يستفيد رشيد نيني من ملكته وخياله الواسع ، وامتلاكه في مملكته الأدبية لغة جيدة ، خاصة وأنه خريج كلية الآداب و شعبة اللغة العربية ، لذلك استعمل التشبيه والمجاز فاستعار لفظة الناموس الحقيقة و الرمز لقوى الفساد والظلم في المغرب الأقسى . لم يذق طعم النوم خلال ضيافته ثلاثة أيام عند الفرقة ، ليس فقط من أثر جلسات الاستماع – ليس السماع الصوفي بل سماع التصريحات عند الفرقة البوليسية - ، بل بسبب لسعات الناموس ، لذلك – يقول نيني – عليه أن يصفي الناموس جسديا حتى ينام ، واستشهد بقولة لعلي عزت بيغوفيتش يقول فيها " لا تضيع وقتك في قتل البعوض ، جفف المستنقعات". إن الناموس الذي يريد بقاء المستنقعات و دوامها ، لأنه يعيش و يصطاد في الماء العكر ، يحتاج إلى حملات مدروسة من التطهير الشامل ، بطريقة علمية واستثنائية ، لكنها مع الأسف قد تصيب بعض أصحاب الحساسية و الضيقة في مقتل . لأنه لا يقضي على الناموس إلا أدوية كيماوية تستند لقوانين مرسومة ، وفق المقاييس الصحية الدولية ، تبيد الحشرات لكنها أيضا قد تبيد القصيبات الهوائية ، و تحرم أصحاب الصدور الضيقة من الأوكسيجين الضروري للحياة. فمن شأن الإصلاحات المنتظرة في القضاء والصحافة و فصل السلط ، و محاربة الريع في المغرب ، و استرداد الكرامة للمواطن المحقور المكلوم الفقير المريض ، أن تجمع الناموس القارص بكثرة ، لأن لسعاته المصاصة لدماء الشعب لن تنتهي إلا بموته أو اختفاءه الطوعي . كان ذلك أهم ما جاء في أول عمود لنيني من بعد " استراحة محارب" ، في أول عدد له من يومية "الأخبار" ، في يومياته المتسلسلة ، التي استصغرها بعض الصحفيين والنقاد ، وطالبوا بمستوى عال ومضامين أكثر التصاقا بيوميات النضال ضد الفساد والمفسدين في المغرب. حيث قال مثلا "كريم أمجون" في مقال له بأحد المواقع الإلكترونية المناضلة ضد الفساد بالمغرب " بالوصول إلى عمود "شوف تشوف"، حصان طروادة "هدهد سيدنا رشيد"، فأنا "ماشفت والو"، ففي الوقت الذي انتظرنا رشيد ليكتب عن تجربة السجن كثمن أداه مقابل "أ السبع فمك خانز "التي كان يجيدها، فضل الرجل بعد استراحة المحارب أن يحدثنا عن "فوبيا الناموس"". وأضاف كريم أمجون في نفس المقال ، ناصحا رشيد نيني ، الذي طلب رأي القراء في عمودي العددين الأول والثاني " الناموس" و"الباب الكحلة" من "شوف تشوف" عبر صفحته بالفايسبوك " فبالله عليك لا تخبرنا في الأعمدة القادمة عن رائحة المراحيض الكريهة و لا عن وجبات الغذاء السيئة ، و لا عن القمل... " "كن "هدهد سيدنا سليمان" و أخبرنا بأمور عظام و رسائل جسام و آتنا باليقين، حتى نجفف المستنقع، فكلنا نعاني من "فوبيا الناموس". ويجيد رشيد نيني كثيرا أسلوب التورية و التلاعب بالكلمات ، حيث توارد الإيحاء الجنسي في عمودي العددين الثالث والرابع "البوجادي" و "القفص" ، فتحدث عن "الأخت" التي تنظر إليه من تحت الباب وهو في مرحاض بالسجن ، وبعد انبهار القارئ وفضوله لمعرفة ماهية "الأخت" وماذا تفعل هناك؟ ولمعرفة مدى تواتر هذا الإحساس عند جل القراء أو كلهم ، منحت الصفحة العبارة لأستاذ ليقرأها وأنا ضاحك ، فلما أتم الجملة قال بعفوية وهل كان السجن مختلطا بين النساء والرجال ؟ أم من هي هاته المرأة ؟ الجواب عند نيني يأتي بعد أسطر قليلة من التشويق و التورية التي تثير ذهنية المتلقي للنص الأدبي، و بضحكة مركزة من القارئ ، يتوصل إلى أن الأخت لم تكن إلا "الطوبة". منتهى الإيحاء الجنسي ، وتمام التورية ، وإخفاء المعنى ، لأن لفظ الأخت يشمل كل أنثى إنسانا كانت أو حيوانا كما أراد الكاتب ، فوارى رشيد و أخفى المعنى الحقيقي البعيد الذي هو الطوبة بالمعنى القريب لخيالات القارئ الشبقية الذي هو الأخت الآدمية. رشيد نيني في العمود السابع بعنوان "لاكاب" سيستمر في هذا المنحى ، قال يحكي عن تواجده في مرآب المحكمة ، "وبما أن كل المعاقل كانت مملوءة عن آخرها بالمتهمين ، فقد أدخلوني بمفردي معقلا خاصا بالنساء ، وهناك قضيت ثلاث ساعات من الانتظار ، أمضيتها في قراءة العبارات الشامتة والجمل المضحكة ، التي خطتها السجينات اللواتي مررن بالمكان بأصابع أحمر الشفاه ، شتائم مقذعة ، و أسماء رجولية وعبارات حب وحكم مكتوبة بخطوط رديئة و مليئة بالأخطاء .." فالأخوات هنا حقيقيات ، ولسن "طوبات" ، و نحمد الله أن نيني لم يذهب لمرحاض هناك ، قد ترقبه إحدى الأخوات من تحت بابه. ولعل أهم ما ورد في "شوف تشوف" لهذا العدد الأسبوعي هما البيتان اللذان استشهد بهما في آخر عبارات العمود اليومي ، حيث قال بلسان الشاعر المتنبي للقاضي "ياأعدل الناس إلا في محاكمتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم" ثم البيت الذي قاله "سيد قطب" "أخي أنت حر وراء السدود أخي أنت حر بتلك القيود" إذا كنت بالله مستعصما فما يضيرك كيد العبيد " قال نيني " وهكذا أصبح هذين البيتين ملاذي... " ونصب نيني إسم أصبح والبدل بعده ، وكان عليه رفعهما ، فالأصل في الأفعال الناقصة أن يأتي الإسم بعدها ثم يليه الخبر، ولايجوز التقديم والتأخير إلا في حالات معدودة يؤمن فيها اللبس. لكن هذا الخطأ النحوي ، لا ينزل لأخطاء نساء مرآب معتقل المحكمة. وفي أسلوب أكثر واقعية ، مع بعض الإيحائية الضمنية ، طالب الحارس الصحفي السجين بنزع السروال والتبان ، ما جعله ينظر إليه نظرة استهجان ، و نزع نيني السروال ولم يذكر شيئا عن التبان ، هل نزعه أم لا ؟ وهل لم يغضب الحارس إذا لم ينزعه ؟ كما وصف عملية تفتيش أحد السجناء ، حيث وضع الحارس يده تحت السروال من أعلى وأضحى يحركها كأنه يبحث عن شيء ما ، مخدرات أو أية أدوات ممنوعة... وطولب نيني بالجلوس على ركبته القرفصاء ، حتى يسقط ما قد يكون مخبئا بين الفخذين ، إنها مرحلة لم تتعدى ثواني معدودة ، لكنها كانت جد مهينة. وقال نيني في عموده السادس ، وهو يتحدث عن المسسلات المكسيكية التي تجعل صمت السجن كصمت القبور ، ما يجعله ينام ساعة ، هذا الصمت يخترق بتصفيقات حارة وصفير حاد ، لسبب من سببين " إما أن البطل ضم خطيبته إلى صدره ، أو أنه حطم أسنان خصمه"، مع أن تحطيم أسنان الخصم لن يسبقه هدوء مطبق . ولم يفت نيني أن يمارس شعائره الدينية ، فوردت كلمات الوضوء والصلاة أكثر من أربع مرات في أعمدته ويومياته في هذا الأسبوع الأول ، كما صلى ركعتين شكرا لله على ما أصابه ، في تلك الحدود. وركز في سرده المشوق لحد ما ، على قلة النوم و ضرورة شربه الشاي حتى لا يصاب بالصداع ، كباقي السليمانيين ، و أعجب أحد الحراس بمقالة سابقة له حول "أولاد الفشوش " حين كان رشيد يشتكي من قرصات الناموس ، ما يحيل على أن رشيد الذي يملك سائقا خاصا رمى بجسمه باكيا أمام "الصطافيط"، وتعوده على المرحاض العصري ، ووصفه لفخذ اللحم غير الناضج بأكل الكلاب ، كان يعيش عيشة "أولاد الفشوش" ، ما جعل ظروف السجن صعبة عليه للغاية، رغم أنه كان مهاجرا سريا بإسبانيا ، وألف يوميات في ذلك، بعد أول ديوان شعري له بعنوان "قصائد فاشلة في الحب". يسهب نيني في الحديث عن الحمقى والمجانين ، سواء في يومياته ، أو في لقائه قبل صدور أول عدد من الجريدة مع سناء الزعيم بإذاعة أصوات في برنامج "ضيف خاص ". وذلك ما يظهر جليا في عنوان يومياته للعدد السادس الصادر يوم الجمعة 23 نونبر ، الذي عنونه " بويا عمر " وهو إسم الجناح الذي سجن فيه ، حيث يختصم فيه "المقطعون" و "عتاة المجرمين". فلم يكن سبب وضعه للهدهد كرمز لجريدته ، إلا رجل أحمق نزيل في السجن ، كما وصفه ، رغم فراسته وحكمته في تفسير آية عذاب الهدهد ، مخبر النبي سليمان. لم يحمل نص "بويا عمر " أي تحفيز على القراءة ، بل انتقل فيه نيني من الحديث عن الحيوان القارض "الطوبة" في عمودين سابقين للحديث عن النمل والصراصير والقطط ، في عموده السادس ، قبل العدد الأسبوعي الثاني. هاته القطط التي تسرق الأكل ، لكنها تستعمل كساعي بريد بين بائعي المخدرات و مسلمي النقود حيث تربط السلع أوالمقابل بذيلها ، وتنقله بين " السيلونات"، بينما يعودها ويدربها "البزناز" ليلا ، على تجربة "سكينر الإشراطية "، حيث يعطى القط كل مرة "سردين الحك" وينادى "مش مش " فلما يأتلف هذا الإشراط المقترن بالجزاء المشبع ، يستجيب كل مرة لعبارة "مش مش"، فيقصد القط المنادي الذي هو السجين البائع الذي يربط بذيله السلعة ، فيناديه المشتري من زنزانة أخرى ويربط بذيله النقود ، و هكذا تتم العملية دواليك. ويبدو كخلاصة في قراءتنا الأسبوعية ل"شوف تشوف" ، أننا لم نر شيئا يذكر ، عدا بعض الأوصاف والحكم الاجتماعية ، يختم بها نيني عموده في آخر المطاف ، و أهم ما فيها أفكار يؤكد فيها عمله على قتل الناموس ، أو يبين بطش القاضي الحكم الخصم ، أو أنه صدم في خيانة وغدر بعض الناس، واندهش لمن كان يراه بعيدا وأصبح هو القريب. لقد لان أسلوب رشيد المقترن بمضمون المقال كثيرا ، ففيه كثير من التسامح و التراجع ، ما قد يظهر بجلاء إن استمر الأمر هكذا في بقية عمر هذا العمود ، تأثير ظروف السجن على كاتب كبير ، بصم بمواضيع ثقيلة وازنة على تاريخ الصحافة المغربية، لكن دجنه "السيلون" في الأخير ، ليصبح راوي "يوميات مغربي في السجن" كما كان يروي" يوميات مهاجر سري" ، ليس إلا. فهل سيبقى رشيد واحدا من هؤلاء الذين يصدق عليهم وصف "الصوت العالي للشعب"، و أنه فقط يأخذ نفسه للانطلاقة الطويلة ، فمتسابق الماراتون ليس هو متسابق 100 متر؟ أم أن تطبيق القانون الجنائي عوض قانون الصحافة والنشر هو ما يجعله يتريث و لا يتهور كما كان الأمر من قبل. أخي هل تُراك سئمت الكفاح ... و ألقيت عن كاهليك السلاح فمن للضحايا يواسي الجراح ... و يرفع راياتها من جديد