إذا كانت حرب الريف تعني أجدادنا بالأساس، فإنها تعنينا نحن أيضا، وبشكل ليس أقل اهتماما أو آلاما. وإذا كانت هذه الحرب تعني أجدادنا على الأصح، فيصعب علي أن أقول عنها الكثير، إلا أنني لازلت أتذكر حجم الألم والحزن الذي خلفته هذه الحرب في نفسية جدي وجدتي على الأقل، وهو ما كان يتجسد في لحظات شرودهما أحيانا، قبل الدخول في حوار غير معلن مع الذات واسترجاع الماضي… حتى الخوض في ذكريات هذه الحرب كان يدخل في إطار الطابوهات المؤرقة، ما دامت اللغة تبقى غير قادرة على فهم الآثار الحقيقية لانعكاسات هذه الحرب على المشاركين فيها. ومع مرور السنوات، زرت منطقة الشاون مع والدي، في كثير من المناسبات. حضور الحرب، طبعا، لم يكن فكرة مؤسسة لدي، لكنني قررت الاقتراب من الموضوع، من خلال الدراسة عنه، حيث اكتشفت أن الكثير من الناس، في المغرب واسبانيا، يجهلون تماما تاريخ تلك الحقبة، وكذا الحكاية، في حين كان البعض الآخر على معرفة دقيقة وعميقة بتفاصيل الوقائع، من خلال الإطلاع على الوثائق والكتب والموسوعات. أما الأجيال التي تلت تلك الفترة، بما فيها جيلي، سواء في اسبانيا أو المغرب، فليس لهم علم أو اهتمام بأحداث هذه الحرب. ومن منطلق القراءة المتأنية والرصينة والحتمية، افترضت أنه من الضروري استحضار السياق الجيوسياسي لتأطير ماجرى. ويمكن القول إن اسبانيا قد وصلت إلى منطقة الريف في إطار نيل نصيبها من الاحتلال، مرغمة بأمر من إنجلترا وفرنسا، وبترخيص دولي للاستعمار، وزج بها في حرب لم يردها ولم يخترها أفراد الجيش الاسباني. وأعتقد أن قرار الحرب كان خطأ، يكفي أن نشير إلى أن نفس الجنود المشاركين في حرب الريف، هم الذين قادوا ونفذوا الانقلاب العسكري في اسبانيا لاحقا. فقد ضمت كتائب الحرب قطاعا واسعا من معارضي فرانكو، بل منهم من كان يحتل المغرب مكانة عشق واحترام خاصين في قلبه، إذ اعتقدوا أن رحلتهم ستدخل في إطار تنفيذ مهمة حضارية. لذا أعتقد أن استرجاع هذه “الحكاية المنسية” كتاريخ أزمة وظلم يستهدف تنوير الأجيال القادمة، وإتاحة فرصة ممكنة، أمامهم، للتعرف على ما جرى. وهي حرب، كما سبق أن ذكرت، لم يرغب في خوضها، على الأقل، كثير من الأشخاص الذين اقتيدوا إليها. أنا لست مؤرخا، ولكن الفيلم سيتيح للمهتمين إكمال زوايا الرؤية إلى هذه الحقبة… مع التأكيد على أن الدور الذي سيلعبه هذا الوثائقي هو تحسيس الناس بالموضوع، ومحاولة الإسهام في شرح المفاتيح والأسئلة الأساسية. أعرف جيدا أنه من الصعب اختزال 15 سنة من الحرب في شريط لا يمتد سوى 77 دقيقة. بكل ما تعنيه الحرب من تفاصيل ووقائع، حيث إن كل سنة من الزمن الحقيقي للحكاية كانت تستحق وثائقيا خاصا بها. في الأخير إن ما حاولت أن أحققه هو أن أقدم معرضا عاما للحرب، دون الضياع في متاهات التفاصيل والجزئيات، والوقوع في خضم من المواجهات والتصادم حول حقيقة ماجرى، ودون أن أدعي النفاذ إلى الأسباب المباشرة التي أدت إلى اندلاع هذه الحرب، لأنني لم أكن هناك. المهم هو أن جمهور الفيلم، من المغرب وفرنسا واسبانيا، على السواء، سيستمتع بالحكاية وستثيره المشاهدة، ولا يفوتني أن أشيد بتلك اللمسة المبدعة التي أضافها الممثل “إيمنولو أرياس” على الفيلم، التي تجسدت فيه صوتا، سردا، وإيقاعا… مانويل أوريو ترجمة: محسن الشركي كلمة جمعية أمزيان كيف يمكن إعادة بناء وترميم الذاكرة المشتركة؟ وما هي سبل ربط الحاضر بالماضي لاستشراق المستقبل؟ كيف يمكن للسينما أن تساهم في التنقيب والبحث في ثنايا الماضي والتاريخ الوطني الحافل بالأحداث والمحطات والرموز الوطنية؟ وإلى أي حد نستطيع تضميد جراح الأمس ومفارقات اليوم على نحو يؤسس لمداخل ذاكرة قوية انطلاقا من التاريخ المنسي والمغيب؟ لقد أصبحت العديد من فصول التاريخ المرتبط بذاكرة الريف عبر محطات كثيرة، في أمس الحاجة إلى من يلقي عليها مزيدا من الأضواء وعلى زواياها المعتمة ويميط عنها غطاء النسيان والتناسي والطمس ويحررها من براثين “الأسطرة” والخرافة، كأساس لذاكرة خصوصية وكونية مشرقة. وتعد فصول وبطولات حرب الريف التحريرية خلال عشرينيات القرن الماضي واحدة من أبرز تجليات شريط الذاكرة الجماعية الوقادة، إلى جانب فصول الحرب الأهلية الإسبانية (1939-1936) التي عرفت إشراك العديد من المغاربة وممن عرفوا بالأفريقانيين. وإذا كانت الكتابات التاريخية قد عالجت في بعض مستوياتها هذه الأحداث من منظورها الخاص، فإن فيلم “التاريخ المنسي” لمخرجه مانويل أوريو حاول أن يسترجع هذه الأحداث و”الحكايات المنسية” ومعالجتها من منظور آخر ومغاير لكنه يتوخى في جوهره إتاحة فرصة ممكنة “للأجيال القادمة قصد معرفة هذا التاريخ ويتيح أمامهم إمكانية” إكمال زوايا الرؤية إلى هذه الحقبة. وفي انتظار المصالحة الحقيقية مع الذات والتاريخ والماضي، تبقى كل السبل الثقافية والفنية والمداخل التاريخية والحضارية هي الممكنة من أجل استعادة روح الذاكرة الحية والمشتركة. جمعية أمزيان