هذا الكتاب لقاءٌ، أو بالأحرى ثمرة لقاء. فأما أحدنا، فمولود في الإسكندرية، ويعيش في باريس، وأما الآخر، فمولود في الجديدة، على الساحل الأطلسي، ويعيش في المغرب. كان التقاؤنا من حول كتبنا ومن حول كتاباتنا. ثم لم نسلم من إغراء مواصلة هذه الاندفاعة [نحو بعضنا البعض]. لكننا حرصنا، على امتداد هذه السنوات الأربع، ألا نفرط في شيء من جوهر أدبيات الالتقاء. لقد كانت أحداث من قبيل ندوة الرباط عن الازدواجية اللغوية، أو أحداث أخرى، على صعيد آخر مختلف، من قبيل حرب لبنان، هي التي يفترض أنها تمنح هذه الرسائل قوتَها القاطعة. وعليه، فقد لزمنا، كما لو من غير إدراك منا، أن نعتصم بما بدا لنا شيئاً أساسياً؛ ألا وهي اللغة، والتاريخ، والعلاقات الملتبسة القائمة بين ما هو أغلبي وما هو أقلي، وبين ما هو أهلي وما يسمى دخيلاً، وفي الأخير عودة الديني والأصولي، اللذين صار يتعين على اليهود والمسلمين والمسيحيين في الشرق الأوسط أن يواجهوهما في الوقت الراهن، كلاً على طريقته. لقد كنا مشغوليْن بقضية لا نرانا وفَّيناها حق قدرها، ما جعلنا نطرق هذه المشكلات في عجالة، وفي تصميم على أن نقول، في زمن تعمدنا تحديده [وعدم الخروج عنه]، ما كان يهمنا [دون سواه]. وكانت النتيجة : كتاباً مشتركاً يؤكد اختلافاتنا والتقاءاتنا من حول تاريخ قديم، ضارب في القدم. ترانا وفينا بهذا الوعد؟ إن حكمه يعود إلى القارئ، ويقع عليه، كذلك، أن يدفع بالنقاش من حيث يرى، بدوره، أنه ينخرط في هذا الضرب من التراسل. ولنكرر القول إنه تراسل كان قد انطبع بمشروع محتمل للنشر، وبسر بيِّن مكشوف. أعود، مرة أخرى، إلى الحرف، وإلى حب الحرف. ترانا نكتب في الكتاب الواحد؟ واسمك الشخصي، هل هو ضرب من الكناية؟ ويهودي الشتات، هل هو تحويل لامتماثل للاسمين؟ إن ما فلأن هذه الأخيرة، في ما يبدو لي، وفي ما يتعدى مفهوم الكتاب، وتعاليه، تعالي الجسد العابر، قد تكون قديمة قدم الكلام. أريد أن أقول إن التصوف لم ينشأ مع مفهوم الله أو بعده، بل أرجح أن يكون الإمكانية التلفظية لخلق آلهة. إن التصوف الذي تتداوله الألسن عامة، هو ذلك التصوف الذي يتعارض ويتلاشى في اللاهوت، إنه تصوف متأخر. لقد تطور في المضمار الديني كمثل الآخر في القانون اللاهوتي. أتساءل. وفيما أتساءل، ألبث حذراً. لكن يسوغ لنا أن نتصور أن كلمة «أسرار» تحمل معها كل القوة الصوفية لجسد ولغة، بشكل خالد. وفعل النسيان هو الذي يمكننا أن نختصر التصوف إلى الزهدية بمعناها الجيني الحقيقي. وهو ما يحصر لغتنا في لغة الإلهي، والضريبة يحد من خياله الأزلي. ما هي الكلمة العبرية التي تدل على مفهوم السر؟ لقد وجدت تجانساً للمتضادات في العربية الأسرار، التي تعني، في وقت واحد، الاحتفاظ بالسر وإشاعته. يبدو أن هذه الكلمة في العبرية توافق (حشيرة)، وفي السريانية .... وأقول، استطراداً، إنني وأنا أقرأ السريانية، قد رأيت بها أصل الأسلوب الخطي الكوفي، وهو أصل بقي، إلى هذا اليوم، «غامضاً»، لأن المسلمين لم يشاءوا أن يتطرقوا إلى السريانية. أن ينظروا إليها بما هي أصل لكتابتهم. والحال أنني أرى اليوم [ذلك]، أو على الأقل أنا مقتنع بأنني أراه. وعدا ذلك، فأنت تعلم أن فرويد، في كتابه «تأويل الأحلام» (مايرس، ص. 274)، وكذلك (كلمة الروح وعلاقاتها باللاوعي، في حديثه عن علاقة الأضداد؛ وهي دراسة ألمع إليها في تقريره الشهير. وقد بالغ فرويد قليلاً عندما كتب : «... إن اللغات البدائية تعبر عن نفسها على هذا الصعيد، كالحلم : فهي لم تكن لها في البداية غير كلمة [للإشارة] إلى النقطتين المتعارضتين من سلسلة من الخصائص أو الأفعال : قوي ? ضعيف، وشيخ ? شاب، وقريب ? بعيد، ومتصل ? منفصل. فأما الألفاظ الخاصة المشار بها إلى الأضداد، فهي لم تظهر إلا في وقت لاحق، على أثر تغيير طفيف لحق اللفظ البدائي». وألفت انتباهك إلى هذه (البداية) وهذه (الوقت المتأخر)؛ أي فرضية غريبة؟ عن السامية، وعن حفريات البدائية، حفريات فرويد الخاصة به، وربما [سنحت لنا الفرصة] للعودة إلى هذه القضية؛ قضية التباس الأضداد وتجانسها، استذكاراً لبرج بابل. فهل كان فرويد يحمل، والحالة هذه، تصوراً بابلياً لمفهوم اللغة؟ أترك هذا التساؤل لتفكيرك. وأحييك بهذه الكلمات. استدراك : سألتني عن اسم «الرباط». إنه يدل على نوع من المعابد القروسطية المحصنة؛ حيث كان المجاهدون (تحديداً المرابطون) يمكثون لبعض الوقت، يعيشون حياة الشظف، خلال أوقات الهدنة التي تتخلل الحروب. والرباطات كانت توجد على حدود الإمبراطورية الإسلامية، وكثيراً ما كانت تقوم في مواضع متقدمة داخل التراب المسيحي. ع. الخطيبي باريس، 19 يوليوز 1981 عزيزي الخطيبي، عليَّ أن أذهب غداً إلى جنوبإسبانيا؛ ذلك الفضاء الأسطوري الذي ظللت استبعدته طوال سنين من تطوافي. فقد كان لي عذر وجيه في شخص الجنرال فرانكو، كما أني بقيت وفياً لقسمي : «لن أضع فيها قدمي ما دام حياً...». وكأني كنت أتماهى مع شخصية خارجة من الخرافة الكبيرة للحرب البطولية. وأفترض اليوم أن مقاومتي كان لها سبب آخر. إن إسبانيا تمثل لي ما يمكن لمصر أن تكون تمثل لأبناء أبنائي. أرض مجد، أرض انغراسات واقتلاعات، أرض رقة ودم... لقد امتنعت منذ زمن طويل عن سماع غير الألفاظ الأولى في هذه السلسلة من الخيارات. قد يُتفق لابن خؤولة قديم يحمل اسماً من اشتقاق نزوي، أو عمة عجوز شغوفة بأسماء الأعلام، تعود بفرع من فروع الأسرة إلى خيريث ده لافرونتيرا، وفرع آخر إلى برشلونة، حسبما أعتقد. ولسوغ تضحك لسماعهما يتحدثان عن تينك المدينتين في عظمة قرن رابع عشر أسطوري. ومن البديهي أنهم يتسلحون برسائل النبالة المتوهمة تلك، وأفضلها هو قرار الطرد لسنة 1492. كل ذلك من أجل خلق «تمييز» على المدى البعيد لا يقدر بثمن. وكما ترى، فإن أولئك الأشخاص الذين يعمرون الشوارع بالحنين اليهودي يعانون من تذكر يقوم لديهم مقام تاريخ ومقام تراب. إن الملحاحية التي تعود بها هذه الصور المجيدة تعطي قوة وكثافة لنص يعتبره الكثيرون بالياً نخراً. من فرط ما استعمِل. وربما يحضر ههنا سؤال : هل البوصلة تبلى؟ أبغي بهذا أن أقول لك إنني أعجبت كثيراً بقصة الإله الغروشي الماركسي، المهرج وغير المقنع. ألم يتعرفوا عليه؟ لقد كان متغير الشكل، وطالما كان يقول الحقيقة. كما هي الرغبة خلال الحلم أو في زلة اللسان. إنني تستخفني الرغبة أن أقوم بفعل ساخر على شيء من الطيش، شبيه بذلك الذي كان يحرك أولئك المفكرين الأحرار اليهود في الماضي، الذين كانوا في يوم الصوم يتجولون من حول الأديرة وهم يأكلون السندويشات بالجانبون، فيما إخوتهم ينهكون أنفسهم في الصوم والصلاة. وربما يحسن بي أن أفعل كمثل ذلك الطيش اليوم، ولاسيما أن كثيراً من أولئك المناهضين للإكليروس قد استبدلوا الله بتأليه أخرق ومناف للعقل من كل الوجوه، تأليه للقوة والعنف. لكن لنعد إلى ما يمكن أن يجعلني أكثر ميلاً إلى الخيال. بودي أن أتحدث عن تلك الأجزاء المقصاة من اللغة ومن التاريخ، التي تنبني عليها (أو قد تنبني عليها) الفرضية التالية : إن عجز المسلمين عن رؤية اللغة السريانية، ذلك الخط الذي كان متداولاً عند المسيحيين قبل نزول الوحي الإسلامي، والذي استولى عليه العرب بعد ذلك، ليصيروه «كتابة مقدسة»، هو ما جعل الخط الكوفي يعرف الذيوع لديهم. إن كوني أصم عن جانب من تاريخي، هو ما يجعلني أنشئه. لكن الشعور بتاريخ ما في صورة عنف خالص، هو ما يجعله، كذلك، يفرض نفسه أحياناً، بقوة البداهة ما كان معروفاً منذ الأزل. كيف؟ بكل بساطة، بالعودة إلى سائر أولئك الذين قد يكونون خطوا تلك الخطوة الجانبية التي تسمح لنا بقراءة نص بقي متأبياً عن القراءة إلى اليوم؟ إن هذا الثالث الذي أشركه في مشروعي يرسم في حركة متواترة مساراً يرسم نقطة استفهام. بيد أنه انحراف تعجبي ينخرط في ماض بات اليوم قابلاً للقراءة. هل يحضر في اسمينا الشخصيين ذلك الطابع الكنائي الذي تتحدث عنه؟ وهل يمتلك كل اسم شخصي هذه الخاصية؟... ... هل تقول إنه لا تساوق؟ سأترك جانباً مظهر اليهودي في الشتات، لأن هاتين الكلمتين هما عندي متلازمتان لا تنفصلان. ولسوف أعود إلى هذا الأمر. سأقول لك ما يستدعي عندي هذا اللاتساوق : إنه يستدعي عندي تعدد المعنى الذي يقترن في العبرية باللفظ الذي يشير إلى القداسة المطلقة : «قادوش»، الذي تتحدث به «الفيالق السماوية» عن الألوهية. والحال أنه قد درج اليهود منذ أمد طويل على تسمية المومس «قاديشا» : هل يكون تأنيث كلمة من الكلمات هو الذي يجعل القديس بامتياز مومساً؟ سيكون قولاً مفرطاً في التبسيط في نظري. ربما تكون حيرة قسم من هذه الأنوثة، وهي حيرة جذرية قد تشبه استئصالاً، هو الذي يسمح بتعريض الاسم الموصوف لعملية كيماوية عجيبة. وذلك هو المفسر لانتقال ذلك اللفظ المشير إلى المومس ليدخل مدخل الصفة الإلهية. إن هذه الكيمياء هي أيضاً أضحوكة يسبق فيها التوحيد التفرقة، والتحدي الالتباسات. وأتوقف عند هذا الحد. إنني أكتب إليك وأنا في عجالة من الوقت قبل الرحيل. بكل ود جاك حسون الرباط، 18 يناير 1982 عزيزي جاك، أمكنني، أخيراً، أن أقرأ مقال لاغاش عن التعددية اللغوية، والذي يعود إلى سنة 1956 . لقد تناول فيه، بكثير من البيان، مسألةَ العلاقة بين التحليل النفسي واللغة الأم، اعتماداً على كرافت وكتابه «اختيار اللغة وتحليل التعدد اللغوي». هل تعرف بهذا الكتاب الأخير؟ يبدو أنه كتاب ذو أهمية، حسب ما يفيدنا الملخص الذي وضعه له لاغاش. فقد كتب : «يبدو من التصورات الرائجة، أن التحليل ينبغي أن يتناول اللغة الأكثر قابلية للتحليل، وما تلك، لزوماً، إلا اللغة الأم، اللغة الأولى التي يتعلمها الإنسان. ومن الممكن أن الدخول في الصراعات القديمة والبالية يساعد عليه اللجوء إلى اللغة الأم، فأما من الناحية التقنية، فإن التحليل سيقتضي أن يكون من يحلل لغة من اللغات مجيداً لهذه اللغة». وبناء عليه، فإن لاغاش يكون ههنا يضع تركيباً لمقترحات كرافت : «... إن لجوء المريض إلى اللغة الأم يمنحه إمكانية كبرى للتعبير عن نفسه، ولو كان في هذا الأمر ما يخل بالتواصل مع المحلل، لكن يمكنه أن يصطدم ببعض التعارضات العتيقة البالغة القسوة، وأما لجوء المريض إلى لغة أخرى ثانية مكتسبة، سواء أكانت له لغة استعمالية أو لغة ثقافية، فإنه يمنحه إمكانيات كبيرة لقمع [ذاته]، سواء بما يقع له من الابتعاد عن انفعالاته واستيهاماته، أو بما يقع له من الاستلاب في مثال للذات «غريب»، وربما مكن له اللجوء إلى لغة ثانية، كذلك، أن يقارب عصاباً نفسياً لن تسعف على تناوله اللغة الأم. وبذا، تظهر مؤشرات تقنية لاختيار اللغة، أو تغيير اللغة في أثناء التحليل». وسأعود، في ما بعد، لأستشهد من هذا المقال، بتتبعه عن كثب. فهو مقال كثيف، قد حشد في صفحاته المعدودة مقترحات تبدو لي أساسية. وأما أنا، فلم يسبق لي أن خضعت للتحليل [تصريح تقتصر صحته على ما قبل هذا التاريخ]. لكني أحسني شديد الانخراط في هذه التأملات. إن كرافت متعدد اللسان (فهو يجيد أربع لغات)، ولاغاش يقول إن اللغة الأنجليزية هي التي تسعفه في أن يقوم بالتحليل في لغة أخرى غير لغته الأم. وتلك وضعية مزدوجة اللسان، لكنه يصرح، في الوقت نفسه، إن معرفته النسبية باللغة الألمانية واللغة الإسبانية تسمح له بأن يستعمل، في بعض الأحيان، تعددية لغوية شذرية، ومحدودة النطاق. فما هي المشاهدة التي تصير ممكنة في هذه الحالة؟ أسوق من هذا المقال كذلك : «فأما من ناحية اختيار اللغة، فيمكننا أن نميز بين عدة «وضعيات لغوية». في الوضعية الأشد مألوفية، تكون لغة التحليل هي اللغة الرئيسية، عند المحلل، لا عند المحلَّل. وأما في المشهد الثاني، فيسوق لاغاش عدة أمثلة، نرى فيها كيف أن اللغة الأم التي لا تعود تقاوم، ولا تعود بعد سرية، وهي تعود إلى الينابيع، فهو يؤكد على «بداية جديدة». وأما في المشهد الثالث، فيضرب مثالاً بتحليل أثير عليه؛ «النبر الفرنسي في اللغة الأنجليزية»، نوع من الافتتان بالرطانة الأنجليزية، وزواج لغة بأخرى. وفي المشهد الرابع والأخير، يتحدث «عن الدفاع عن طريق عزل المؤثرات وتحييدها»، لكن، كذلك، تظهر لغة المحلل في صورة «لغة للحب». لن أسوق ههنا المقال كله (فقد أعيد نشره مؤخراً)، لكن هاك الفرضيات التي دافع عنها هذا المحلل النفسي المأسوف عليه : «في التحليل المتعدد اللغة، لا ينبغي اعتبار اختيار اللغة والانتقال من لغة إلى أخرى مجرد عمليات ضبط موضوعية للتواصل اللفظي؛ بل إنها تترجم حركات من المقاومة، والنقل والحياة الاستيهامية للمريض. وربما كانت اللغة الأم، لشدة قربها إلى التنازعات البدائية، هي وحدها القادرة على إتاحة الولوج الكامل إليها». بيد أن طبيعة هذه الصراعات نفسها، يمكنها أن تلفظ اللغة الأم، أو «تمنع» من استعمالها. وأما لغة الانتقاء فهي الأنا المثالي، وهي تحفل، بصفتها تلك، بإمكانيات كبيرة للدفاع والهروب. إن لغة الاستعمال تتيح، في كثير من الأحيان، الإمكانية لإقامة تسوية واقعية. فلو أن مريضاً متعدد اللغات قد حصر نفسه بصرامة في اللغة التي درج على استعمالها، سواء أكانت لغته أو لغة المحلل، كان ذلك الامتناع يوافق انغلاقه أو امتناعه. ولو كان أكثر مرونة، أو لو صار أكثر مرونة، بما يخدم العلاج، فيمكننا أن نشهد عودة للغة الأم، وأن تصير تنازعات فترة الطفولة، في الوقت نفسه، أكثر قابلية للفهم والاستيعاب... إن العودة إلى اللغة الثانية، التي ليست هي اللغة الأم، أو اللغة الأفضل استعمالاً، يتيح، على الدوام، إمكانية للدفاع، لأن كلماتها لا تواكب إلا قليلاً من التداعيات، وقليلاً من المؤثرات. لكن لا يقتصر أمرها على ما ذكرت، فإذا اتفق أن كانت هي لغة المحلل، فإن استعمالها ربما كان، كذلك، محاولة للتقرب، وطلباً للحب. وعليه، فإن التعدد اللغوي عند المحلل يسعفه في التلاؤم مع مختلف أوجه شخصية المريض، وفي مختلف فترات حياته . «فماذا ترى؟ أعلم، لقد قرأت كتابك «شذرات اللغة الأم»، ثم ماذا؟ إنني إن كنت أحدثك عن هذا المقال، فلأنه يثير اهتمامي، بحتمية الأمور، لأجل مهنتي : الكتابة، محاولة أن أكتب لا ما ندعوه مسكوتاً عنه فسحب، بل وإظهار سابقية للتماثيل والمظاهر، تتجاوز كل مفهوم للأصل. كتابة بدون موضوع، وإذا كان الموضوع سراً، فهو مثل السر، بمعنى أننا لا يمكننا أن نقول عن السر إنه هذا، أو ليس هذا، أو إنه مخفى، أو متجل كلياً، بالعكس، أو إنه قابل للقول، أو متعذر القول. عن السر : انبثاق التمثال. وإن هذا الاصطناع الخفي، تحديداً، أن نكتب من غير موضوع، ومن غير أن نعود إلى الينابيع، وطرد للعائدين، والأسماء بطريق الجمع أو التفريق، وكل الكيفيات، أن نكتب من غير موضوع، بكل اللغات، وشذرات اللغات (المتوهمة). لاشيء يعود، وإن عاد، فليس في صورة دائرة : ميتافيزيقية، أو لاهوتية، لا يهم! إن ههنا شيئاً من أنت، وما يشبه الصمت في الصمت، صمت يتظاهر لكي يتكلم عن لاشيء، ولكي لا يبلغ شيئاً. وعليه، فإنني أرى فكرة الطرس نفسها، تناسب هذه المحاولة لاستباق التماثيل من أجل ألا نعود إلى الأصل. فما اللغة بالأمومية، ولا بالأبوية، كما هو القانون. لم أوضح وجهة النظر هذه، للانتقال من القانون إلى اللغة الأم. وأكثر من ذلك، إنني على اقتناع أننا ينبغي لنا، ونحن بصدد المشكلات المتعذرة الحلول، أن نستمسك بوضوح يعاني، وقد عانى، وأن نتخفف من كل ثقل أصلي، وننذر أنفسنا لفكر آخر ينبثق. لذلك، كان مطلع هذه السنة خيراً عليَّ. وتذكر اليوم الأول للقائنا؛ فقد أهديتك كتيبي عن «ألف ليلة وليلة ثالثة». كانت إشارة. وإن مبدأ شهرزاد، الذي حاولت أن أحلله، أجد له أشباهاً ونظائر عند ذلك الكاتب الاستثنائي، أقصد موريس بلانشو. وأما من جهة أخرى، ففي كتابه «حوار لامتناه»، التقطت ما يلي : «... أن تتكلم أو تقتل، فالكلام لا يتمثل في الكلام، بل يتمثل أولاً في إطالة حركة الأوْ، فهي التي تؤسس للتناوبية، بأن نتكلم دائماً انطلاقاً من ذلك الفاصل بين الكلام والعنف الجذري، الذي يفصل الواحد عن الآخر، مع الإبقاء عليهما في علاقة تعاقبية» (ص. 88). وقد قرأت، في ما بعدُ، ذات مساء، قصة للكاتب نفسه، هي الموسومة «السامق»، وهي تنتهي بهذا المشهد المروع : «وإذن، فقد جثا، واستل مسدسه. ثبتت الفرضة التي يتسلل منها ضوء النهار. كانت تنظر هي أيضاً إلى السلاح، فكنت أعرف أنها طالما لم ترفع عينيها، سيكون لدي متسع من الوقت. أبقيت عيني مغمضتين، لا أسمع شيئاً. بتؤدة، انتصب السلاح. نظرت إليَّ وابتسمت، وقالت : «إذن، وداعاً». حاولت أن أبتسم، أنا أيضاً. لكن فجأة، تجمد وجهها، وامتدت ذراعها من العنف، حتى لقد قفزت لأصطدم بالحاجز، وأنا أصرخ : - الآن، الآن أتكلم». نعم، إن مطلع هذه السنة يبتسم لي. وفرحة، فرحة مسحورة تأخذ بي لهذا الخيار. إنني أشتغل وفق فكر مختلف، فكر ما هو بالحكيم ولا المجنون، نوع من فلسفة الزندقة، والطيش الفادح للأشياء أو الشخصيات أو الأشخاص الذين يشيرون إليَّ. إن الكارثة الأورفية ستقع، وأنا أعيش، وأكتب ثملاً من «ألف ليلة وليلة رابعة». ذلك هو المستجد الذي تحمله إليَّ هذه السنة. أحييك. باريس، 28 يناير 1982 عزيزي جاك، وصلتني رسالتك الأخيرة لحظة أن طُلِب مني أن أتوجه إلى كبيك لملاقاة بعض زملائي المحللين النفسيين. فها أنذا أبعث إليك بهذه الأسطر، قبل ثمان وأربعين ساعة من مغادرتي لفرنسا. وقد عدت، في أثناء ذلك، إلى قراءة رسالتك مرات كثيرة كأنها معلم يهديني السبيل التي فيها انخرطت. ثم أنني لم يكن في نيتي أن أتحدث، خلال هذه الرحلة، عن اللغة، بل حررت نصوصاً عن أشكال الفساد المؤسسي، وعن فرويد، وكلمته الروحية الأخيرة (موسى والوحدانية)، وفي الأخير عن المسيرات والمسارات التي يبدو أن الأحياء إليها منذورون. سنكون، حسبما تقول، في ما يتعلق بالتأويل (في نص لا أجد له بعد مرجعاً...) بصدد «مباعدة تمزيقية في في صميم المتعة التي تقيمها الكلمات في ما بينها أثناء الانتقال من لغة إلى أخرى». فأي صلة تقيمها بين ذلك التمزيق وبين الفرضية النظرية التي جاء بها لاغاش؟ يبدو لي إن هذا الأخير يطرح مسألة ما أسميه «جن اللغة»، التي يطيب لي أن أتصورها في شكل إيروس من البرونز جاثم فوق عمود مقام في موقع كان لقلعة دُكت، لكن اسمها سيظل يُتناقل بفضل ذلك النُّصب. إن جن اللغة يصدر عن تلك اللااختزالية التي تحدثت عنها. لكن ما سبيلنا إلى أن نسمع هذا الجن، ما لم نقم بانتقال يخلق النسبي بفتحه إمكانية الكتابة، انطلاقاً من شذرات يعاد ابتعاثها على الدوام في المتاجرة مع الآخر. ثم أليس هو صمتاً رهيباً في الأحادية اللغوية المطلقة؟ وأخيراً، هل تكون الأحادية اللغوية المطلقة شيئاً قابلاً لأن يُتصور؟ أشك في ذلك. شيء آخر : لقد أردت أن أقول لك إن لقاءنا في الرباط قد مكنني أن أربط ما كنت قد تركته جانباً خلال بضع سنوات، وأن أنتهي منه، كذلك، بشيء من الالتصاق. فلقد خرجت من الرباط شديد التأثر من اللقاءات التي أجدتَ في حبكها وتنطيمها. فهذا جعلني أقرر أن أنشر نصاً في «المجلة الفلسطينية»، وذلك شيء كان يمكنني أن أقوم به في غير ما إدراك ولا قصد منذ عشر سنوات. فأنا اليوم أنجزه... اليوم في تأن وبطء شديدين. وبشأن لقاء الصعود، فإنني أركب رهاناً أن أجمع أشخاصاً قد توفرت لديهم تجربة الكتابة. ويتمثل التعاقد في أن يأتي كل واحد منا بنص قد كتبناه سلفاً، ويكون يستشرف نقطة الوصول التي نؤمل أن يكون حديثنا منها. وينبغي أن تكون العروض والمداخلات شديد القِصر، لكي تفسح المجال للنقاش. وسوف نخصص اليوم الأخير من ذلك اللقاء لجمع (التقاط) القصاصات، وربما قمنا بتوزيعة جديدة، لأنني أتصور لتلك القصاصات أن تكون هي نقاط الالتقاء (التي أتوقع أن تكون كثيرة) بين المشاركين غير المتجانسين. ولك أن تتصور مدى حرصي على أن تشاركنا هذه التجربة (التي ليست، كذلك، بالغريبة عن لعبة «الجثة اللذيذة»... وقد زحزحت درجة). سأعود الآن إلى ما كنت فيه من عجلة. إنني مضطرب قليلاً على الدوام، بفعل تلك الأسفار. لكني صرت أجدها تزداد لي لزوماً بتوالي السنين. ولربما حدثتك في رسالة قريبة عن كتاب، «جان ذات الكلاب»، فلقد أثارني كثيراً.