كلها أسئلة مشروعة تطرح بشدة خاصة بعد وصول الأمر إلى عنق الزجاجة وتم الذهاب في تصعيد غير مسبوق من قبل المحتجين وقمع غير مألوف من قبل الدولة. عندما نتحدث عن الريف نتحدث عن أي منطقة من باقي مناطق المغرب غير النافع، ذلك المغرب الذي عان من التهميش والقمع والحصار ولسنوات طوال، نتحدث عن ريف عبد الكريم الخطابي، عن ريف الجمهورية، عن ريف العزلة وعن ريف الشتات في أوربا... مجموعة من الخصائص بعضها مشترك مع باقي مدن وقرى المغرب، وبعض آخر يختص بها الريف لأنه ريف. صاحب ارث تاريخي كبير وقد مر عبره رجال لهم وزن وخلدوا أسماءهم في التاريخ. حصار وتهميش وفوضى عارمة في كل المجالات، توازيها ترويج وزراعة الكيف على نطاق واسع وتجارة التهريب...
أنشطة يستفيد منها أزلام الدولة وزبانيتهم الصغار من أعيان المنطقة، ويكتوي بنارها السكان البسطاء، فقر مدقع في البنية الاقتصادية والاجتماعية وهجرة مستمرة ومتواصل إلى الضفة الأخرى شملت كل البلدان الأوربية، فالمواطن الريفي تجده في كل مكان من أوربا وأمريكا... في حين أن الحكم العسكري الذي فرض على المنطقة منذ سنة 1958 لازال مستمر ولا زال العسكر هم الحاقدون الحاكمون الحقيقيون للريف.وبخاصة منهم المنضوون تحت مظلة الفاسي ومن حوله.
وضعية جديدة قديمة... وجاء ما سمي بالعهد الجديد وبدأت خيوط المركز تصل إلى الريف، وبدأ ما سمي بالمصالحة وما إلى ذلك من الشعارات. وقد استبشر أهل الريف خيرا رغم الحذر والتوجس لأن المركز الذي أقصاهم طيلة نصف قرن من الزمن قد لا ينصفهم بين عشية وضحاها. جاء العهد الجديد بقيادة الملك الجديد لكن أهل الريف لم يروا جديدا، وكثرت زيارات الملك إلى المنطقة وتوطدت علاقته ببعض المحسوبين على الريف لكن من استفاد،أهل الريف أم المحسوبين على أهل الريف؟؟ بالطبع أهل الريف لم يستفيدوا شيئا بل ازدادت مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية؛ مشاكل يومية تهم القوت وغلاء المعيشة والشغل والسكن...
وانتفضوا ما من مرة لكن نخب الريف المقربة من الملك كانت هي التي تتاجر بهذه المعانات وتزداد ثراء على ثراء بتقربها من القصر وابتعادها عن الريف وأهله. وكانت النقطة التي أفاضت الكأس هي كارثة زلزال 2004 فقد أحس كل ريفي بالحكرة والعزلة والضياع في عقر داره، لم تتحرك الدولة إلا بعد حين، وقد تحركت منظمات إنسانية دولية وخاصة منها الاسبانية في حين أن سلطات الرباط كانت تتأكد من درجة الهزة عندما كان السكان في أمس الحاجة إلى المساعدة، وعوض أن تأتي الإغاثة والمساعدات تم حشد جيش جرار من القوات القمعية وتم محاصرة الريف من كل الجوانب، فانتفض المواطنين في كل مكان وكان الغضب يتطاير شظايا من عيونهم الملتهبة.
تم استقدام مساعدات عدة من دول أوربية ودول عربية وخليجية، وكان الهدف هو إعادة اعمار المناطق المنكوبة، لكن للأسف تم اعمار جيوب اللصوص بالعملة الصعبة، وكان أصغر شفار في بوعياش على سبيل المثال حصل على منزل وسيارة ورصيد محترم في البنك. ولم تذهب المساعدات إلى من يستحقها بل ذهبت إلى سفاكي الدماء ولصوص المال العام خاصة منهم رؤساء الجماعات وزبانيتهم ولصوص وزارة الداخلية من عمال وولاة وباشاوات وقياد...
وبقي المواطن المتضرر من الزلزال يفترش الأرض ويلتحف السماء، وبعدها مباشرة جاءت انتفاضة تماسينت المجيدة بعد سلسلة من المحطات النضالية التي خاضتها الساكنة دون جدوى، وبعد الكثير من التضحيات استطاع أبطال تماسينت تحقيق مطالبهم بالحصول على سكن لائق. كانت الأوضاع تتجه نحو الانفجار في كل وقت وفي كل المناطق، وانفجرت في بلدة بوكيدان يوم 10 دجنبر 2010 على خلفية المرأة المعتصم في الطريق الرئيسية. في حين أن السبب الحقيق المؤدي إلى الانفجار كان هو الاحتقان الاجتماعي وتكاثر الأزمات والمشاكل.
فتم التراشق بين قوات الدولة وقوات الجماهير الشعبية فانتصرت الجماهير الشعبية رغم القوة المفرطة التي استعملتها قوات القمع من رصاص مطاطي وغازات وحجارة وهراوات... وكان على الدولة أن ترضخ لمطالب الساكنة أو أن تستعين بمزيد من القوة لإخضاع المحتجين، فاختارت الحل الأول وتم تلبية مطالبة السكان، ومنها مطلب الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بالمغرب بمنحها التنسيق الإقليمي 30 منصبا لكون المعطلين هم المحرك الأساسي لأي حراك شعبي في الريف، ويعول عليهم القيام بثورة عارمة في المستقبل القريب، من أجل التحرر من قيود وأغلال القهر والظلم، تعاملت الدولة على هذا الأساس لأن المزيد من القوة سيترتب عنه المزيد من الانفجار وانتقال بؤر التوتر إلى مناطق أخرى. وهي طبيعة الريف منذ الأزل.
ولأن تعامل الدولة يكون أحيان مزاجيا ويكون أيضا على حسب طبيعة أي مسؤول على الإقليم، فإن المسؤول الذي كان سابقا تعامل بشكل ماكر وجدي إلى حد ما مع مطالب الساكنة، واستعمل الدهاء في حل مشاكل المنطقة، رغم ما سقط فيه من أخطاء غير قاتلة، في حين أن المسؤول الحالي الحافي استهتر كثيرا بمشاكل الساكنة، فتفاقمت هذه الأخير إلى حد لا يطاق؛ مشاكل أصحاب وسائقي الطاكسيات الكبيرة وكذلك الشاحنات وكذلك الجرارات، ومشاكل كثيرة مع المعطلين حاملي الشواهد، وكذلك مشاكل مع عامة الساكنة حول الملفات الاجتماعية بوجه عام... وقد اختار سياسة الآذان الصماء وسيلة لربح المزيد من الوقت حتى تنتهي ولايته ويذهب إلى مكان آخر، لكن هل له عداد ليقيس غضب الأهالي ويقارنها بالمدة التي بقيت له ليرحل، فقد تكون حساباته خاطئة أو ضيقة فيسقط في المستنقع الذي شيده على شاطئ معانات المواطنين. كثرت الاحتجاجات وكثرت المطالب وأغمضت الدولة عينيها عن كل شيء رغم الربيعين المغاربي والعربي اللذان هبا على الجيران وقوم آخرون.
فتفتقت عبقرية المخزن وصاغ صياغة أخرى من قبيل دستور جديد انتخابات تشريعية، حكومة جديد... لكن كل هذا كان عبارة عن مسرحية سخيفة، الدستور قاطعه المغاربة ولم يصوت عليه إلا المخازنية ، والانتخابات أيضا قاطعها المغاربة ففاز من أراده المخزن أن يفوز؛ فسيفساء من الأحزاب ولم يحقق أي حزب الأغلبية التي ستمكنه من تحمل المسؤولية وعن أي مسؤولية يتحدثون، في المغرب الملك هو الذي يحكم أما الحكومة فهي عبارة عن مجموعة من الخدم يؤدون أعمال مختلفة مقابل أجرة معينة وامتيازات كثيرة. تم تكليف عبد بنكيران بتشكيل الحكومة لحزب عبد الكريم الخطيب الجزار الذي فتك بأهل الريف سنة 1958 وسيفتك خلفه بأبناء الريف سنة 2012.
مفارقة عجيبة إذن، حزب يفتك بنا مرتين وفي مدة زمنية قدرها نصف قرن. لكن هل حقا عبد الكريم الخطيب هو من فتك بالريفيين سنة 1958 وهل عبد بنكيران هو من فتك بالريفيين سنة 2012. أمر مضحك من يعتقد هذا، ليس قابض العصا هو دائما من يضرب بها. الجبناء كثر وأهل الدسائس كثر وأصحاب المصالح كثر... الضحايا على قلتهم فهم أيضا كثر وبأعداد لا تعد ولا تحصى.
الحراك الاجتماعي في بوعياش كان ثمرة زرعتها الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بالمغرب، وبنضالاتها غذتها وحرصت على نموها واستمرارها... لكي تحقق كافة المطالب العادلة والمشروعة للساكنة المحرومة كما حرمت باقي مدن الريف وباقي مدن المغرب على الهامش. كانت الأشكال الاحتجاجية تنمو وتتكاثر وفي نموها كانت تحمل بذرة الانفجار وكانت الشعلة التي ستفجرها في يد المخزن، وهو الذي لم يشأ أن يستجيب لمطالب الساكنة وهي لا تعدوا أن تكون مطالب اجتماعية محضة، في حين أن من يرفع راية جمهورية الريف يحن إلى تاريخ أجداده ومن حقه أن يحن. لأنه لا يمكن لأي كان أن يتحكم في أحاسيس ومشاعر الناس.
وتبقى التهم المجانية التي تنشر على صفحات الجرائد الصفراء لا أساس لها من الصحة، ففي الريف ونحن أبناؤه ليس هناك إجماع على إحياء الجمهورية ولا أي فكرة تدعي الانفصال عن المغرب كوطن يجمعنا نحن المغاربة رغم اختلاف ثقافتنا ولغتنا وعاداتنا... أما إن وجدت فكرة الجمهورية عند البعض فلا أحد يملك حق محاسبة النوايا بل من حقنا فقط محاسبة الأفعال. إذن فكرة الجمهورية أو الانفصال ما هي إلا بعبوع يعشعش في مخيلة المرضى العقليين الذين يريدون النيل من الريف ومن أهله. كانت النقطة التي أفاضت الكأس هي اعتقال أحد نشطاء 20 فبراير، أو بمعنى أدق طريقة اعتقاله التي لقيت استنكارا واسعا من قبل المصلين ومن قبل كل الساكنة لكونه اعتقل وهو خارج من باب المسجد بعد أن أدى صلاة العشاء. اعتقال أشبه ما يمكن أن نقول عنه أنه اختطاف هوليودي على الطريقة الأمريكية.
مجموعة من الأشخاص بهراوات كهربائية اقتحموا حرمة المسجد وبينما كان المعني بالأمر ينتعل حذاءه انهال عليه أربعة عناصر من المختطفين بالركل والرفس والسب واقتادوه إلى أسفل المسجد حيث كانت سيارة مدنية تنتظرهم هناك من نوع ميرسيديس فالكون. وقد نال بعض المصلين نصيبهم من السب والشتم من قبل المختطفين، زمن قصير تم فيه كل شيء، وخرج نشطاء الحركة الاحتجاجية إلى الشارع من جديد ومن كل حدب وصوب حجوا إلى مكان الحادث ومعهم بعض المصلين الذين هم طبعا استاءوا من مجريات الحادث، وفي قرارة أنفسهم يقولون لماذا تتعامل الدولة بهذا الأسلوب مع مصل من يا أيها المصلين. وقد شك الكثير من الناس في هوية المختطفين، هل هم من البوليس أم من الدرك الأسفل من النار، أم عصابة لها حساب شخصي مع المختطف وقد اختطفته بهذه الطريقة لكي تنتقم منه على خلفية أمر ما.
لكن بعد أن اجتمع كل النشطاء وبعد الكثير من القيل والقال خلص الجميع إلى أن البوليس أو أجهزة الدولة القمعية هي التي قامت بالعملية وتم تأكيد الخبر بعد اتصال هاتفي من مركز الدرك يؤكد فيه المتصلون بأن المختطف رهن الاعتقال. غضب وهيجان، فغاب المنطق وحضر العصيان، مسيرة شعبية في اتجاه مركز الدرك بوادي النكور، المطلب الوحيد الأوحد هو الإفراج الفوري عن المعني بالأمر، فوصلت المسيرة إلى مفترق الطرق وهناك فتح اعتصام مفتوح، ونصبت الخيام وأجج الوضع وأصبح قاب قوسين أو أدنى من الانفجار المنتظر، في حين أن السلطة لم تحرك ساكنا، صرحت النيابة العامة بأن المعتقل رهن الاعتقال وهو مبحوث عنه منذ سنة 2004 وتم اعتقاله والتهم معروفة وشأن إطلاق سراحه شأن لا يناقش وقضيته قضية ادعاء عام ولا دخل للسياسة ولا لعشرين فبراير فيها. النيابة العامة تتابعه بتهم مختلفة من بينها الاتجار في المخدرات وتكوين عصابة إجراميه... ولا يمكن إطلاق سراحه لأنه إن تم هذا الأمر فستضيع هيبة الدولة، وفي الاتجاه المعاكس يتساؤل المتسائلون لماذا تم اعتقاله أو اختطافه في هذا الوقت بالضبط وفي هذا المكان بالضبط.
تساؤل مشروع فهيبة الدولة تقتضي القبض على أي مبحوث عنه في الوقت المناسب أي مباشرة بعد ارتكابه للفعل الإجرامي، وسكان بني بوعياش يعلمون جيدا أن المعني بالأمر ومنذ سنة 2004 حر طليق يتجول ويمشي ويعيش ويسكن في بوعياش ولا أحد يطارده أو يود القبض عليه، فلماذا؟ لكن عندما انخرط في نضالات حركة 20 فبراير وبدأ في طريق آخر يرتاد المسجد للصلاة ... هنا فطنت الدولة أو تذكرت أن سجونها ومحاكمها بحاجة إلى هذا الشخص فأمرت عناصرها بالقبض عليه، إن هذا التساؤل لمن بين المؤشرات القوية التي تبين أن هذه القضية كانت تخطط لها أياد خفية ومنها أيادي ما يسمى خطأ بالأمن الوطني.
وهنا نكون قد عثرنا على أهم طرف في قضية أحداث بوعياش وهم أصحاب الحال من درك ومخابرات فهم المتواطئون الأساسيين في هذه العملية من اجل بلوغ أهداف سنأتي على ذكرها. تم قطع الطريق الوطنية رقم 02 وبات كل مستعمليها يتكبدون العناء تلوى العناء من اجل العبور، منهم من يصعد الجبل ومنهم من يعبر الوادي وكل في واد يهيم، لا حل لا حوار لا جدل لا مطلب سوى إطلاق سراح المعتقل. المعتقل تقول الدولة بأن لا علاقة لاعتقاله بالحركة الاحتجاجية والمحتجون يؤكدون بان المعتقل عضو نشيط في الحركة، وتم شد الحبل وجدبه في كل الاتجاهات، كثرت المشاكل وكثرت معانات المواطنين وكثرت الإنفلاتات واتهم المحتجون بالفوضوية و مجموعة من الأمور الأخرى، وأفاضت الكأس مسألة المرأة التي كانت في طريقها إلى مركز الولادة لوضع مولودها، لكن للأسف لم يسمع أحد آهاتها وآلامها وهي تتأوه وتتألم وقد جاءها المخاض في السيارة.
الدولة لم تجد حلا مع المحتجين والمحتجون لم يقدروا ظروف المارة فقطعوا الطريق على كل الناس بلا استثناء. وأصبح الوضع قاب قوسين من الانفجار؛ انفجار مدوي قد يأتي على الأخضر واليابس. خاصة بعد أن ضاق الناس بالطريق المقطوع ولم يضق صدر النظام ولا زبانيته المخلصون الذين يؤججون نار الحقد بين الناس لإشعال النار. بعد سلسلة من المحاورات بين المحتجين والسكان المجاورين والمتضررين يوميا بقطع الطريق خاصة الدواوير التابعة لجماعة النكور وجماعة أربعاء تاوريرت، تم الإتفاق بين المعتصمين على فك الاعتصام من الطريق ونقله إلى الباشوية أمام بابها الخارجي بالتحديد.
وتم غلق كل النافذ والمداخل وفي اليوم الموالي تم محاصرة الباشوية من كل الأبواب. مما جعل الدولة يضيق صدرها هذه المرة أمام إصرار المحتجين على تنفيذ مطلبهم الأساسي وهو إطلاق سراح المعتقل البشير. وقبل ذلك اليوم وقبل تلك الساعة والدقيقة والثانية كانت أجهزة المخابرات بكل تلاوينها قد جمعت ما يكفي من المعلومات للتدخل وفك المعتصم واعتقال كل رموز الحركة وهم في اللائحة السوداء. تم التخطيط للعملية جيدا وكان الكثير من السكان يتوقعون ذلك بعد أن وصل الأمر إلى الباب المسدود، وتم اختيار الوقت المناسب أي بعد منتصف الليل حيث تكون المؤسسات العمومية بما فيها المدارس مغلقة وكذلك الأسواق والتجمعات العمومية الأخرى، وتلك غاية في نفس النظام قضاها. تم الهجوم ليلا على المعتصم وبشكل مباغت وغير معلن كما تنص على ذلك المواثيق الدولية وكذلك قوانينهم الرجعية المتخلفة. رطل من العربات العسكرية قرابة الخمسة آلاف جندي ومن بينهم بعض القوات المساعدة، بالإضافة إلى شاحنتين لتفريق المتظاهرين مجهزة بخراطيم المياه.
والكثير من السيارات المدنية التي انبعثت فجأة وعلى متنها أعوان السلطة والمخبرين وكل أزلام النظام، كان الهجوم شرسا ويثبت ذلك أن كل المعتقلين في تلك الليلة قد أحيلوا على قسم المستعجلات لتلقي العلاج قبل المجيء بهم إلى مركز الدرك بامزورن لمباشرة التحقيق معهم. انتشر الجيش في كل النواحي والأزقة لمتابعة الشباب الغاضب الذي فاجأه التدخل وطريقته الهمجية، وكانت اللغة المستعمل نابية جدا إلى حد أن من يستعملها قد تجرد من إنسانيته ومروءته، كلمات من أقبح ما أنتجه القاموس اللغوي، بالإضافة إلى هذه المطاردات الهوليودية في الأزقة والشوارع بالغازات السامة والرصاص المطاطي وخراطيم المياه...
تم الهجوم على المنازل الآمنة ومحاولة اقتحام بعضها، ليس من أجل متابعة الشباب الغاضب بل من أجل السرقة والعبث والتخريب، فقد تم الهجوم على مجموعة من المحلات التجارية وسرقة محتوياتها وتخريبها وإحراقها... مما جعل أصحابها يتكبدون خسائر باهظة ومن بين الشهود المتواجدين في عين المكان تاجر سرق رزقه وهو يرى بأم عينيه اللصوص وبزي رسمي للدولة المغربية ينهبون محتويات متجره. غريب جدا أمر هذا القوم، وجدوا من أجل تثبيت الأمن في البلد فإذا بهم يخلقون الفوضى ويسرقون وينهبون أرزاق المواطنين بغير وجه حق. ليلة كاملة والمدينة تخرب ويطارد أبناؤها ولا من مغيث وفي الصباح ستعلن النتائج؛ معتقلين بالجملة، مصابين لم يلتحقوا بالمصحات العمومية مخافة الاعتقال، سرقة وتخريب وإحراق محلات تجارية ومقاهي وممتلكات خاصة وعامة، رعب وخوف منتشر بين السكان، سرقة الهواتف النقالة والأموال من كل المارة الحاصلين في الصباح الباكر، وبخاصة العمال المياومين في البناء الذين لم تصلهم أنباء التدخل ليلا. والمواطنين متوجسين من أي مواجهات قد تندلع في أي لحظة، ولم تتأخر فقد اندلعت مواجهات دامية مساء اليوم الموالي في حين كان كل واحد وضع استعداده للأسوأ خاصة بعد أن رأى ما رأى في ثورات مصر وتونس وليبيا... وكل الآباء والأمهات يتذكرون جيدا ما رواه لهم آباؤهم عن أحداث " عام نتفضيسث" كان الزيت يغلي والماء يغلي والسيف يمضى والشاقور يمضى وكل من له أداة للدفاع عن نفسه قد وضعها في حالة تأهب قصوى.
لا مجال للرجوع إلى الوراء فالمخزن أرادها ونحن لها بالمرصاد حتى الموت، سيموت اثنان والثالث سيحصل على البندقية، سيموت نصف ويعيش نصف آخر بكرامة خير من أن يموت عشر ويعيش تسعون في ذل بلا كرامة، وتم نفض الغبار عن وصايا مولاي موحند العشرين، ووزعت على كل المناضلين ومن بين الخطط التي استفاد منها المناضلين أن المواجهة مع العدو لا تكون في الأرض المستوية ما لم تكن مبللة، وأن المواجهة من الجبل تكون نتائجها محسومة، وكل من يموت في الجبل فهو شهيد. تم استدراج الغزاة إلى الجبل ومن هناك علموهم الدرس، من هم هؤلاء؟؟ شباب في مقتبل العمر قرابة 0.5 في المائة من شباب بوعياش لأنه لو أنخرط كل الشباب والرجال في المواجهة لتم تقطيع المخازنية وعناصر القمع إلى قطع قطع ورميهم للكلاب، ولن يتبول عليهم أحد كما فعل بهم في الصحراء لأن المروءة تمنعنا من ذلك، كلما حاول المرتزقة صعود الجبل يصدونهم الشباب بقوة خارقة مستعملين الحجارة وما توفرت لهم من أساليب بسيطة جدا في حين أن أجهزة الدولة استعملت كل الوسائل المتاحة وتقدر خسارتها بملايين الدراهم دون أن تحرز أي تقدم يذكر، وفي الصباح تم الاستعانة بالمروحيات لكن كل المتظاهرين بالليل نزلوا من الجبل إلى بيوتهم للخلود إلى النوم والاستراحة استعدادا لمواجهة أخرى في الليل الموالي.
في الليل مواجهات وفي النهار خلود إلى النوم وتورط المخزن ولا يعرف من يواجه جيش عرمرم من الشباب يتحصنون في الجبل ويواجهون ببسالة وفي النهار لا احد يواجه وكأن لا شيء حدث، احتار النظام في هذا الأمر ولم يجد ما يفعل غير الرجوع إلى الوراء وبالفعل رجع وتم عسكرة موقع الباشوية ومحيط البلدية، بعد أن تكبد خسائر فادحة في المعدات وفي زبانيته أيضا، وكانت أحدى شاحنات المياه ستحترق لولا القدر الذي كتب لها أن تصاب بأعطاب مختلفة فقط. ورغم ذلك تم الهجوم عليهم أكثر من مرة من أجل رحيلهم عن المدينة لكن كما هي وصية مولاي موحند الأرض المنبسطة الغير المبللة غير صالحة لمواجهة العدو.
فتراجع المقاتلون إلى الجبل في حي بوغرامان لتحصين مواقعهم، ورغم الخطوات التي قام بها النظام من اجل اختراق الموقع إلا انه فشل مستعملا في ذلك سيارات مدنية صغيرة وأخرى كبيرة من نوع مرسيدس 207 ومن في شاكلتها وتم الاستعانة بالمخبرين والأعوان والخونة والبلطجية من اجل التعرف على المحتجين ومتابعتهم إلا أن الأمر لم يتم والشباب يصدون كل محاولة من هذا القبيل. سيارات مدنية يستعملها الدرك والمخبرين وهي في وضعية غير قانونية أغلبها مستقدمة من محجوزات الجمارك، فتعجب أنت وشاهد ما ترى في دولة الحق والقانون. في حين أن بعض الخونة يسددون فواتير الأكل والشراب للجيش ويكرمونهم لأنهم واجهوا الشباب الفوضوي وطاردوهم إلى الجبل، وبعض من الذين سلبت وسرقت ممتلكاتهم يسجلون الدعوى ضد مجهول وبعض آخر يتوفرون على أدلة دامغة على تورط أجهزة القمع في السرقة والنهب والاعتداء على المواطنين، ولم ينشروها كما فعل أبطال بلدة بوكيدان عندما نشروا الفيديوهات التي تصور المخازنية وهم ينهبون ويسرقون المحلات التجارية، ومخازني أخذ على كتفه عجل ودخل به في الستافيت...
هل جاء هؤلاء لاستعادة هيبة الدولة كما يقول كاهنهم عبد الكيران أم جاؤوا لما صوره الناس وهم يخربون ويسرقون وينهبون... أين هيبة الدولة والعالم يشاهد أزلام النظام وهم متلبسين في جرائم مختلف تعاقب عليها كل القوانين الكونية. لماذا لم يحل هؤلاء على المحكمة لأخذ جزاء ما اقترفت أيديهم، وأحيل الشباب المتظاهر من اجل حقوقه العادلة والمشروعة. انطلقت شرارة الانتفاضة من بوعياش ووصلت لهيبها إلى امزورن وبوكيدان وكل المناطق المجاورة، وكانت باقي مدن وقرى الريف على أهبة الاستعداد للدخول في المعركة لأن من بين وصايا مولاي موحند كذلك للريفيين ضرورة الوحدة والتضامن، فهو أسست اتحاد قبائل الريف، وبهذا الاسم بالتحديد سمى جمهوريته، وقد وصى أهله بالإتحاد ضد العدو لأن هذا الأخير إن استطاع أن يأكل بوعياش وينتهي منها دون أن يتضامن معها أحد فغدا سيأكل امزورن وهكذا دواليك، لكن إن انتفضت بوعياش وتبعتها امزورن وبوكيدان وتامسينت وتاركيزت...
فالمخزن هنا لن يأكل أحدا لأنه لن يستطيع ابتلاع هذه اللقمة الكبيرة مرة واحدة، حتى إن أصر فإن خسائره ستكون كبيرة جدا والعبرة لا زالت موشومة في ذلك التاريخ مما فعله الأجداد بالغزاة الإسبان. تم حسم المواجهات الليلية لصالح الشباب الثائر في الجبال، وتراجعت جحافل المخزن إلى أوكارها حائرة من هؤلاء الناس، في النهار يتصرفون وكأن لا شيء حدث يجلسون في المقاهي ويتجولون في كل الأماكن... وفي الليل يلجؤون إلى الجبل لإشعال النار ومواجهة أجهزة القمع ببسالة.
وهذا الشأن لم يحدث في المغرب بعد إذ أن كل الانتفاضات الشعبية تبدأ في النهار ويستطيع المخزن إخمادها في الليل. ما حدث في بوعياش من تخريب وسرقة ومداهمة... حدث أيضا في بوكيدان انتقام على ما فعله شباب البلدة يوم 10 دجنبر 2010 بقوات القمع هناك بعد أن جاؤوا لفك المعتصم الذي وضعته امرأة في الطريق العام... حيث اتحد الشباب وهجموا يدا واحد على أكثر من ألفي عسكري مدججين بمختلف الأسلحة والمعدات وألحقوا بهم هزيمة نكراء، خلد التاريخ واقعتها، لكن بعد ما وقع لهم في المواجهة التي جاءت على خلفية الانتقام دفعوا فيها فاتورة صعبة جدا وندم البعض منهم على مجيئه إلى الريف، الأرض التي لا مكان للغزاة على ظهرها. هؤلاء القوم الذين يملكون الحجارة ولم أنهم ملكوا أسلحة لفعلوها كبيرة جدا.
سنتوقف علن سرد ما وقع على ارض المعركة لننتقل إلى المواكبة الإعلامية التي حركة قضية الريف من جديد خاصة في أوربا حيث أبناء الريف منتشرين هناك في كل مكان، تم استنفار كل المنابر الإعلامية وبخاصة المواقع الإلكترونية لنقل كل المستجدات من الريف إلى الخارج والى المركز أيضا، وهنا يستحق كل الشباب الإعلامي تحية الصمود والوفاء للريف ولوصايا مولاي موحند. فقد انتشرت الأخبار في كل أرجاء المعمورة وتناقلتها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة وكذلك القنوات الفضائية العالمية من قبيل الجزيرة CNN وقنوات اسبانية ومصرية وصحف كثيرة جدا ووصل الأمر إلى أزمة دبلوماسية بعد اعتقال احد المواطنين الهولنديين في مدينة امزورن، وكانت الأمور ستتطور إلى الأسوأ لولا انسحاب الأجهزة القمعية.
فكل الصحافة العالمية حولت اتجاهها نحو الريف وتسابق مراسلي الصحف على الوفود إلى بوعياش وباقي المدن المحاصرة لنقل آخر المستجدات. تم كسب المعركة الميدانية وتم كسب المعركة الإعلامية من قبل المتظاهرين على خلفية مطالب اجتماعية منها الصحة والتعليم والشغل والكرامة... لكن في المقابل نجد أن الدولة مرغ وجهها في التراب للمرة المليون، صحافة أجنبية تناولت الحدث وخصصت جانبا من تغطيتها لما حدث في الريف فتحولت الدولة من إطار للحق والقانون إلى غابة يحكمها الكلاب المدربة ورؤساءهم يعبثون في الأرض فسادا، يعبثون ويفسدون وينتهكون الحرمات ويسرقون ممتلكات الناس...
هذه هي صورة النظام المغربي في الخارج أضف إلى هذا موقف الجالية في أوربا قطعا لم تقف موقف المتفرج بل نددت واستنكرت ما يقع في الريف خاصة وان العساكر كانت تهجم على بيوت ترجع لأهلها المتواجدون في الخارج من أجل سرقة محتوياتها، فهل هذا معقول؟ بل هل هذا الأمر موجودا بالفعل ؟ إن منطق المداهمات يعني ذلك خاصة وان المداهمات تطال البيوت الآهلة وغيرها من البيوت، والفكرة التي رسخت عند جميع الريفيين المتواجدين في الوطن أو المغتربين أن النظام المغربي غير بعيد عن الأنظمة الديكتاتورية البائدة التي حصدتها الثورات الربيعية بل لا يعدوا أن يكون مثل النظام السوري حاليا في سوريا الذي يقترف أبشع الجرائم ضد الإنسانية. ومجمل القول أن النظام المغربي خلع سرواله في الريف، وبدت عورة للجميع للمغاربة وللأوربيين ولجميع العالم.
وبقي الأمر المهم الذي يمكن لنا أن نختم به هذا التقرير، ألا وهو ما يروج عن أياد خفية للأشباح السياسية في الأحداث الجارية في الريف، حقا هناك صراعات في المركز بين فلان وعلان ويوجد من يحرك مثل هذه الصراعات في كل منطقة من المغرب، لكن هل يمكن لنا أن نجزم بأن حزب بنكيران له علاقة بما يجري في الريف، بليد من يعتقد أن الآلة العسكرية في المغرب يحركها بنكيران أو أمثاله من البهلوانيين، بليد من يعتقد أن الداخلية في المغرب يتحكم فيها الوزير الأول، نعتقد جازما أن آلة العسكر يحركها الملك واللوبي المقرب منه، اللوبي المقرب منه هو مؤسس حزب الأصلة، وهو نفس الحزب الذي خسر في المسرحية التشريعية خسارة لم يضرب لها احد حساب، وان كان هؤلاء المقربون من الملك يريدون تصفية حساباتهم الضيقة مع خصومهم في الريف وغيرها من المناطق فهم واهمون، واهمون حقا إن كانوا يعتقدون أن العصا التي ضربت بها بوعياش وباقي المناطق يحركها مجهول. نعلم جيدا من يحرك العصا ومن يضرب على رقاب أبناء الريف، نعرف جيدا من احرق الريف في السنوات العجاف أسماء لن تبرح ذاكرتنا المحجوبي احرضان عبد الكريم الخطيب علال الفاسي الحسن الثاني أفقير... علاقة وطيدة بين عبد الكيران وعبد الكريم الخطيب كما الشأن بالنسبة لثورة بوعياش وثورة بني بوخلف 1958.
وكل شيء يعزى إلى قبيل الصدف. ثار الريفيون سنوات مضت من أجل تقسيم غنيمة الاستقلال ومنها المناصب العليا في الدولة، وثار الريفيون اليوم من أجل تقسيم ثروات المغرب ومنها طبعا المناصب العليا في الدولة والمناصب الصغرى أيضا، لابد من إعادة تقسيم ثروة المغرب على كل الجهات وبالتساوي وإلا فإن كل الجهات ستنتفض وكل المغارب سينتفضون...
ولا بد من الإشارة إلى أمر مهم جدا ويكمن بطبيعة الحال بين الثيران التي تتصارع والعشب الذي يتضرر والقطط التي تستفيد، فهل حقا توجد قطط في بوعياش تستفيد من تطاحن الثيران فيما بينها، هناك عدة أصابع اتهام موجهة إلى بعض محركي الاحتجاجات في بوعياش لا يمكن الجزم في صحتها لكن تواطؤ حزب الاستقلال والحركة الشعبية وحزب الشورى والاستقلال دفع الحسن الثاني إلى شن حملة عسكرية على الريف سنوات قليلة بعد الاستقلال الشكلي، وقد تم حشر الزعيم امزيان في الأمر وتم تحميله مسؤولية ما وقع رغم أن الفكرة كانت فكرة من دفعوه إلى المذبحة وليست فكرته مطلقا، فهل في بني بوعياش بلداء أو مستفيدون يدفعهم أحد لتأجيج الوضع لأجل أجندة معينة أو مصالح شخصية، لن نقول شيئا في هذا الباب، وسنترك التاريخ يكشف كل المتواطئين ويؤكد أو يفند الاتهامات الموجهة لبعض محركي الاحتجاجات في بوعياش، والتاريخ عهدناه له وجه قصديري لا يرحم أحدا. إشارة أخرى إلى الضجة التي خلقها علم جمهورية الريف، رفعه في المسيرات، رفعه فوق مركز القيادة العسكرية لمولاي موحند... كل هذه الأمور يراها المشاهد بعينه الخاصة سواء مواطن من الريف أو من الأطلس أو المخزن...
لكن السؤال المطروح عندي هو كالتالي:
ألا يحق لنا كمغاربة جميعا أن نفتخر بتاريخ أجدادنا ونمجد البطولات والملاحم التي خلدوها؟ ماذا يريد منا دعاة العدمية أن ننسى تاريخنا ويقضى علينا وكأننا بلا ماض ولا تاريخ؟ عجبا لهؤلاء كان من كان أن يطلب من أي شعب أن ينسى ويتخلى عن تاريخه. لكن الاستغلال السياسي للتاريخ هو الأمر المرفوض فإن كان الريفيون قدموا الدماء من اجل البلد، فهم قطعا لن يسمحوا لأحد أن يستغل هذه الدماء لأغراض سياسية ويبتز الدولة خصوصا المقربين من الملك وأظن أن الرسالة تفهم عند الساسة بالغمز ولا تفهم بالدبز.