هذا الكتاب لقاءٌ، أو بالأحرى ثمرة لقاء. فأما أحدنا، فمولود في الإسكندرية، ويعيش في باريس، وأما الآخر، فمولود في الجديدة، على الساحل الأطلسي، ويعيش في المغرب. كان التقاؤنا من حول كتبنا ومن حول كتاباتنا. ثم لم نسلم من إغراء مواصلة هذه الاندفاعة [نحو بعضنا البعض]. لكننا حرصنا، على امتداد هذه السنوات الأربع، ألا نفرط في شيء من جوهر أدبيات الالتقاء. لقد كانت أحداث من قبيل ندوة الرباط عن الازدواجية اللغوية، أو أحداث أخرى، على صعيد آخر مختلف، من قبيل حرب لبنان، هي التي يفترض أنها تمنح هذه الرسائل قوتَها القاطعة. وعليه، فقد لزمنا، كما لو من غير إدراك منا، أن نعتصم بما بدا لنا شيئاً أساسياً؛ ألا وهي اللغة، والتاريخ، والعلاقات الملتبسة القائمة بين ما هو أغلبي وما هو أقلي، وبين ما هو أهلي وما يسمى دخيلاً، وفي الأخير عودة الديني والأصولي، اللذين صار يتعين على اليهود والمسلمين والمسيحيين في الشرق الأوسط أن يواجهوهما في الوقت الراهن، كلاً على طريقته. لقد كنا مشغوليْن بقضية لا نرانا وفَّيناها حق قدرها، ما جعلنا نطرق هذه المشكلات في عجالة، وفي تصميم على أن نقول، في زمن تعمدنا تحديده [وعدم الخروج عنه]، ما كان يهمنا [دون سواه]. وكانت النتيجة : كتاباً مشتركاً يؤكد اختلافاتنا والتقاءاتنا من حول تاريخ قديم، ضارب في القدم. ترانا وفينا بهذا الوعد؟ إن حكمه يعود إلى القارئ، ويقع عليه، كذلك، أن يدفع بالنقاش من حيث يرى، بدوره، أنه ينخرط في هذا الضرب من التراسل. ولنكرر القول إنه تراسل كان قد انطبع بمشروع محتمل للنشر، وبسر بيِّن مكشوف. باريس، 28 يناير 1982 عزيزي جاك، وصلتني رسالتك الأخيرة لحظة أن طُلِب مني أن أتوجه إلى كبيك لملاقاة بعض زملائي المحللين النفسيين. فها أنذا أبعث إليك بهذه الأسطر، قبل ثمان وأربعين ساعة من مغادرتي لفرنسا. وقد عدت، في أثناء ذلك، إلى قراءة رسالتك مرات كثيرة كأنها معلم يهديني السبيل التي فيها انخرطت. ثم أنني لم يكن في نيتي أن أتحدث، خلال هذه الرحلة، عن اللغة، بل حررت نصوصاً عن أشكال الفساد المؤسسي، وعن فرويد، وكلمته الروحية الأخيرة (موسى والوحدانية)، وفي الأخير عن المسيرات والمسارات التي يبدو أن الأحياء إليها منذورون. سنكون، حسبما تقول، في ما يتعلق بالتأويل (في نص لا أجد له بعد مرجعاً...) بصدد «مباعدة تمزيقية في في صميم المتعة التي تقيمها الكلمات في ما بينها أثناء الانتقال من لغة إلى أخرى». فأي صلة تقيمها بين ذلك التمزيق وبين الفرضية النظرية التي جاء بها لاغاش؟ يبدو لي إن هذا الأخير يطرح مسألة ما أسميه «جن اللغة»، التي يطيب لي أن أتصورها في شكل إيروس من البرونز جاثم فوق عمود مقام في موقع كان لقلعة دُكت، لكن اسمها سيظل يُتناقل بفضل ذلك النُّصب. إن جن اللغة يصدر عن تلك اللااختزالية التي تحدثت عنها. لكن ما سبيلنا إلى أن نسمع هذا الجن، ما لم نقم بانتقال يخلق النسبي بفتحه إمكانية الكتابة، انطلاقاً من شذرات يعاد ابتعاثها على الدوام في المتاجرة مع الآخر. ثم أليس هو صمتاً رهيباً في الأحادية اللغوية المطلقة؟ وأخيراً، هل تكون الأحادية اللغوية المطلقة شيئاً قابلاً لأن يُتصور؟ أشك في ذلك. شيء آخر : لقد أردت أن أقول لك إن لقاءنا في الرباط قد مكنني أن أربط ما كنت قد تركته جانباً خلال بضع سنوات، وأن أنتهي منه، كذلك، بشيء من الالتصاق. فلقد خرجت من الرباط شديد التأثر من اللقاءات التي أجدتَ في حبكها وتنطيمها. فهذا جعلني أقرر أن أنشر نصاً في «المجلة الفلسطينية»، وذلك شيء كان يمكنني أن أقوم به في غير ما إدراك ولا قصد منذ عشر سنوات. فأنا اليوم أنجزه... اليوم في تأن وبطء شديدين. وبشأن لقاء الصعود، فإنني أركب رهاناً أن أجمع أشخاصاً قد توفرت لديهم تجربة الكتابة. ويتمثل التعاقد في أن يأتي كل واحد منا بنص قد كتبناه سلفاً، ويكون يستشرف نقطة الوصول التي نؤمل أن يكون حديثنا منها. وينبغي أن تكون العروض والمداخلات شديد القِصر، لكي تفسح المجال للنقاش. وسوف نخصص اليوم الأخير من ذلك اللقاء لجمع (التقاط) القصاصات، وربما قمنا بتوزيعة جديدة، لأنني أتصور لتلك القصاصات أن تكون هي نقاط الالتقاء (التي أتوقع أن تكون كثيرة) بين المشاركين غير المتجانسين. ولك أن تتصور مدى حرصي على أن تشاركنا هذه التجربة (التي ليست، كذلك، بالغريبة عن لعبة «الجثة اللذيذة»... وقد زحزحت درجة). سأعود الآن إلى ما كنت فيه من عجلة. إنني مضطرب قليلاً على الدوام، بفعل تلك الأسفار. لكني صرت أجدها تزداد لي لزوماً بتوالي السنين. ولربما حدثتك في رسالة قريبة عن كتاب، «جان ذات الكلاب»، فلقد أثارني كثيراً. الهرهورة، 10 أبريل 1982 عزيزي حسون، أجيبك إذن إلى رسالتك ليوم 28 فبراير (الأخيرة)، فيما أستعد، أنا أيضاً، للسفر إلى الولاياتالمتحدة. أحس كأنني نقِلتُ، بخفة، بين ثلاث قارات؛ ذلك بأنني قد عدت من باريس منذ وقت قريب. في هذا الصدد، تستثير خيالي استعارة طفوِّ القارات تستثيرني. وحتى لقد قرأت لبعض المتخصصين في هذا المضمار؛ وإخال أن القارات توجد في منعطف من تاريخها. والحقيقة أنني انجذبت، وليس بطريقة روائية فحسب، إلى الظواهر الطبيعية الهائلة، من قبيل الزلازل. ولكي أعود إلى استكمال الحديث بشأن جني اللغة، الذي تتحدث عنه (والإيروس البرونزي)، سأقول لك إنني أريد أن أبتدئ، ذات يوم، قصة عن أحد الشعراء الذين أحبهم في موضوع هذه الاستعارة. فأشرح، وأسوق الطرفة. وقد أهدتني صديقة هايتية علبة فودو، قد حوت، في ما يبدو، جني الزلزال. ولا حاجة بي أن أقول لك إنني نادراً ما أفتح تلك العلبة. أحياناً، أنظر إليها بريبة وحذر. ومع ذلك، فإن تلك العلبة قد تكون هي ذلك «الجن الودود» الذي تحدث عنه غوته. هذه الرسالة ستكون وحيدة، ضائعة. أكتب قليلاً جداً هذه الأيام. أشعر أني بحاجة إلى استراحة. لقد أعطيت الكثير للكتابة، من غير أن أعرف ماذا أعطتني على وجه التحديد. لقد صرت الآن، أكثر من أي وقت مضى، أرتاب في قوتها التدميرية، إنني أذرع أراضيها الملغمة. أن أمضي متئداً، نعم، أن أنضج مع اللغة، وأشيخ معها، نعم، أن أبحث وأبحث، عن النشيد الذي خرس. فتراني، قبل أن أنام، كثيراً ما أقرأ قصيدة، وكأن الشعر سيسهر على منامي، ويرعى أحلامي، وينحت في نسياني شكل البحث عن تلك الأحلام.