يكشف عنها كتاب يصدر قريبا قبل 16 سنة، وفي يوم 14 مارس 1998، استقبل الحسن الثاني بالقصر الملكي بالرباط الحكومة التي يقودها عبد الرحمان اليوسفي. كان يوما تاريخيا بالنسبة إلى المملكة. فأخيرا، وبعد عشرات السنين قضاها في المعارضة يوافق اليسار على المشاركة في الحكومة، وبالتالي إطلاق مسلسل سمي ب»التناوب التوافقي». فقد أبرم القصر ومعارضيه اتفاقا من أجل إطلاق سلسلة من الإصلاحات من شأنها أن تؤدي في النهاية إلى انتقال ديمقراطي حقيقي. غير أن هذا المسلسل في النهاية لم يذهب بعيدا. فبعد تزكية وضمان انتقال سلس للحكم بين الحسن الثاني ومحمد السادس، انتهى التناوب الذي عمل على تغذية الكثير من الآمال بتركيع القوى الديمقراطية. قيل الكثير، وكُتب الكثير حول تجربة التناوب التوافقي هاته، ولكن يبقى الشيء الكثير الذي يجب الكشف عنه، والكثير من الأسرار الواجب النبش فيها وإخراجها من جُبّة النسيان، والكثير من الحكايات ذات الدلالة بشأن هاته المرحلة التاريخية، مصدرها، أبطال هاته التجربة، أصحاب المصلحة في هذا المسلسل الذين كانوا بالتأكيد يسعون إلى إعادة الاعتبار لأنفسهم. أختار الزميل محمد الطايع نهج مقاربة مهنية أكثر. فقد التقى بالعشرات من المسؤولين من تلك الفترة، وحاول الغوص داخل الوثائق وقصاصات الصحف من أجل تأطير أحداث تلك الفترة. والعمل على فك الرموز بالرجوع إلى الوراء وتفكيك الرسائل المشفرة. وكانت النتيجة: تحقيق صحفي من 300 صفحة سيصدر في شهر أبريل المقبل يحمل عنوان: «عبد الرحمان اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض» (...) ولأن الكتاب يقدم إضاءات لفهم هاته الحقبة الحاسمة من تاريخ المغرب، فقد قررت «تيل كيل» نشر الصيغة الفرنسية من الكتاب في الشهور المقبلة. وقبل ذلك، ننشر أهم ما جاء في هذا الكتاب.
فرصة ضائعة لم يتمكن الحسن الثاني من تسوية كل الصعوبات لفرض التناوب، بل كان عليه إقناع محيطه، وفي الوقت نفسه طمأنة شركائه. ولم تكن الأشياء واضحة لإدارة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي رفضت قواعده ميثاق التناوب. وكان النموذج الصارخ لهذا التخوف هو رفض مناضلي الحزب الاشتراكي التصويت ب«نعم» على الاستفتاء الدستوري لسنة 1992، بالرغم من محاولات إدارة الحزب إقناعهم بذلك. ولم يكن لذلك تأثير على أداء التنظيم. فقد تصدر حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 1993 على مستوى انتخاب ثلثي أعضاء البرلمان بالاقتراع العام المباشر. وكان ذلك سببا إضافيا إلى تشجيعه مع حزب الاستقلال على التفكير الجيد للمشاركة في الحكومة. غير أن إدريس البصري كانت له وجهة نظر أخرى. فخلال انتخاب ثلث النواب بالاقتراع غير المباشر، فقد حزب الاتحاد الرتبة الأولى بالرغم من حصوله على 48 مقعدا. إذ تمكنت الأحزاب المحافظة من الفوز بأغلبية المقاعد، لتجد الكتلة الوطنية نفسها في وضعية الأقلية داخل البرلمان. لم يتأخر رد فعل عبد الرحمان اليوسفي غير المتوقع. إذ قدم زعيم الاشتراكيين استقالته التي خلفت ضجة مدوية في شهر شتنبر 1993، وغادر المغرب نحو مدينة «كان» الفرنسية. عمل الحسن الثاني على تدبير هاته الحلقة باستراتيجية وحس سياسي كبيرين. ثلاثة أيام بعد استقالة اليوسفي، أرسل الحسن الثاني مستشاره محمد عواد عند اليوسفي. وأعقبت هاته الزيارة الأولى، سلسلة من الوفود الزائرة لمقر إقامة اليوسفي بمدينة «كان». المفاوضات مع الحسن الثاني لم يكن التوصل إلى اتفاق حول التناوب التوافقي في سنة 1998 مهمة سهلة. فقد كان ثمرة ومحصلة مسلسل طويل وصعب، انطلق قبل ذلك بكثير. في صيف 1992، طلب الحسن الثاني لقاء عبد الرحمان اليوسفي، المنتخب حديثا كاتبا أول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. كان اليوسفي يعتقد أن اللقاء سيكون رأسا لرأس مع الملك. غير أنه تفاجأ بوجود عبد الواحد الراضي والحبيب المالكي. كان الأول عضوا بالمكتب السياسي، بينما الثاني لم تكن له أي مسؤولية تنظيمية داخل إدارة الحزب، بل كان يترأس المجلس الوطني للشباب والمستقبل. لم يتأخر في تبديد ذهول زعيم الحزب الاشتراكي الذي شعر بالدهشة والذهول من اختيار الراضي والمالكي للمشاركة في هذا اللقاء. «أنا من طلب حضورهما، لأني أعرفهما جيدا»، يوضح الحسن الثاني. على أي حال، لم تكن العلاقات الجيدة بين الثنائي الراضي والمالكي والقصر سرا. بل كان عبد الرحيم بوعبيد يعتبر الراضي رجل القصر داخل المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أو على الأقل وسيطا وموفدا. أما الحبيب المالكي، فإن علاقاته تبقى واسعة مع إدريس البصري. في هذا اللقاء لم يخف الحسن الثاني رغبته في أن يرى الاتحاد القوي بعشرات السنوات الطويلة من المعارضة وبكتيبة قوية وصلبة من الأطر، يتحمل مسؤولية الحكم. وعوض عبارة «التداول على الحكم»، فضل الحسن الثاني عبارة «التناوب». في ذلك اليوم، وضع الرجلان اللبنات الأولى لمسلسل طويل ومعقد أُطلق عليه: «التناوب التوافقي».
العهد الجديد ونهاية التناوب خلال فترة الحسن الثاني، كان يتم تسوية كل النزاعات سريعا وكان التواصل مباشرا ومفتوحا. لكن بعد وفاة الحسن الثاني، أدت ممارسة الحكم إلى حدوث صدامات صامتة بين الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي والقصر. لم تكن الملكية الجديدة تشعر بأنها مقيدة بعقد لم توقعه، ولم تكن طرفا فيه. لذلك، كانت تريد اختصار التناوب التاريخي بين القصر والمعارضة في عنصره الأول: ضمان انتقال سلس للحكم. كان النزاع بين الحكومة المنتخبة والقصر حقيقة واقعة. فقد تقوى نفوذ «حكومة الظل»، وبدأ القصر يسحب الملفات من الحكومة ويتجاوز صلاحياتها، وبدأ رجال ثقة الملك، وهم بالأساس أصدقاؤه، يتفادون أي اتصال أو لقاء باليوسفي. وأصبح أحمد الحليمي وفتح الله ولعلو الوسطين المفضلين بين الديوان الملكي واليوسفي. فكان الوزير الأول يتوصل من خلالهما بالرسائل من أجل الحصول على رأيه بشأن موضوع ما أو إبلاغه بأي طارئ. وفي يوم 9 أكتوبر 2002، وقبل انعقاد المجلس الوزاري برئاسة الملك بمراكش، طلب هذا الأخير لقاء اليوسفي قبل الاجتماع رأسا لرأس. وفي قاعة الانتظار، التقى اليوسفي المستشار الملكي عبد العزيز مزيان بلفقيه رفقة وزير الداخلية إدريس جطو. وعندما استقبل الملك وزيره الأول، أبلغه أنه سيعين جطو وزيرا أول خلفا له. لم يخف اليوسفي دهشته وأبلغ الملك أن تعيين تقنوقراطي يتعارض مع المنهجية الديمقراطية التي وضع ختمه عليها مع الحسن الثاني، وأن تعيين جطو غير منتج لمستقبل مؤسسات البلاد. انتهى اللقاء، وحضر اليوسفي آخر مجلس وزاري برئاسة الملك له، كما لو أن أي شيء لم يحدث. لم يكشف لأي أحد من المقربين منه محتوى لقائه الملك ولا حتى لفريقه الحكومي عند عودتهم بالطائرة إلى الرباط. في اليوم نفسه، أعلن الديوان الملكي عن تعيين إدريس جطو وزيرا أول جديدا، غير أن اليوسفي بلغ درجة عالية من التشاؤم عندما علم أن أطرا من حزبه اتصلوا مباشرة أو سريا بإدريس جطو من أجل الحصول على حقائب وزارية دون الرجوع إلى هيئات الحزب. وعبر له جطو عن ضرورة وأهمية مشاركة الاتحاد الاشتراكي في حكومته. وافق اليوسفي على مضض بهدف احترام رغبة إدارة الحزب. واتفق مع جطو بشأن الاحتفاظ بالوزراء الاشتراكيين باستثناء محمد الكحص كاتب الدولة في الشباب، كما فرض جطو اسم المالكي. بعد نصف قرن من الممارسة السياسية، توصل اليوسفي إلى هاته القناعة: «لم يبق أمامي إلا الانسحاب. فلم تبق لا سياسة ولا جدية «. وفي يوم 28 أكتوبر2003، وتزامنا مع ذكرى اختطاف المهدي بن بركة، إيقونة اليسار المغربي، وفي شقته بحي بورغون بالدار البيضاء، كتب رسالة الاستقالة من منصب الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي. وكلف رجل ثقته محمد الصديقي بتسليمها للمكتب السياسي. وكان اختيار 28 أكتوبر من اليوسفي، اختيارا مثقلا بالإشارات وبالرموز الموحية.
«العم اليوسفي المهرب» كما حدث مع قادة الكتلة الآخرين، استُدعي اليوسفي إلى القصر لحضور جلسة عمل بشأن مذكرة الإصلاحات السياسية والدستورية المعروفة باسم: «مذكرة يونيو 1992». كانت هذه هي المرة الأولى التي يضع فيها اليوسفي رجليه في القصر، ويلتقي فيها الحسن الثاني بعد 27 سنة. بعد عبوره بوابة القصر رفقة قادة الكتلة، نادى عليه أحد خدم القصر وقال له: «سميت سيدي يقول لكم المرور من هنا». وأشار له إلى المصعد. داخل قاعة الانتظار المحاذية لمكتب الحسن لثاني، وجد اليوسفي ولي العهد رفقة إدريس البصري. طرح عليه الملك المقبل سؤالا لم يكن اليوسفي يتوقعه: «هل علاقتك بوالدي هي نفسها العلاقة التي كانت تربطه بعبد الرحيم بوعبيد؟». أجاب اليوسفي ببساطة: «لا. ليست لي العلاقة نفسها مع صاحب الجلالة». انتهى الحديث المتبادل، لأن الحسن الثاني كان ينتظر اليوسفي في مكتبه. لمدة نصف ساعة، تحدث الملك عن كل الأسئلة حول السياسة والاقتصاد. وطلب من اليوسفي أن يُطلعه على أخباره فقط، في باريس ونيس وكذلك في مدينة «كان». وكان يريد معرفة كل شيء عن الرجل الذي سيشركه معه لمدة 5 سنوات في الحكم. في نهاية اللقاء، التحق الملك واليوسفي بقاعة الاجتماع. ولكن الحسن الثاني حرص أولا على تقديم الوزير الأول المقبل لأبنائه. كان مولاي رشيد موجودا وطلب منهما تحية «عبد الرحمان اليوسفي، زعيم الاشتراكيين والمعارض المغربي وأكبر مهرب للسلاح خلال فترة الحماية»، يقول الحسن الثاني على سبيل التقديم.
عودة البصري إلى الواجهة عرف إدريس البصري، وزير الداخلية القوي، أن التقارب بين أحزاب الكتلة والقصر سيتم لا محالة على حسابه. ولأن كل الملفات الحساسة، في البلد، كانت في يديه، فهو لم يتردد في القيام بكل ما من شأنه لإجهاض التناوب وقطع الطريق على اليوسفي. من جهة أخرى، كان على علم بالخطوط الكبرى للوئام والتفاهم بين الحسن الثاني ووزيره الأول المقبل. وكان يعرف على الخصوص أن التناوب لا يمكن أن يمر إلا عبر انتخابات شفافة. وأن الاقتراع هو الذي سيقرر مكانة كل حزب وتموقعه. وبعد إعلان نتائج الانتخابات، جاء حزب الاستقلال، أقدم حزب في المغرب في الرتبة الخامسة وحصل على 32 مقعدا. وهي النتيجة نفسها التي حققتها الحركة الديمقراطية الاجتماعية التي أسسها عميد الشرطة السابق محمود عرشان، قبل بضعة أشهر من الانتخابات. فهم امحمد بوستة، الأمين العام لحزب الاستقلال الرسالة، كما فهمها اليوسفي. وهكذا اتفق الرجلان على مواجهة كل مناورات البصري والاستمرار في المسلسل إلى نهايته من أجل إقامة التناوب. لأن ما حدث لحزب الاستقلال كان الهدف منه هو وقف العمل بالميثاق السري المبرم بين إدارة الحزبين، والذي يتضمن مشاركتهما بشكل مشترك في الحكومة أو في المعارضة. ولم يكن حزب الاستقلال الوحيد الذي أدى ثمن ضربات البصري. فغداة الانتخابات التشريعية التي حصد فيها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية 57 مقعدا، هزت البيت الاشتراكي ما أطلق عليه فضيحة محمد حفيظ ومحمد أديب. إذ تبين أن مصالح وزارة الداخلية زورت، مع سبق الإصرار، النتائج لفائدة مرشحي الحزب. كان هدف البصري منه خلق أزمة لليوسفي ونسف جوهر التناوب نفسه بالإساءة لنتائج الاقتراع. لأجل ذلك، اختار بدقة حفيظ وأديب، العضوان بالتتابع في اللجنة المركزية للشبيبة الاتحادية وبنقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. وهما المنظمتان الرئيسيتان اللتان مارستا الضغوط حتى يعود اليوسفي من منفاه ب»كان».
بناء الثقة كانت عودة اليوسفي واستعادته للسيطرة على حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المرحلة الأولى من مسلسل التناوب الذي قاده إلى الوزارة الأولى. وكان عليه على الخصوص، تطهير حقل الألغام التي زرعها تيار اليازغي في طريقه والعودة لقيادة الكتلة. من جهته، ولإظهار حسن نيته، خفّف الحسن الثاني من سياساته. ففي 8 يوليوز 1994، أعلن عن عفو عام استفاد منه 400 معتقل سياسي، كما سمح بعودة عشرات المناضلين التقدميين من المنفى إلى البلاد. وما بين 1995 و1996، شهد المغرب ديناميكية جديدة. ففي فاتح غشت 1996، وقعت الباطرونا والنقابات ميثاقا من أجل السلم الاجتماعي يعتبر سابقة بالمغرب. وساعد هذا الميثاق على الخصوص في تحييد الكونفدرالية الديمقراطية للشغل التي يسيرها نوبير الأموي والمركزية النقابية القوية التابعة لحزب الاستقلال: الاتحاد العام للشغالين بالمغرب. ومن أجل تقديم ضمانات لليوسفي، أعلن الملك في خطاب 20 غشت 1996 عن استفتاء دستوري جديد، الثاني من نوعه خلال أربع سنوات. وفي يوم 13 شتنبر1996، صوت الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الاستفتاء ب»نعم». وتم تفسير هذا التصويت الإيجابي الأول للحزب الاشتراكي في الاستفتاء على أنه إشارة أخرى لأجواء بناء الثقة التي بدأت تربط بين القصر والاشتراكيين. وفي المناسبة نفسها، أقام هذا الإصلاح الدستوري نظام المجلسين من أجل تجاوز عقبة الثلث المنتخب بالاقتراع غير المباشر، والذي كانت أحزاب الكتلة ترفضه. وفي يوم 28 فبراير1997، وقعت الدولة والأحزاب السياسية تصريحا مشتركا وميثاق شرف. إذ ينص كلاهما على تنظيم انتخابات شفافة وعلى تحييد الإدارة. غير أن ميثاق الشرف هذا لم يطبق أبدا طوال سنة 1997: سواء خلال الانتخابات الجماعية أو خلال الاستحقاقات الأخرى التي سيتم تتويجها بالانتخابات التشريعية ليوم 14 نونبر.
أخيرا، اليوسفي في الحكم نحن في يوم 4 فبراير 1998. وهو اليوم الذي تلقى فيه اليوسفي مكالمة هاتفية من الديوان الملكي تبلغه بتكليفه تشكيل حكومة جديدة. قبل أن يتوجه إلى القصر، طلب الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لقاءً مع الحبيب الشرقاوي من أجل إبلاغه بآخر التطورات. كان عضو المكتب السياسي الوحيد في الحزب الذي أطلعه اليوسفي باللقاء المقرر في القصر. غير أن الخبر سرعان ما ذاع وانتشر. وكان ذلك بمبادرة من الحسن الثاني الذي كان يريد الاحتفال بالمناسبة وأن يترك أثرا في العقول بعد سبع سنوات من المفاوضات وأكثر من ألفي يوم من التحضيرات ومن التخطيط ومن التنازلات المقدمة من هذه الجهة، ومن الجهة الأخرى. وافق زعيم الاشتراكيين على تشكيل الحكومة الخامسة والعشرين في المغرب المستقل. بالنسبة إلى اليوسفي، حان الوقت للبدء في العمل. عندما غادر القصر، التقى بالحبيب الشرقاوي، وطلب منه توجيه الدعوة لاجتماع المكتب السياسي في مسكنه بحي الرياض. ثم طلب من كل عضو من قادة الحزب وعلى انفراد تسليمه قائمة المرشحين للاستوزار. لم يكن اليوسفي يريد أن يقال عنه إنه احتكر قرار تشكيل الحكومة. كان على الكاتب الأول أن يخوض سباقا ضد الساعة. ولأن شقته الصغيرة ذات الغرفتين التي أستأجرها بحي أكدال بألفي درهم لا تفي بالغرض، قرر أن يحجز غرفة بفندق «سندس» جعل منها مقرا لمفاوضاته المتعلقة بتشكيل الحكومة. وهي المفاوضات التي كانت تدور كذلك، من وقت لآخر في مسكن أحمد ألحليمي المساعد الحقيقي لليوسفي، وأحد المهندسين الرئيسيين لحكومة التناوب. انتهى اليوسفي من تشكيل حكومة تضم 41 وزيرا ينتمون إلى ستة أحزاب يوم 25 فبراير. ولكنه كما هو الحال بالنسبة إلى كل رجل دولة كان يتوفر على لباقة سياسية كبيرة، إذ فضل تأجيل تقديم هذه القائمة إلى الحسن الثاني. فهو لا يريد أن يشوش أي شيء في العالم على التحضيرات الجارية بمناسبة عيد العرش الذي يحتفل به الملك بأبهة عظيمة كل 3 مارس. وما إن انتهت الاحتفالات تقريبا، حتى استقبل الحسن الثاني الحكومة الجديدة في القصر يوم 14 مارس.
جنازة وبيعة توقف قلب الحسن الثاني عن النبض يوم 23 يوليوز1999. وكان اليوسفي بجانب الملك الجديد في ذلك اليوم الطويل الذي انتهى بحفل للبيعة مثقل بالرموز التي تقطع مع الماضي. كان مرض الحسن الثاني أحد أكبر أسرار الدولة في تلك الفترة. وكانت وفاته أحد السيناريوهات التي لم يكن يتصورها أي شخص. ومع ذلك، شعر اليوسفي وحزبه أنهما مجبران على قبول بنود التناوب التوافقي من أجل ضمان انتقال سلس للحكم. كان الوزير الأول جالسا حول مائدة الملك في آخر ظهور له بشكل علني خلال حفل العشاء الذي نظمه الحسن الثاني على شرف الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح بقصر الصخيرات. تدهورَ وضع الحسن الثاني الصحي في تلك الليل، وتم نقله إلى المركز الاستشفائي الجامعي ابن سينا على عجل. وفي صبيحة يوم الجمعة 23 يوليوز، تم إبلاغ اليوسفي بوفاة الحسن الثاني من طرف مصادره الخاصة. وفي الوقت الذي كان غارقا في أفكاره، دخل أحمد الحليمي إلى مكتبه ليعلن له الخبر. التحق بالرجلين الحبيب المالكي وفتح الله ولعلو وكذلك العربي المساري. وكانت الأوامر هي عدم نشر الخبر إلى أن يتم الإعلان عنه رسميا من طرف وسائل الإعلام العمومية. غير أن ولعلو همس في أذن اليوسفي بفكرة الذهاب إلى القصر من أجل تقديم التعازي لولي العهد باسم الأسرة الاتحادية. وهكذا عبروا الطريق نحو المشور من أجل الذهاب للقاء الأمير الذي خصص لهم استقبالا حارا ومؤثرا بعيدا عن برودة البروتوكول. حروب جانبية بعد الإعلان الرسمي عن خبر الوفاة. تمت تعبئة كل موظفي الدولة السامين ومختلف مصالح القصر لتحضير حفل جلوس ولي العهد على العرش، وإعداد جنازة الملك الراحل. إذ تم تشكيل لجنة تضم خدام الدولة البارزين للتحضير لحفل تقديم الولاء والبيعة المقرر في مساء اليوم نفسه. وكان إلى جانب الوزير الأول اليوسفي ووزير الشؤون الإسلامية عبد الكبير العلوي المغري، لجنة تضم المستشارين الملكيين عبد الهادي بوطالب وعباس الجراري وأندري أزولاي، فضلا عن مسؤول آخر هو عبد الحق لمريني. وكان الأمنيون ممثلين بالجنرالات حسني بنسليمان وعبد الحق القادري ومحمد عروب، إضافة إلى وزير الداخلية إدريس البصري. دافع الدكتور عبد الكريم الخطيب داخل هذه اللجنة عن فكرة إقامة حفل للبيعة بدلالات دينية بحتة بهدف ترسيخ العقد مع أمير المؤمنين. من جهته، دعا أندري أزولاي إلى توجيه الدعوة إلى البرلمان لعقد جلسة عاجلة. وفي الأخير، اقترح اليوسفي صيغة تُزاوِج بين التقليد والعصرنة. وبالنسبة إليه، يجب أن تكون البيعة عقدا موقعا من طرف ممثلي الأمة. وتم نقل اقتراحاته بأمانة إلى وريث العرش الذي تبنى مقترحات اليوسفي، إذ تم تكليف وزير الشؤون الإسلامية بصياغة مشروع عقد البيعة بتنسيق مع عباس الجراري وعبد الحق لمريني وعبد الهادي بوطالب. صادق محمد السادس على النص وتم استنساخه من طرف خطّاط القصر. داخل كواليس القصر، كان الجو متوترا، وكان الرجال النافذون يخوضون حرب تصفية الحسابات. فقد عارض إدريس البصري توقيع مولاي هشام، ابن عم الملك الجديد على عقد البيعة. من جهته، أبدى هذا الأخير تحفظاته بشأن حضور العسكريين في الحفل. وقام الجنرالات الكبار بكل ما في وسعهم لتحدي أوامر البصري. بموازاة مع كل ذلك، سرق الأنظار رجل أسمر بقامة متوسطة، كان يضع نظارات على عينيه لإخفاء نظراته الحادة. كان لا يفارق وريث العرش. وكانت كلماته بمثابة أوامر من القصر.. إنه فؤاد علي الهمة. ميثاق تاريخي في نفس ليلة 23 يوليوز، جلس محمد بن الحسن العلوي على عرش المغرب في حفل رسمي تميز بعقد متجدد للبيعة، حيث تم تحطيم كل التقاليد القديمة، ويتعلق الأمر بأول عقد للبيعة موقع من طرف خدام الولة الكبار والعسكريين الكبار. إذ تم توقيعه من طرف النساء الوزيرات المنتميات إلى حكومة اليوسفي. كما تم نقل مراسيم حفل البيعة مباشرة على القنوات الوطنية. فبعد قراءة نص البيعة من طرف وزير الشؤون الإسلامية، كان شقيق الملك مولاي رشيد هو أول من وقع عقد البيعة، متبوعا بمولاي هشام الذي كان قد عاد للتو من الولاياتالمتحدةالأمريكية، والذي رفض ارتداء اللباس التقليدي وتقبيل يد الملك خلال أداء قسم البيعة. وكان يظهر نفسه وجها لوجه مع الملك في وضع المسير للأمور. وكان يتدخل في كل شيء، حتى في المجال المحفوظ للملك. وتسببت هذه الطريقة في استغلال الجنازة لتوجيه رسائل سياسية، في غضب محمد السادس. ومنذ تلك الليلة، ظهرت بوادر البرودة في علاقات الملك وابن عمه. بعد توقيع الوثيقة من طرف أفراد الأسرة الملكية، كان اليوسفي أول مسؤول سياسي يضع توقيعه على الوثيقة. وهذه سابقة، فإلى حدود ذلك الوقت، كان التقليد في المغرب يجعل رجال الدين هم الذين يراقبون بمفردهم حفل البيعة، ويشرفون على حصر سندها في «الجانب الرمزي والشرعية الدينية للسلطان». عن: «تيل كيل»