تنشر جريدة «المساء» (طيلة شهر رمضان) بعض أقوى فقرات كتاب «عبد الرحمان اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض» للزميل الصحافي محمد الطائع. يكشف الكتاب تفاصيل جديدة عن تجربة «التناوب التوافقي» في تحضيرها وسياقها وصراعاتها الخفية ومآلها، كما يسلط «الكتاب» الضوء على بعض كواليسها. ولأن تجربة «التناوب التوافقي» التي تعتبر من العناوين الدالة وأحد المداخل البارزة للانتقال الديمقراطي بالمغرب، وارتباط اسمها بقائدها، الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الوزير الأول، الذي قاد التجربة، وبصفته أيضا كاتبا أول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، (أقوى أحزاب المعارضة آنذاك)، فإن ثنايا «الكتاب» اقتحمت كذلك بعض عوالم اليوسفي «الخاصة»، سواء باعتباره وزيرا أول أو باعتباره كاتبا أول لحزب الاتحاد الاشتراكي. التفاصيل الواردة بين دفتي هذا الكتاب مستقاة من شهادات ومعلومات وافادات وخلاصة عشرات الجلسات مع سياسيين وقيادات ومسؤولين عاشوا تجربة التناوب كما عايشوا اليوسفي عن قرب. كلف الوصول الى التناوب التوافقي سنة 1998 مخاضا عسيرا وشاقا واستغرق تحضيره سنوات عدة انطلاقا من سنة 1992/1993. بين مفاوضات سرية وأخرى علنية، كان التناوب «التوافقي» يطبخ على نار هادئة وكانت الخطوط موصولة دائما بين المعارضة (الكتلة الديمقراطية)، بقيادة حزب الاتحاد الاشتراكي والقصر الملكي. ففي ربيع سنة 1993، سيلتقي مجددا الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي، عبد الرحمان اليوسفي، مع الملك الحسن الثاني بالقصر الملكي بالرباط. تلقى اليوسفي اتصالا من الملك ولما دخل «سي عبد الرحمان» على الراحل الحسن الثاني، وجد إلى جانبه كلا من عبد الواحد الراضي والحبيب المالكي (رئيس المجلس الوطني للشباب والمستقبل ولم يكن حينها عضوا بالمكتب السياسي). وبذكائه المعروف، سارع الملك الراحل الى تبديد دهشة اليوسفي التي علت محياه واستغرابه لحضور المالكي والراضي إلى جانب الملك، دون غيرهما من قيادات الحزب. «أنا من طلبت حضور المالكي والراضي لهذا الاجتماع معك، لأني أعرفهما جيدا». هكذا خاطب الملك عبد الرحمان اليوسفي. لم يخف الملك في هذا الاجتماع رغبته في انتقال حزب الاتحاد الاشتراكي إلى مواقع التدبير الحكومي، بعدما راكم تجربة كبيرة في المعارضة. وبينما انتصر اليوسفي لفكرة ومصطلح «التداول» على السلطة، تحفظ الملك من جهته على المصطلح واستبدله ب»التناوب». إنها الخطوة الأولى في مشوار طويل ومعقد اسمه «التناوب التوافقي». لم يتمكن الحسن الثاني في بداية تسعينيات القرن الماضي من تذليل الصعوبات التي واجهته للانتصار لفكرة التناوب في نسختها الأولى، وإقناع محيطه وطمأنة باقي الفرقاء بقيمة وأهمية «التناوب». قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي ستواجه هي الأخرى الصعوبة ذاتها بعدما اصطدمت برفض مناضلي الحزب وقواعده للتناوب، وعجز المكتب السياسي للحزب حينها عن إقناع أعضاء اللجنة المركزية للحزب بالتصويت بالإيجاب على دستور شتنبر 1992. ورغم ذلك، فقد حصل الاتحاد الاشتراكي على المرتبة الأولى في انتخابات مجلس النواب (أكتوبر 1993)، وكان حزبا الاتحاد الاشتراكي والاستقلال يمهدان للمشاركة في الحكومة، بيد أن تدخل إدريس البصري المباشر أفسد كل شيء وعطّل عقارب التغيير، بعدما قلب نتائج مجلس النواب (الاقتراع المباشر) بأصوات الثلث غير المباشر، ليخسر الاتحاد الاشتراكي الصدارة. وقتئذ انتبه طرفا المعادلة، المعارضة والقصر، إلى أن التناوب يحتاج الى وقت أطول وأن شروطه لم تنضج بعد. إجابة اليوسفي على مناورات إدريس البصري وإصرار الإدارة على إجهاض رغبة القوى الديمقراطية في وضع المغرب على سكة الانتقال الديمقراطي، لن تتأخر طويلا، فأعلن «سي عبد الرحمان» استقالته احتجاجا على تزوير الانتخابات، كما احتج أيضا على المشاكسات التنظيمية لمحمد اليازغي، الذي لم يستسغ، بعد، أن تؤول زعامة الحزب لليوسفي خلفا للراحل عبد الرحيم بوعبيد بدلا عنه. سيكون الملك الراحل الحسن الثاني أول من تفاعل مع استقالة اليوسفي، عبر إيفاد مستشاره محمد عواد إليه في فرنسا كمبعوث شخصي، ثلاثة أيام فقط بعد استقالته، ليكون المستشار الملكي أول من زار اليوسفي بعد استقالته. بعد ذلك ستتوالى الوفود تباعا من قيادات حزبية ومسؤولين إلى منزل اليوسفي في مدينة «كان» الفرنسية. إيمانا منه بجدوى التناوب وانعكاساته الإيجابية على الدولة ومؤسساتها، تشبث الملك بفكرة التناوب وشخص اليوسفي، وعلى خط موازٍ، واصل الملك الراحل مشاوراته مع قيادات الكتلة الديمقراطية، وتنوعت العروض وتباينت المواقف، تارة بتعيين وزير أول خارج الكتلة وتمكين الأخيرة من حقائب وزارية مهمة، وهو ما رفضته أحزاب الكتلة الثلاثة (الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال وحزب منظمة العمل الديمقراطي الشعبي)، فيما قبل حزب التقدم والاشتراكية، مما دفع بقيادات الكتلة إلى استبعاد رفاق علي يعتة من المفاوضات باسم الكتلة، وتارة أخرى يقترح الملك فيها على قيادات الكتلة أن يتم تعيين الوزير الأول من الكتلة، شريطة الإبقاء على وزارات «السيادة « ودون إجراء انتخابات جديدة. توطّدت علاقة الأمين العام لحزب الاستقلال، محمد بوستة، بمحمد اليازغي، القائم مقام الكاتب الأول. وبينما كان اليازغي يدفع بقوة في اتجاه مشاركة الاتحاد الاشتراكي في «الحكومة الموعودة»، ضدا على جل أعضاء المكتب السياسي، كانت أطراف داخل الحزب متوجسة من الأطماع الهيمنية لليازغي، مما دفعها إلى ممارسة مزيد من الضغوط على اليوسفي وإجباره على التراجع عن استقالته، في وقت كان فيه اليازغي يسعى سعيا حثيثا إلى ترسيم استقالة اليوسفي والحيلولة دون عودته. بقدر ما كان الحسن الثاني يجالس و»يفاوض» قيادات الكتلة، إلى حد تكليف محمد بوستة بتشكيل «الحكومة الموعودة» بشروط الملك، والتي لم تكن في واقع الأمر إلا حكومة «شفوية» وتكتيكا من الملك، كان الملك، موازاة مع ذلك، على اتصال دائم بعبد الرحمان اليوسفي، الذي كان يتتبع عن قرب كافة التفاصيل ومجريات المشاورات. اعتقد محمد اليازغي أنه بات المفاوض الرئيسي والشرعي باسم الاتحاد الاشتراكي مع الملك الحسن الثاني، وأنه أتم بسط سيطرته المطلقة على التنظيم الحزبي وأصبح ناطقا رسميا باسم الحزب، خصوصا بعد سيطرته على الإعلام الحزبي. لم يخطر ببال اليازغي أن الملك الحسن الثاني تجاوز استقالة اليوسفي وظل على اتصال دائم معه بصفته زعيما للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية رغم قرار الاستقالة، وأن المفاوضات الحقيقية لإخراج التناوب إلى الوجود كانت في الجهة الأخرى.. جهة عبد الرحمان اليوسفي. في هذا الصدد، وفي سرية وهدوء، اشتغلت أربع شخصيات (خلية عمل) على هندسة التناوب وتفاصيله الدقيقة وتحملت عبء تحقّقه، شخصيتان من جانب حزب الاتحاد الاشتراكي، وشخصيتان من جانب القصر، وإلى جانب اليوسفي، كان هناك أيضا أحمد الحليمي علمي، الذي لعب دورا محوريا ومؤثرا وكان دائم التردد على «سي عبد الرحمان» بفرنسا وتربطه صلة وطيدة به، ومن جهة القصر، كلف الملك الراحل مستشاريه، ادريس السلاوي وأندري أزولاي. وبالرغم من قرار الاستقالة، كانت تعقد لقاءات مباشرة مع عبد الرحمان اليوسفي لوضعه في الصورة وإخباره بتطور المفاوضات، تارة في منزله، وتارة أخرى بمنزل مبارك بودرقة بباريس، ويحضرها كل من اليوسفي وامحمد بوستة والمرحومان الفقيه البصري ومحمد باهي، ونوبير الأموي، ومحمد بنسعيد أيت إيدر، ومحمد اليازغي، ومبارك بودرقة. كرّس الحسن الثاني بقية عمره لإنجاح التناوب التوافقي. تناوب أراد له الملك أن لا يقوده إلاّ الاتحاد الاشتراكي بقيادة عبد الرحمان اليوسفي. عرف الملك الراحل كيف يكسب الوقت لصالحه إلى حين إنهاء التفاوض مع اليوسفي، وعرف كذلك كيف يناور ويحاور بدهاء وذكاء شديدين أقر بهما الجميع، قيادات الكتلة التي تجتمع به، إلى درجة اقتناعها بأنها فعلا كانت قاب قوسين أو أدنى من تشكيل الحكومة. وبقدر ما كان الملك يسعى الى عودة اليوسفي من فرنسا وإنجاز التفاهم التاريخي بين القصر والاتحاد لاشتراكي، كان محمد اليازغي يشتغل ليل نهار لسد الطريق أمام أي عودة محتملة لليوسفي. سقطت قيادات الكتلة في فخ «الفيتو» على يد إدريس البصري، ولم تفطن للأمر إلا حينما اعتذر الملك عن استقبال قيادات الكتلة بالقصر الملكي واستقبلهم مستشاره رضى اكديرة، الذي أخبر قيادات الكتلة بأن الملك متشبث بوزير الداخلية في منصبه. كما أخبرهم اكديرة بأن الملك سحب تكليفه لمحمد بوستة بتشكيل الحكومة. في مساء نفس اليوم، صدر بلاغ للديوان الملكي موجه للرأي العام، يعلن تشبث الملك الحسن الثاني بوزيره في الداخلية إدريس البصري. هكذا توقفت «مفاوضات» الملك مع قيادات الكتلة، حينها كان قرار عودة اليوسفي والترتيبات المصاحبة له جاهزا. «مفاوضات» الملك الراحل مع قيادات الكتلة دامت سنة كاملة ولم تكن في نظر الملك الحسن الثاني سوى جلسات «للاستئناس» و التشاور، ليس إلاّ، لأن الملك لم يكن يفاوض في واقع الأمر إلاّ عبد الرحمان اليوسفي. تعتبر عودة اليوسفي من مدينة «كان» الفرنسية وتراجعه عن الاستقالة، الخطوة العملية الأولى، والتي ستتوج بتعيينه وزيرا أول في ربيع سنة 1998. فمن جهته، تفرّغ اليوسفي لاستعادة زمام المبادرة في حزبه وتقوية موقعه وإعادة تحريك الكتلة الديمقراطية، فيما سيطلق الملك الراحل بدوره أكثر من مبادرة على أكثر من مستوى. قبل عودة اليوسفي من «كان» واستئنافه لمهامه الحزبية والسياسية، بادر الملك الحسن الثاني إلى تفعيل أحد بنود «الاتفاق» وأعلن عن عفو عام يوم 8 يوليوز سنة 1994، وبين سنتي 1995 و1996 ، ستدخل البلاد في دينامية استثنائية وتقعيد أسس ومقدمات «حكومة التناوب». إذ تم التوقيع لاحقا على اتفاق فاتح غشت بين النقابات والباطرونا في 1996، وهو الأول من نوعه بين الفرقاء الاجتماعيين، كما أعلن الملك الراحل في خطاب عشرين غشت من نفس السنة بمناسبة ذكرى «ثورة الملك والشعب» عن إجراء استفتاء جديد (هو الثاني في أقل من أربع سنوات) ليوم 13 شتنبر 1996، وهو الذي صوت عليه الاتحاد الاشتراكي بنعم «سياسية» تكريسا لأجواء الثقة، سيليه بعد ذلك، التوقيع على ميثاق الشرف بين الأحزاب السياسية والدولة (الداخلية خاصة) يوم 28 فبراير 1997، وصولا إلى إجراء الانتخابات الجماعية وانتخاب ممثلي المأجورين وانتخابات ممثلي المجالس الجهوية، وانتهاء بانتخابات مجلس النواب يوم 14 نونبر 1997، وفي نهاية العام، أي يوم 5 دجنبر 1997، انتخابات مجلس المستشارين.