمون بشكل أقوى إلى المغرب، ولم يعودوا من سكان المريخ بحيث كان أي مهرج وقح يلعب بمصائرهم طيلة نصف عقد من السنوات، وأحيانا طيلة نصف قرن. حين وضعت الصناديق على الطاولات، رأينا الهستريا، لم يكن الحدث عيدا أو حفلا كما هو الأمر في الدول التي تحترم أفكارها وتحترم وعدها بالقدر ذاته الذي تحترم موعوديها، في المدن وقعت الغرائب والعجائب، وفي القرى والبوادي تقع الكوارث، لن تتقدم هذه البلاد ما دامت أيام الانتخابات مقرونة بالرشاوى والحفلات السرية وإطعام المصوتين وإغرائهم بالوعود الكاذبة وشراء الذمم والافتراء على الناس وتلفيق التهم للخصوم، لن تخطو هذه البلاد نحو أحلامها ما دامت الأيام التي تأتي بعد الانتخابات أيام ولائم وشيخات وخيام وخيّالة، ونصف عقد آخر من النهب والاحتيال وإنهاك مالنا، المال الذي يتحول في مغرب القرن الواحد والعشرين في رمشة عين من مال عامّ إلى مال خاص. أما إميل سيوران - شجرة الرومان التي تفرعت أغصانها في فرنسا- فقد انشغل عن هؤلاء بأمور أخرى غير أنه وغير بعيد عن السياسة وأمراض السياسيين يقول في جملة تبدو عزاء جيدا لأولئك الذين فشلوا وخرجوا خاويي الأيادي والصناديق من هذه الانتخابات. كاتب وشاعر من المغرب