بعد أحداث الريف المؤلمة التي عرفتها أيث بوعياش إمزورن وبوكيدار وتداعياتها على مستقبل الريف، يبقى ضروريا، طرح نقاش علمي هادئ بغية فهم ماجرى بالريف. وبالتالي أصبح علينا لزاما الغوص في التاريخ لفهم السياق العام لأحداث الريف. قبل توقيع معاهدة الحماية المشؤومة سنة 1912، كان المغرب الأقصى منقسما إلى بلاد السيبة أو بلاد الريف وبلاد المخزن، فبلاد الريف كان يتمتع بإستقلال ذاتي عن بلاد المخزن بحيث كان يعترف فقط بالسلطة الروحية لسلطان مراكش، وفي هذه المرحلة التاريخية إعتمد الريف في تسيير شؤونه السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية على مجموعة من القوانين والمؤسسات والأعراف المتمثلة في agraw، أيث أربعين إمغارن، ثاويزا، ونظام اللف، والكنفيدرالية القبلية. في هذه المرحلة الصعبة كانت بالريف بعض الثغور المحتلة كسبتة، مليلية الجزر، وكان الريفيون يقومون بالدفاع عن أراضيهم عبر محاصرة هاته الثغور. لكن المخزن كان دائما يقوم بحملات تأديبية لقبائل الريف لإجهاض إرادة المقاومة الوطنية للشعب الريفي، وفي هذا السياق أقدم بوشتى البغدادي على حملة عسكرية على قبيلة إبقوين، إذ قام بقتل خيرة أبناء القبيلة غدرا، أتناء شروعهم في أداء فريضة الصلاة. وفي سنة 1893 غداة معركة سيدي ورياش البطولية، قام المخزن بإعتقال زعماء قبيلة إقرعين الريفية وسلمهم للمحتل الإسباني، لتشهد المنطقة إضطرابا سياسيا وتسود الفوضى ويقع تمرد كبير للمنطقة على السياسة المخزنية المتواطئة مع الإمبريالية. وفي ظل هاته الفترة الحرجة أقدم الروكي بوحمارة على بيع مناجم الريف للمحتل الإسباني، مما عجل بإندلاع ثورة وطنية عارمة قادها الزعيم الوطني محمد أمزيان لتقضي على بوحمارة وتلحق بالإسبان هزيمة نكراء في معركة إغزار ن أوشن سنة 1909. في هذه الظروف الخطيرة قام المركز المتمثل في المخزن، بتوقيع معاهدة الحماية بفاس 30 مارس 1912، لحماية مصالحه السياسية والإقتصادية معلنا عن دخول المغرب تحت إحتلال فرنساوإسبانيا. لتنطلق مقاومة وطنية ومشروع تحرري كبير بقيادة مولاي موحند، ليعلن سنة 1921 عن تأسيس كيان مستقل غير خاضع لمعاهدة الحماية تحت إسم جمهورية الريف، وحقق الشعب الريفي إنتصارات بطولية في أنوال، ودهار أبران، العروي والناظور. لكن التحالف الإمبريالي الغاشم أنهى طموحات إريفين في الحرية والإستقلال، ليتم سنة 1927 إجهاض مشروع دولة الريف ويستسلم مولاي موحند، وذلك بعد إلقاء الأسلحة الكيماوية على الريفيين وإستقدام أكثر من 950 ألف جندي غالبيتهم من عملاء الإستعمار. بإندلاع الحرب الأهلية الإسبانية 1936 – 1939 وقعت إسبانيا مع خليفة السلطان بتطوان إتفاق، يقضي بتجنيد الريفيين وزج بهم في الحرب الأهلية الإسبانية وذلك لإبادة ما تبقى من الشعب الريفي، إذ قتل في هذه الحرب الآلاف من المجندين الشباب والقاصرين. بعد الإستقلال الشكلي إستحوذ حزب الإستقلال وبعض مكونات ما يسمى بالحركة الوطنية على السلطة السياسية، وتم إبعاد إريفين عن مراكز القرار السياسي وتهميش الريف عن أي دور مستقبلي له في السياسة الوطنية. أمام هذه الخيانة تجاه المنطقة أعلن الثائر والزعيم الريفي محمد سلام أمزيان مع بعض قيادات جيش التحرير عن جملة من المطالب العادلة والمشروعة، سرعان ما جوبهت بتدخل عنيف ومسلح من طرف مليشيات حزب الإستقلال والجيش الملكي في سنة 58-59. حيث تعرض الريف لقمع همجي إذ تم إغتيال وقتل وإختطاف الآلاف من أبناء الريف وتمت تصفية جيش التحرير، وإغتصاب النساء وحرق الحقول والممتلكات في أعنف هجوم دولتي على شعب أعزل، يطالب فقط بحقه في التنمية ورفع الحصار والتهميش والعسكرة. غداة هاته الأحداث المؤلمة، سيدخل الريف تحت حصار مطول، إذ عملت الدولة الوليدة على تدمير البنية الإقتصادية والثقافية واللغوية للريف، بفرض التعريب الشامل للإنسان والمجال وأقصت الأمازيغية من الحماية الدستورية ومن الحق في النماء والتطور. كما قامت الدولة المغربية بتهجير الشباب الريفي إلى أروبا، وفرضت تقسيما أمنيا خطيرا إذ قسمت الريف على جهات لا تنسجم مع التاريخ والذاكرة واللغة المشتركة للريفيين، وبعد محاولات الإنقلاب على نظام الحسن الثاني سيتم تصفية النخبة العسكرية الريفية وحرمان أبناء الريف من الترقي في المؤسسة العسكرية. في ظل هذه المعاناة، سيقدم المخزن المغربي على نهج سياسة التقويم الهيكلي أو سياسة التقشف وقام بإغلاق باب مليلية المتنفس التجاري الوحيد للريفيين أثناء تلك الفترة، لتندلع بالريف سنة 1984 إنتفاضة عارمة إبتدأت بالناضور وإنتقلت إلى الحسيمة، تطوان والشاون ثم طنجة، خلفت هاته الأحداث عشرات القتلى والمفقودين، ومنات من المختطفين وذلك بعد تدخل وحدات من الجيش الملكي مدعومة بمختلف الآليات العسكرية، حيث إرتكبت جرائم ضد الإنسانية، وأطلقت الرصاص الحي بعشوائية وإقتحمت حرمات المنازل والمؤسسات الخاصة والعامة لتخلق حالة من الترهيب النفسي في حق ساكنة الريف. مع بداية التسعينات إنهار المعسكر الشرقي وسقط جدار برلين ودخل العالم تحت النظام الجديد، وفي ظل هذا المتغير الدولي، أقدم المخزن المغربي على تغيير سياسته الداخلية فعمل على إدماج مكونات اليسار في اللعبة المخزنية في إطار ما يسمى بالتناوب التوافقي. أمام هذا الواقع الجديد للمنظومة السياسية بالمغرب، إستمر نفس الخطاب السياسي الإقصائي لكل ما هو أمازيغي ريفي، حيث صوتت النخب المخزنية الجديدة التي تدعي إعتناقها للعقيدة الإشتراكية على دستور 1996 الذي كرس سياسة التعريب المطلق والإقصاء الشامل، وأضفى شرعية مقدسة على النظام المخزني. شكل موت الحسن الثاني سنة 1999، منعطفا حساسا لإمتحان صدق نوايا المخزن في التعامل بإيجابية مع الريف. وفي هذا السياق، أعلن المخزن عن مبادرة محتشمة للبدء في مصالحة وطنية، فأسس هيئة وطنية سميت بهيئة الإنصاف والمصالحة، هاته الأخيرة ساهمت بشكل كبير في تعميق الأزمة بين المخزن والريف وذلك لعدم قدرتها على تقديم الحقيقة للشعب. بل غيبت وتجاهلت مجازر النظام المخزني بالريف، وإعتبرت أحداث الريف 1958-1959 مجرد صراع بين أجهزة دولتية. ولتتعمق الأزمة أكثر بعد زلزال الحسيمة 2004، حيث أبان الزلزال عن واقع التهميش والإقصاء الذي تعرض له الريف كما أن تدخل الدولة لإنقاذ الأرواح، كان محتشما، بل قد تم إكتشاف تلاعبات خطيرة بالمساعدات الإنسانية المقدمة لضحايا الزلزال، وأمام إصرار المخزن في تعميق جراح أبناء الريف، إنطلقت بثامسينت إنتفاضة كبرى، عرت عن حقيقة الأوضاع بالحسيمة. في ظل هذه الظروف أقدم المخزن المغربي على إستقدام عناصر تدعي تمثيل الريف، بغية تدجين المنطقة وإحتوائها، وعلى هذا الأساس أقدم هؤلاء على تأسيس كيان حزبي، يدعي تمثيل مصالح المنطقة، وتمكن في ظرف وجيز من إستقطاب الأعيان والإنتهازيين، وبإندلاع شرارة الثورات المنادية بإسقاط النظام بشمال إفريقيا، أصبحت موازين القوى في صالح الإسلاميين والقوى المحافظة، لتضع الحرب أوزارها بين قطبين متنازعين على خدمة الأعتاب المخزنية وليشكل الريف مرة أخرى القربان الذي يجب التضحية به، وعليه تم حرق خمسة شبان ريفيين في وكالة بنكية بالحسيمة في أول تظاهرة لحركة 20 فبراير، وتنكشف جميع الأوراق وتتضح اللعبة أكثر بين فريق يقدم نفسه بكونه الضامن للإستقرار السياسي، وفريق أخر يبتز السلطة ويخلط الأوراق ويلعب على معاناة أبناء الريف.