سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
اليازغي: اليوسفي أدار مشاورات تشكيل حكومة التناوب من داخل فندق ولحليمي كان على اتصال دائم ب«لادجيد» الحسن الثاني رفض اقتراحا من اليوسفي يقضي بتعيين الخمليشي على رأس وزارة الأوقاف
تعود حكاية هذه الصفحات إلى سنوات طويلة، ليس التفكير فيها، بل تسجيلها، حيث كنت طرحت على الأستاذ محمد اليازغي في ربيع 1997، أثناء وجودنا في مدينة ورزازات، مقترح أن يكتب مذكراته لما ستكون لها من قيمة سياسية وتاريخية، دون أن تكون هناك ضرورة لنشرها، ووافقني، لكن انشغالاته في مهامه الحزبية، ثم في مهامه الوزارية بعد مارس 1998، جعل الفكرة تغيب عن أحاديثنا. في صيف 2003، أعدت طرح الفكرة عليه وأثناء مناقشتها، بدت لنا صعوبة أن يخصص يوميا وقتا لكتابة هذه المذكرات، فجاءت فكرة أن أسجل له، ليس مذكرات، بالمعنى المتعارَف عليه، بل تسجيل مساره كإنسان، على شكل حوار صحافي مطول، وهكذا كان. وسجلنا ما يقارب عشر ساعات، لكن النتيجة كانت فشلا، لأن جوابه عن كل سؤال كان جوابا عن كل شيء إلا عن شخصه ودوره وموقفه. كانت الساعات التي سجلتها، ليس عن محمد اليازغي بل تأريخا للمغرب وللحزب الذي انتمى إليه، إن كان من أجل الاستقلال أو من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في وطنه ولشعبه، وخلصت، مع أن خلاصتي لم تنل رضاه، إلى أن تجربة التسجيل غير موفقة أو على الأقل ليست كما تصورتها، وقبِل معي أن نعيد التسجيل، لكن بعيد ذلك، في نونبر 2003، انتخب كاتبا أول للحزب، فتأجل كل شيء. وفي صيف 2009، قررنا أن نعيد التجربة، فكانت هذه النتيجة، التي أستطيع القول إنني لم أنجح فيها، على الأقل بالنسبة إلي، في أن «أحفزه» على الخروج, بشكل كامل أو كبير نسبيا، من العامّ نحو الخاص الذي كان يتدفق منه خارج التسجيل في لقاءات ثنائية أو عائلية أو مع مجموعة من الأصدقاء، بل أكثر من ذلك كان التدفق أحيانا بعيد إنهائنا التسجيل، حيث كان، عدة مرات، يتحدث همسا أو يطلب إيقاف التسجيل ليشرح أو يُفصّل أو يروي. هذه الصفحات، ليست كل ما سجل، إذ كثيرا ما تذكرنا أحداثا ووقائع أثناء تفريغ الأشرطة أو التصحيح والمراجعة فأضفناها. هذه الصفحات، إذا لم تكن مذكرات، فإنها، وبالتأكيد، ستكون مرجعية لكل باحث أو مهتم بالشأن السياسي المغربي الحديث، لأنها ليست صفحات مراقب أو شاهد، بل هي صفحات فاعل ومؤثر، لعب دورا متميزا في مسيرة وطنه وحزبه. - لماذا لم يكشف لكم عبد الرحمن اليوسفي موضوع القَسَم، وهل من بُعد دينيٍّ لهذا القسم، ومن الذي طلبه؟ لا أدري.. أما بالنسبة إلى البعد الديني فلا أعتقد أنه موجود، العنصر الأساسي في علاقة الحسن الثاني بالاتحاد هو تخوفه من أن تتطور الأمور بشكل يسيء إلى الملكية أو إليه هو نفسه. لكن عبد الرحمن اليوسفي لم يفصح للمكتب السياسي عن هذا الأمر في يوم من الأيام. وأما من طلب القسم فلا أدري، لكني أعتقد أنه الحسن الثاني لأنني لا أتصور أن يطلب الوزير الأول المعين أداء اليمين على شيء ما وهو لم يبدأ بعدُ المشاورات لتشكيل الحكومة، وفي ذلك تناقض مع ما صرح به مرة من أن السياسة لا تعرف التأمين؛ وحرص الحسن الثاني، رغم القسم، على إبقاء إدريس البصري وزيرا للداخلية يدل على أنه لم يمنح ثقته الكاملة للاتحاد الاشتراكي. - بدأ اليوسفي يتعاطى مع الحزب بعد ذلك كوزير أول وليس ككاتب أول للحزب؟ في تلك المرحلة، أصبح اليوسفي وزيرا أول معينا، مكلفا بتشكيل الحكومة؛ فقد كان عليه، أولا، أن يدبر تشكيل الحكومة، ولم يكن الأمر سهلا، إذ كان يمكن أن ينجح كما كان يمكن أن يفشل. ومن المؤكد أن عدم إخباره المكتب السياسي بتفاصيل ما جرى بينه وبين الحسن الثاني، في إطار ما يمكن أن نطلق عليه التعاقد المعنوي، كان غير مريح تماما لي ولقيادة الحزب. لم يكن لدى المكتب السياسي تصور مفصل عن الحكومة إلا ما كانت قد أعدته سابقا قيادة الكتلة الديمقراطية خلال مفاوضات 1994-1995، سواء في ما يتعلق بالبرنامج السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للحكومة أو ما يتعلق بهيكلة تلك الحكومة. في البداية، ناقشنا التشكيل السياسي عن الحكومة ومكوناتها، واتفقنا على أن تعتمد الحكومة، أولا، على الحلفاء الأساسيين للاتحاد، أي أحزاب الكتلة الديمقراطية، وعلى أنه لا بد، ثانيا، من أن تتعامل مع أحزاب أخرى لتضمن أغلبية برلمانية مريحة لأن أحزاب الكتلة لا تشكل وحدها أغلبية، وهذا يعني إشراك الأحزاب التي كانت تعرف ب«الأحزاب الإدارية» ولم تشارك في النضال الديمقراطي الذي خاضته القوى الوطنية بل كانت في الجهاز التنفيذي وكانت أداة الإدارة في محاربة هذا النضال الذي خضناه خلال سنوات الرصاص. لكن عدم تمكن الكتلة الديمقراطية من الحصول على الأغلبية البرلمانية يفسح لها المجال لكي تشاركنا في تدبير الشأن العام. وقد اشترط عليها عبد الرحمن اليوسفي أن تقترح شخصيات جديدة، وليس أشخاصا كانوا وزراء في السابق، حتى لا يقع خلط وتشويش على الحكومة وصورتها أمام الرأي العام. وسيحدث أن يتراجع الحسن الثاني عما سبق أن قبل به خلال مفاوضات 94-95، إذ سيتمسك بألا يقترح عليه الوزير الأول وزراء الخارجية والعدل والأوقاف والشؤون الإسلامية والأمين العام للحكومة، بالإضافة إلى وزير الداخلية، وخلال تشكيل الحكومة سيبقي على عبد اللطيف الفيلالي وزيرا للخارجية. وحسب ما أبلغنا به عبد الرحمن اليوسفي، فإن الملك أخبره بأن الفيلالي أبدى رغبته في البقاء في الحكومة، وبالتالي فإن الأمر ليس كما أورده الأخير في مذكراته من أن عبد الرحمن اليوسفي هو الذي طلب من الملك إبقاءه على رأس وزارة الخارجية. وبالنسبة إلى بقية الوزراء، قرر الحسن الثاني الاحتفاظ بإدريس البصري في منصبه على رأس وزارة الداخلية، وبعمر عزيمان في العدل، وبعبد الصادق ربيع في الأمانة العامة، وبعبد الكبير العلوي المدغري في الأوقاف بعد أخذ ورد، حيث حاول عبد الرحمن اليوسفي إقناع الحسن الثاني بتعيين أحمد الخمليشي، كشخصية مستقلة وكفأة، في وزارة الأوقاف، لكن الملك لم يقبل بذلك واقترح محمد خليل الذي كان في وقت سابق وزيرا للتعليم العالي، فلم يقبل اليوسفي بذلك من جهته، مما حدا بالاثنين في نهاية المطاف تقرير الإبقاء على المدغري لمدة محدودة على أساس الاتفاق على تعيين شخصية أخرى في المستقبل. واستقر عبد الرحمن اليوسفي بأحد فنادق الرباط للقيام بالمشاورات، وتخلى عن إقامته، كما اعتاد أن يفعل في السابق، بمنزل الحبيب الشرقاوي الذي كان يجري فيه اتصالاته ولقاءاته بعدد من الشخصيات. وطلب من أحمد لحليمي أن يساعده في هذه المشاورات، هذا الأخير الذي كان على اتصال دائم بالجنرال عبد الحق القادري، مدير إدارة الدراسات والأبحاث (لادجيد). وقد كانت الاستعانة بلحليمي عنصر مفاجأة لنا في المكتب السياسي. - ظهرت معارضة قوية داخل الاتحاد تطالب بعدم المشاركة في الحكومة.. ثار نقاش قوي وساخن في اللجنة المركزية في هذا الشأن، لكننا احتكمنا في النهاية إلى المسطرة الديمقراطية، فصوتت الأغلبية لصالح المشاركة بينما صوتت أقلية ضعيفة جدا، لم تتعد ثلاثة أعضاء، لفائدة عدم المشاركة. وقد كان لقرار الحسن الثاني تكليف الكاتب الأول للاتحاد بتشكيل الحكومة صدى واسع وقوي وقوبل بارتياح كبير داخل المغرب وخارجه، سواء على صعيد الرأي العام العربي أو الدولي، خاصة عند البلدان التي كانت تحكمها أحزاب ديمقراطية أو اشتراكية، واعتبر ذلك حدثا هاما يؤشر على أن المغرب مقبل على مرحلة جديدة تدشن لبداية انتقال ديمقراطي. لكن الأصوات المعارضة لم تنقطع أبدا.. فقد كنت أنا شخصيا على اقتناع بأن ما هو مطروح على الاتحاد الاشتراكي هو إيجاد التوازن العقلاني الضروري، في تعامله مع القضايا المعروضة عليه، بين مبادئه ومثله الفكرية والفلسفية، من جهة، وإكراهات الواقع الوطني والجهوي والدولي، من جهة أخرى. وإلى جانب اقتناعي بأن على الاتحاد الإتيان بعقلية وسلوك جديدين، كنت مقتنعا أيضا بأن التناوب التوافقي إذا تم في الظرف التاريخي الذي نعيشه، فإنه سيفتح المجال للتغيير الجريء في مجالات وحقول متعددة.. لكن سيحز في نفسي تراجع الحسن الثاني عن قبوله لي ولامحمد بوستة وعن أن يكون الوزير الأول المكلف بتشكيل الحكومة هو من يقترح وزراء الخارجية والعدل والأوقاف، كما سيحز في نفسي تنازل اليوسفي عن هذا المكسب الذي حققته قيادة الكتلة الديمقراطية خلال مفاوضات 94-95 في غيابه. - قبل الانتخابات انعقد مؤتمر الكونفدرالية الديمقراطية للشغل وحضره إدريس البصري.. فاجأنا نوبير الأموي بدعوة إدريس البصري إلى حضور المؤتمر الوطني للكونفدرالية الديمقراطية للشغل بل وإعطائه الكلمة، في حين أنه امتنع عن قراءة البرقية التي بعث بها عبد الرحمن اليوسفي إلى المؤتمر.. لم نجد تفسيرا.. سواء لتوجيه الدعوة إلى الوزير أو لإعطائه الكلمة في الجلسة العامة، لم يكن أمرا يبعث على الارتياح لأننا كنا نعرف مناورات وزير الداخلية آنذاك. وعبر المكتب السياسي عن تذمره من هذا الحضور، بل انسحب الحبيب الشرقاوي من قاعة المؤتمر بمجرد ما أعطيت الكلمة للوزير. - هل كان الحضور في سياق ما قاله البصري فيما بعد: «لقد كلفت من طرف الحسن الثاني بإعادة التأهيل السياسي للاتحاد الاشتراكي، لكن محمد اليازغي عرقل مهمتي»؟ لو كان له مثل هذا الطموح فسيكون حقا إنسانا مغرورا، ولا يعرف من يكون الاتحاد الاشتراكي ومن هم مناضلوه وقادته الصامدون.. ربما كان حضوره إلى مؤتمر الكونفدرالية نابعا من تصوره للمهمة التي يمكن أن يقوم بها الكاتب العام للكونفدرالية الديمقراطية للشغل داخل الاتحاد الاشتراكي.. في كل الأحوال وبلا شك فإن قيادة الكونفدرالية أخطأت في دعوته وأخطأت في إعطائه الكلمة. - ما تفسير تراجع الاتحاد عن موقفه من مشاركة إدريس البصري؟ من المؤكد أن هناك تراجعا في موقف الاتحاد والكتلة الديمقراطية، وهناك من داخل الاتحاد من انتقد موقفنا (بوستة وأنا) في 1995 من رفض مشاركة إدريس البصري في حكومة التناوب الأولى. لقد كنا في عام 1998 أقوى سياسيا مما كنا عليه في سنة 1994، حيث فزنا بالمرتبة الأولى في الانتخابات، والكاتب الأول تراجع عن استقالته وعاد إلى البلاد، لذلك كان القبول بمشاركة إدريس البصري مرونة زائدة من الكاتب الأول في حواره مع الحسن الثاني، وهذه حقيقة تاريخية تسجل على الاتحاد، ولكن أيضا على حزب الاستقلال الذي قبل بمشاركة إدريس البصري التي لم تكن إلا إشارة إلى عدم ثقة الحسن الثاني في الاتحاد الاشتراكي. فأي سلطة للوزير الأول على وزير في الداخلية!؟ سيظهر ذلك عندما وجد الوزير الأول صعوبات في الاجتماع بالولاة والعمال، وحتى لما اجتمع بهم فقد امتنعوا، بقرار من إدريس البصري، على أن يأخذوا الكلمة أمامه. - المشاورات لتشكيل الحكومة شملت كل الأحزاب، بما فيها حزب العدالة والتنمية الذي اقتُرحت عليه المشاركة بحقيبة الأوقاف.. المشاورات تمت، كما قلت، أولا مع أحزاب الكتلة الديمقراطية ثم مع الأحزاب التي اقترح عليها التحالف مع الاتحاد الاشتراكي لتكوين أغلبية برلمانية تساند البرنامج الحكومي. كما تشاور عبد الرحمن اليوسفي مع باقي الأحزاب، ومن بينها حزب العدالة والتنمية الذي اقترح عليه حقيبة واحدة دون أن يفصح له عن طبيعتها, لكنها لم تكن بالتأكيد الأوقاف، لأن الأوقاف كان الملك قد أبلغ الوزير الأول المعين بأنه هو من سيختار وزيرها. وقد رفض قادة العدالة والتنمية، بتوجيه من عبد الكريم الخطيب، أن يشاركوا في الحكومة في هذه المرحلة، وقرروا أن يكونوا جزءا من الأغلبية البرلمانية في إطار المساندة دون المشاركة، وبعد سنتين سيفرض عليهم الدكتور الخطيب الالتحاق بالمعارضة، وهو ما سيندمون عليه في المقبل من الأيام. لم يكن هناك ارتياح في المكتب السياسي لإشراك حزب عبد الكريم الخطيب، لكن رغبة عبد الرحمن اليوسفي في أن تكون للحكومة أغلبية واسعة في مجلس النواب دفعته إلى توسيع قاعدة المشاركة لتشمل حزب العدالة والتنمية. وبناء على هذه الرغبة أيضا جاءت مشاركة جبهة القوى الديمقراطية التي ضمنت للحكومة أغلبية في الغرفة الثانية، في حين أن هذه الغرفة كانت مبرمجة لتكون قلعة محصنة للمعارضة، معارضة الحكومة ومعارضة مجلس النواب. وقد حرص عبد الرحمن اليوسفي على أن يكون الاتحاد الاشتراكي هو العمود الفقري لحكومة التناوب، مع إعطاء مكانة متميزة لأحزاب الكتلة الديمقراطية الحليفة. ولعل الحوار مع حزب الاستقلال في هذا المضمار لم يكن سهلا، حيث قرر امحمد بوستة عدم مشاركته الشخصية، وكذلك كان قرار عباس الفاسي الذي لن يلتحق بالحكومة إلا بمناسبة تعديل حكومي. - لكن عبد الرحمن اليوسفي عندما قدم ترشيحات إلى حكومته، أبقى خانات وزراء الداخلية والخارجية والعدل والأوقاف فارغة، أي أنه ترك للحسن الثاني صلاحية اختيارهم.. لا، الحسن الثاني عندما كلف عبد الرحمن اليوسفي أبلغه بأنه هو من سيختار وزراء هذه الحقائب. وباستثناء النقاش الذي دار حول وزير الأوقاف، لم يناقش الوزير الأول المعين الملك في بقية الوزراء وقبل بقاء عبد اللطيف الفيلالي في الخارجية وعمر عزيمان في العدل والعلوي المدغري في الأوقاف، بالإضافة إلى إدريس البصري في الداخلية. - وهل قبل المكتب السياسي بهذا الخيار؟ أغلبية المكتب السياسي قبلت بهذه الصيغة، ولو على مضض، خوفا من أن يضيّع الاتحاد الاشتراكي فرصة قيادة الحكومة الجديدة، ودعما للكاتب الأول الذي تحمس كثيرا للقيام بالدور الذي اقترح عليه، واستجابة للمساهمة في إنقاذ المغرب من السكتة القلبية التي كانت تهدده. - اقترح عليكم عبد الرحمن اليوسفي أن يرشح كل منكم ثلاثة أسماء لكل حقيبة.. لا، ليس بهذه الصيغة، وإنما طلب أن يرشح كل عضو من أعضاء المكتب السياسي الاتحاديين الذين يود مشاركتهم في الحكومة الجديدة والحقيبة التي يقترح أن يتولوها، لكن المكتب السياسي لم يطلع على اقتراحات أعضائه لكاتبه الأول. - عضو في المكتب السياسي قال إن اللجنة المركزية فوضت تشكيل الحكومة إلى المكتب السياسي والأخير فوض الأمر إلى اليوسفي الذي فوض الأمر بدوره إلى إدريس البصري.. اقترح أعضاء المكتب السياسي أسماء المرشحين لمناصب وزارية، وعبد الرحمن اليوسفي اختار الوزراء الاتحاديين، وهذا شيء طبيعي في الأقطار الديمقراطية، فعندما تتكلف شخصية بتشكيل الحكومة فهي تقوم باختيار تحالفاتها أولا، أي الأحزاب التي ستشارك في الحكومة، لكنه هو من يختار من ضمن هذه الأحزاب الشخصيات التي ستتولى الحقائب الحكومية؛ أما في حكومة التناوب التوافقي فإن قيادات الأحزاب هي التي أعطت للوزير الأول المعين أسماء مرشحيها للقطاعات المقترحة عليها، وهذا الأخير قام بتسليمها إلى الملك، وإذا اعترض الملك على أحد فإنه يعوض بمرشح آخر، وهذا ما حصل بالنسبة إلى باني العياشي التي كانت مرشحة لكتابة الدولة في البيئة، إذ اعترض الحسن الثاني على تعيينها فاقترحت على عبد الرحمان اليوسفي أن تحل محلها نزهة الشقروني، باعتبارها امرأة، لكن في منصب وزاري غير البيئة. - لكن الأحزاب الأخرى التي شاركت في الحكومة هي التي اختارت وزراءها.. صحيح، فبالنسبة إلى الاتحاد اختار عبد الرحمن اليوسفي الوزراء الاتحاديين، كما اختار حزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية وزراءهما، وبقية الأحزاب اختارت مرشحيها شرط ألا يكونوا وزراء سابقين، وبالفعل لم تختر الأحزاب المرشحة للمشاركة في الحكومة أي وزير سابق. وقد كان حزب الاستقلال متحفظا على أن يكون للاتحاد هذا الحجم من الحقائب، أي أربع عشرة حقيبة، لكنه في النهاية قبل بالحقائب الوزارية السبع التي اقترحها عليه اليوسفي. - كانت هناك اجتماعات لمرشحي الحزب لتولي الحقائب.. كان الكاتب الأول، كوزير أول معين، يزود المكتب السياسي بكل المعلومات والمعطيات حول اتصالاته وخلاصة المشاورات التي أجراها مع الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية ومنظمات المجتمع المدني، وكذلك المشاورات التي أجراها مع الملك دون الدخول في كل التفاصيل؛ وجمع الوزراء الاتحاديين، قبل تشكيل الحكومة، لدراسة الوضع والإعداد لمشروع التصريح الحكومي. - كيف رشحت للوزارة؟ طلب مني عبد الرحمن اليوسفي أن أكون إلى جانبه في الحكومة، وكان مقترحا أن أتولى حقيبة إعداد التراب الوطني والسكنى والتعمير والبيئة وأن يكون بجانبي كاتب الدولة في البيئة الدكتور أحمد العراقي وكاتب الدولة في السكنى محمد المباركي. - هي حقيبة غير سياسية خاصة بالنسبة إلى اليازغي الذي كان متوقعا أن يتولى حقيبة أكثر تأثيرا في صناعة القرار المغربي.. إذا كان المقصود وزارات الداخلية والخارجية والعدل فقد كان أمرها محسوما من طرف الحسن الثاني بموافقة من اليوسفي؛ لكن حقيبة إعداد التراب الوطني حقيبة سياسية بامتياز وليست حقيبة خدماتية وتقنية، لأن إعداد مجال المغرب شأن سياسي بالدرجة الأولى، ولأول مرة سيجري في المغرب حوار وطني حول إعداد التراب الوطني تشارك فيه جميع مكونات الشعب المغربي، أحزابا سياسية ومنظمات مهنية واقتصادية ومركزيات نقابية وباحثين ومجتمع مدني، ابتداء من الأوراش المحلية والندوات الجهوية وصولا إلى المنتدى الوطني الذي بعث الملك محمد السادس رسالة يوم انعقاده.. والتراب الوطني ليس مجرد كيلومترات مربعة من الجبال والسهول، إنه ملكنا المشترك وأساس عيشنا وإرث أجدادنا الذي سنتركه لأبنائنا وحفدتنا بعد أن نكون بدورنا قد عملنا على تطويره وإغنائه، فالتراب الوطني يلخص تاريخ شعب، وهو يشمله بأكمله؛ ولا يمكن لشعب ما أن تقوم له قائمة إلا إذا أمنه وشكله على صورته. والمطروح علينا في حكومة التناوب هو أن نعمل باستمرار على بناء هذا المجال وتكييفه وإغنائه، فترابنا الوطني شامل ومتنوع، والثروات موزعة بطريقة متباينة جدا، والإكراهات تختلف اختلافا كبيرا من منطقة إلى أخرى، لكن كل منطقة وكل ناحية تتوفر على شيء يميزها، سواء تعلق الأمر بسهل أو جبل، بأرض بور أو بأرض مسقية، بحاضرة كبرى أو بمدينة صغيرة أو بدوار أو بقصر، وإعداد التراب الوطني يدفع إلى تشجيع واحتضان المبادرات الصادرة عن كل مكونات المجتمع، وهو الشرط اللازم لحل مشكل التشغيل، فالأمر يتعلق ببناء وحدة دينامية تحترم التنوع والاختلاف وتسمح لكل مجال بأن يمسك بما يشكل أصالته ويميزه في إطار التضامن الوطني. وقد تم إنشاء المجلس الأعلى لإعداد التراب الوطني برئاسة الوزير الأول، وكنت طلبت من الملك محمد السادس جمع اللجنة الوزارية لإعداد التراب التي سبق أن عقدت اجتماعا وحيدا سنة 1968 برئاسة الحسن الثاني، فاقترح علي إعداد مرسوم لتأسيس مجلس أعلى لإعداد التراب يرأسه الوزير الأول، وذلك أخذا بعين الاعتبار أن اللجنة السابقة أنشئت في إطار حالة الاستثناء، في حين أن المغرب عرف إصلاحا دستوريا هاما سنة 1996 يجب أخذه بعين الاعتبار. وقبل الملك محمد السادس أن يترأسه شخصيا في دورته الأولى في ماي 2004. ولأول مرة سيكون للمغرب ميثاق لإعداد التراب ومخطط وطني لإعداد التراب. صحيح أن تلك الوثائق ليست إجبارية، لكن من المؤكد أن ما جرى ويجري إلى اليوم في المغرب من أوراش كبرى يستند إلى هذه الوثائق التي أصبحت مرجعية أساسية للتنمية والتعامل مع المجال بنظرة شمولية. في البداية، والحسن الثاني مازال على قيد الحياة، حاول إدريس البصري عرقلة الحوار الوطني، فمنع الولاة والعمال من المشاركة فيه أو حتى الاتصال بي دون إذن منه، لكن عددا منهم كان يتصل بي سرا. ولما عزله الملك محمد السادس من الوزارة وعين مكانه أحمد الميداوي، شارك كل الولاة والعمال في الحوار الوطني, لا بالحضور فقط بل أحيانا بمداخلات رفيعة المستوى.