تعود حكاية هذه الصفحات إلى سنوات طويلة، ليس التفكير فيها، بل تسجيلها، حيث كنت طرحت على الأستاذ محمد اليازغي في ربيع 1997، أثناء وجودنا في مدينة ورزازات، مقترح أن يكتب مذكراته لما ستكون لها من قيمة سياسية وتاريخية، دون أن تكون هناك ضرورة لنشرها، ووافقني، لكن انشغالاته في مهامه الحزبية، ثم في مهامه الوزارية بعد مارس 1998، جعل الفكرة تغيب عن أحاديثنا. في صيف 2003، أعدت طرح الفكرة عليه وأثناء مناقشتها، بدت لنا صعوبة أن يخصص يوميا وقتا لكتابة هذه المذكرات، فجاءت فكرة أن أسجل له، ليس مذكرات، بالمعنى المتعارَف عليه، بل تسجيل مساره كإنسان، على شكل حوار صحافي مطول، وهكذا كان. وسجلنا ما يقارب عشر ساعات، لكن النتيجة كانت فشلا، لأن جوابه عن كل سؤال كان جوابا عن كل شيء إلا عن شخصه ودوره وموقفه. كانت الساعات التي سجلتها، ليس عن محمد اليازغي بل تأريخا للمغرب وللحزب الذي انتمى إليه، إن كان من أجل الاستقلال أو من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في وطنه ولشعبه، وخلصت، مع أن خلاصتي لم تنل رضاه، إلى أن تجربة التسجيل غير موفقة أو على الأقل ليست كما تصورتها، وقبِل معي أن نعيد التسجيل، لكن بعيد ذلك، في نونبر 2003، انتخب كاتبا أول للحزب، فتأجل كل شيء. وفي صيف 2009، قررنا أن نعيد التجربة، فكانت هذه النتيجة، التي أستطيع القول إنني لم أنجح فيها، على الأقل بالنسبة إلي، في أن «أحفزه» على الخروج, بشكل كامل أو كبير نسبيا، من العامّ نحو الخاص الذي كان يتدفق منه خارج التسجيل في لقاءات ثنائية أو عائلية أو مع مجموعة من الأصدقاء، بل أكثر من ذلك كان التدفق أحيانا بعيد إنهائنا التسجيل، حيث كان، عدة مرات، يتحدث همسا أو يطلب إيقاف التسجيل ليشرح أو يُفصّل أو يروي. هذه الصفحات، ليست كل ما سجل، إذ كثيرا ما تذكرنا أحداثا ووقائع أثناء تفريغ الأشرطة أو التصحيح والمراجعة فأضفناها. هذه الصفحات، إذا لم تكن مذكرات، فإنها، وبالتأكيد، ستكون مرجعية لكل باحث أو مهتم بالشأن السياسي المغربي الحديث، لأنها ليست صفحات مراقب أو شاهد، بل هي صفحات فاعل ومؤثر، لعب دورا متميزا في مسيرة وطنه وحزبه. التنسيق مع حزب الاستقلال في البرلمان تطور إلى تنسيق بين المركزيات العمالية ثم إلى الكتلة الديمقراطية.. كان الوضع الاجتماعي وضعا سيئا، ونهاية الثمانينيات كانت في صلب مرحلة التقويم الهيكلي الذي فرضه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على المغرب والذي كان قد بدأ سنة 1983 على أساس أن يختتم سنة 1993 حسب تعليمات صندوق النقد. ومعناه أنه كان هناك ضغط على المغرب كي يكثف جهوده لرد الدين، علما بأن البنك الدولي وصندوق النقد هما اللذان شجعا المغرب على الاستدانة في فترة سابقة. وبطبيعة الحال، كان لا يمكن للتقويم الهيكلي أن يتم إلا على حساب الشغل والتعليم والصحة والتجهيزات الأساسية، وهذا خلق وضعا اجتماعيا سيئا وتدهورا خطيرا في مستوى العيش للمغاربة. وقد كانت هذه الظروف مناسبة بالنسبة إلى الكونفدرالية الديمقراطية للشغل للخروج من العزلة، لأن مهمتها ليست فقط الانفتاح على القواعد العمالية لتشارك مشاركة صحيحة داخل نقابتها ونضالاتها، وإنما المطلوب منها أيضا الانفتاح على الآخر. وهكذا بدأت الاتصالات مع الاتحاد العام للشغالين بالمغرب والاتحاد المغربي للشغل، لكن لم يستجب إلا الاتحاد العام للشغالين، ليبدأ التنسيق ويصل في غضون سنوات إلى تنظيم تظاهرات فاتح مايو بشكل مشترك. وفي أعقاب فترة طويلة من شبه القطيعة بين الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال بعد انتخابات 1977، كانت لنا اتصالات بقيادة حزب الاستقلال برئاسة امحمد بوستة أثناء تلك الانتخابات، واتفقنا على موعد للتشاور والتنسيق للوصول إلى موقف موحد لمواجهة المستقبل واقتراحات الحسن الثاني، لكن ذلك لم يتم. وفوجئنا بدخول حزب الاستقلال إلى الحكومة التي شكلها أحمد عصمان، هذا الدخول الذي سيكون مصيدة لقيادة الحزب، فقد اعتقدت الأخيرة أن الحزب سيغير ميزان القوى السياسي في البلاد وهو في الحكومة، وسيصبح القوة السياسية الأولى والعمود الفقري للأغلبية الجديدة في أفق الانتخابات البلدية والتشريعية لسنة 1983 و1984، لكن الحسن الثاني سيعفي أحمد عصمان من الوزارة الأولى ويضع مكانه المعطي بوعبيد، وفق مخطط لتغيير الخريطة السياسية، حيث أعطى الضوء الأخضر لمستشاره أحمد رضا كديرة ولوزيره في الداخلية إدريس البصري لتأسيس حزب إداري جديد هو الاتحاد الدستوري، مع السهر على تزويده بالأطر والمرشحين في مختلف الاستحقاقات والحرص على أن يصبح القوة السياسية الأولى في المجالس المحلية المنتخبة وفي مجلس النواب، لتدخل العلاقات بين حزبي الاتحاد والاستقلال في وضعية شبه قطيعة. لكن التقارب سيصبح ممكنا مع التطورات التي ستعرفها قضية الصحراء وتدهور الوضع الاجتماعي، وسيبدأ بالتنسيق بين الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين، وسيتعزز هذا التنسيق بإضراب ديسمبر 1990 الذي دعت إليه النقابتان والذي سيعرف مواجهات دموية في فاس وطنجة، حيث قامت السلطة بتدخل زجري عنيف، وفاء لعاداتها في قمع أي حركة اجتماعية تعبر عن نفسها، كما حصل سنوات 1965 و1979 و1981 و1984، واستخدمت السلاح لقمع المضربين وتكسير الإضراب عوض ترك المضربين يواصلون احتجاجهم بطرق سلمية. وستضطر السلطة إلى القبول بلجنة لتقصي الحقائق شكلها البرلمان، ستبين أن عدد القتلى وصل إلى 24 قتيلا مفندة بذلك ما كانت تدعيه الحكومة من عدم سقوط قتلى أثناء المواجهات. وإلى جانب العمل النقابي المشترك، كان التنسيق يتم أيضا في البرلمان، وسيصل سنة 1990 إلى تقديم ملتمس للرقابة ضد الحكومة. وكان ذلك مناسبة لطرح المشكل الدستوري والإصلاحات السياسية. وقد ترك النقاش حول القضايا التي طرحت داخل البرلمان أثرا كبيرا على الحياة السياسية في البلاد، خصوصا وأن مستواه كان رفيعا. وقد لاحظنا أن السلطة لم تتخذ موقفا معاديا ضد الحزبين، ولم تحملهما مسؤولية أحداث 1990، ولا كانت عنيفة في ردها على ملتمس الرقابة، بل إنها، أكثر من ذلك، لم تضغط كثيرا في اتجاه منع لجنة التقصي البرلمانية حول أحداث فاس من القيام بمهمتها في التحقيق الذي أسفر بعد ذلك عن كون السلطة هي من يتحمل المسؤولية عن تلك الأحداث المؤلمة وليس المضربون، حيث أكد تقرير اللجنة أن ما وقع كان نتيجة عدم تعامل السلطات مع الإضراب بكيفية عقلانية وسلمية، لهذا لم تكن هناك محاكمات على غرار ما شهدته سنة 1981. وعلينا أن نلحظ أن هذه المرحلة عرفت فيها قضية الصحراء تطورات ملفتة بعد قبول مخطط السلام ديكويلار الذي كان يقتضي أن يكون المغاربة صفا واحدا وأن يكون هناك تماسك داخل المجتمع، بالإضافة إلى ما عرفه الشرق العربي من أحداث بعد 2 غشت ودخول العراق إلى الكويت والذي عرف ردود فعل مغربية تجلت في تنظيم تظاهرة شعبية حاشدة في الرباط لم يسبق لها مثيل دعما للعراق. كل ذلك، دفع إلى أن تعرف العلاقات الداخلية نزوعا نحو التهدئة وعدم التوتر، خاصة بعد محاولة الحسن الثاني التوفيق بين موقفه الداعم عمليا للكويت والعربية السعودية وموقف الشعب الداعم للعراق الذي كانت تربطه علاقات عميقة ومتينة بالمغرب والمغاربة منذ دعم السلطة في بلاد الرافدين لحركة التحرير المغربية في السابق، وحتى حدود رفضها دعم الانفصال في الصحراء في الحاضر. وقد جاء التنسيق مع حزب الاستقلال ثمرة شهور من النقاش والحوار، وأدى إلى الوصول إلى اتفاق ثنائي بقي سرا إلى اليوم، وهو.. إما أن نشارك سويا في الحكومة أو نكون سويا في مقاعد المعارضة، وكان من حرر المسودة الأولى لهذا الاتفاق، الواقع في صفحة واحدة، هو محمد جسوس، بينما أمضاه الأمين العام لحزب الاستقلال امحمد بوستة والكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي عبد الرحيم بوعبيد. هذا التنسيق سيزعج الحسن الثاني الذي لم يتقبل بسهولة تطور العلاقات بين الحزبين، غير أن هذا التنسيق سيدخل البلاد في مرحلة جديدة من السياسة الداخلية. وأمام ما جرى في الجزائر من تطورات وأمام الوضع الاجتماعي الداخلي، لم يذهب الحكم في اتجاه مجابهة هذا التحالف من خلال إطلاق حملة ضد الحزبين، على الأقل في مرحلة أولى تمكنا أثناءها من وضع مذكرة مشتركة في أكتوبر 1991 شاركتُ في صياغتها مع إخوة في المكتب السياسي للاتحاد وأعضاء من اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، وحملت بعد ذلك مسودتها الأولى إلى عبد الرحيم بوعبيد في باريس حيث كان يقوم بفحوص طبية في المستشفى، فوافق عليها من الناحية المبدئية وأبدى ملاحظاته عليها. وبعد عودته من باريس وقع على النص النهائي، وقام رفقة امحمد بوستة بتسليمها إلى المستشار أحمد رضا اكديرة في الديوان الملكي، غير أنه لم تظهر أي ردود فعل من قبل القصر، عكس ما سيقع حين قيام الكتلة الديمقراطية سنة 1992. وقد حرصنا على عدم نشر المذكرة أو تسريبها إلى الصحافة، لكننا سنعمل على نشر المذكرات المقدمة إلى الملك فيما بعد، لأنه كان قد أصبح من الضروري إطلاع الرأي العام عليها. وقد كانت تلك المذكرات موقعة باسم الكتلة الديمقراطية، أي بأسماء خمسة أحزاب للتأكيد على ضرورة إجراء إصلاحات كمطلب، إذ لم يعد الأمر مقتصرا فقط على حزبينا (الاتحاد وحزب الاستقلال) اللذين عملا سويا على تأسيس الكتلة، فقد حمل كل منا على عاتقه الاتصال بالأحزاب الديمقراطية الأخرى، وهكذا تكلف امحمد بوستة، مثلا، بمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي فاتصل بمحمد بنسعيد آيت يدر، وتكلف عبد الواحد الراضي، في المكتب السياسي للاتحاد، بحزب التقدم والاشتراكية، وقمت أنا وامحمد الدويري بإقناع عبد الله إبراهيم، الأمين العام للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بالانضمام إلى الكتلة، الأمر الذي لم يكن من السهولة، حيث استدعى منا خوض حوار طويل وعميق معه، دام عدة أسابيع، لحمله على الاستجابة للعرض، إذ واظبت في سبيل ذلك على زيارته في بيته بالدار البيضاء صحبة امحمد الدويري، ولما اقتنع ساهم بحماس في صياغة مشروع ميثاق الكتلة الديمقراطية وحرر شخصيا مسودة بيانها. ورغم أننا كنا قد أصبحنا ندرك أن تأثير عبد الله إبراهيم على الاتحاد المغربي للشغل قد تقلص كثيرا في السنوات الأخيرة، فإننا كنا نأمل أن يشجع وجود عبد الله إبراهيم في قيادة الكتلة الديمقراطية هذه المركزية النقابية على الالتحاق بها من أجل التنسيق بين الاتحاد العام للشغالين بالمغرب والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، غير أن قيادة الاتحاد المغربي للشغل، التي تعتبر أن واجهتها السياسية هي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، رفضت ما ذهب إليه عبد الله إبراهيم وتبرمت من الحوار أو التنسيق مع بقية النقابات في أية مرحلة من مراحل الإعداد للكتلة الديمقراطية أو قبل ذلك، خاصة حين كان التنسيق قويا بين الكونفدرالية والاتحاد العام للشغالين. لم يكن في حساباتنا وجود عبد الله إبراهيم في الكتلة ومحاصرة قيادة الاتحاد المغربي للشغل. من المحقق، طبعا، أن وجود الاتحاد الوطني في الكتلة الديمقراطية كان من شأنه أن يعطي دعما لعبد الله إبراهيم في مواجهة ضغوطات الاتحاد المغربي للشغل، لكنه لم يعبر عن هذا بكيفية واضحة، لأنه لم يكن في حساباتنا كما سبق أن قلت، والهدف بالنسبة إلينا كان هو قيام جبهة واسعة للقوى الديمقراطية التقدمية من أجل خلخلة الأوضاع السياسية واجتناب انحدار مخيف للمغرب نحو مزالق الاستبداد والتخلف. كان تأسيس الكتلة الديمقراطية في ماي 1992 حدثا سياسيا كبيرا وهاما في المغرب لقوة وعمق الصيغة التي حرر بها ميثاق الكتلة الديمقراطية والبيان الذي أعلن عن التأسيس خلال الندوة الصحفية التي عقدت بحضور الأمناء العامين للأحزاب الخمسة، وقد كان للكتلة صدى عميق عند الرأي العام الوطني، حيث أظهرت أن القوى الديمقراطية التقدمية لم تعد تخوض معاركها من أجل الحرية وحقوق الإنسان والمشاركة الديمقراطية كل منها بمفردها، بل دخلت مرحلة تكاثف جهود الجميع لتغيير ميزان القوى الداخلي. كان لذلك تأثير الصدمة على الحسن الثاني في البداية، فجاء أول رد فعل من القصر غاضبا، وتم التعبير عن عدم الارتياح لهذه الخطوة من خلال الصحافة القريبة من الحكم، فالمحللون، الذين كانوا يقدمون أنفسهم كمقربين من القصر، هم الذين تولوا تفنيد الميثاق المؤسس للكتلة وما ورد فيه من أفكار ومقاربات ومقترحات. وزاد الغضب بعد صدور مذكرة الإصلاحات الدستورية والسياسية، إذ كان رد فعل الحسن الثاني عنيفا، وذلك ربما لأن الكتلة قررت نشر المذكرة ليطلع عليها الرأي العام ويتم إشراكه وإدخاله من خلالها في العملية، وهو ما كان قد تجنبه حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي في المذكرة الأولى الصادرة سنة 1991. وفي مقابل نشر الكتلة الديمقراطية لمذكراتها، كانت الأوساط الصحفية القريبة من الحكم تنشر مقالات تهاجم فيها الكتلة ومواقفها ومذكراتها تلك، وهو ما اعتبرناه في حد ذاته مؤشرا إيجابيا، بوصف قضية الإصلاحات الدستورية لم تعد تثار داخل غرف مغلقة بل غدت مطروحة أمام الرأي العام ومحل نقاش وحوار، وإن كان حوارا غير مباشر. وهذا ما سيدفع الكتلة إلى المناقشة الجدية لتعديلات ماي 1992 التي أدخلها الحسن الثاني على الدستور. وقد كانت داخل المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي واللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال أغلبية اعتبرت تلك التعديلات خطوة إيجابية في مسيرة البلاد، ويمكن المشاركة في الاستفتاء عليها والتصويت لفائدتها ب«نعم». لكن الأجهزة التقريرية في الحزبين لم تقبل بهذه الأطروحة وتبنت موقف الامتناع عن التصويت، ودعت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي إلى المقاطعة، فيما دعا حزب التقدم والاشتراكية إلى المشاركة والتصويت ب«نعم». هكذا، مع الأسف، تباينت مواقف الأحزاب المشاركة في الكتلة الديمقراطية. - هل كانت أول مشكلة واجهتكم هي انسحاب عبد الله إبراهيم أم هي تجميد عضوية حزبه داخل الكتلة؟ كانت لدى عبد الله إبراهيم أطروحة واضحة ومفادها أنه لا فائدة من الانتخابات والمشاركة فيها قبل حصول اتفاق ثنائي ما بين الحكم والقوى الديمقراطية، وهو ما عكسه شعار «حكومة شعبية تتمتع بثقة الطبقة العاملة»، إذ اعتبر أنه إذا كانت هناك حكومة شعبية فهي التي ستقوم بالإصلاحات في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتقوم بإعداد الأجواء لانتخابات سليمة ونزيهة، وأنه عندما تظهر نتائج الإصلاحات على أرض الواقع فيمكن بعد ذاك إجراء الانتخابات. وهذه إحدى النقاط الخلافية التي كانت لنا مع عبد الله إبراهيم، فنحن في الاتحاد الاشتراكي نعتقد أنه لا يمكن فرض إصلاحات من أعلى من طرف حكومة لا تخضع لمراقبة مجلس تشريعي، ولا بد من إشراك الشعب، وهذا الإشراك لا يمكن أن يتم إلا عن طريق الانتخابات. وما كنا نطرحه هو أنه ينبغي أن تكون هناك انتخابات نزيهة، حرة وشفافة. ولما ظهر في الأفق الإعداد لانتخابات بلدية وقروية ودعونا المواطنين إلى التسجيل في اللوائح الانتخابية، اعتبر عبد الله إبراهيم أنه لم يعد معنيا بالكتلة الديمقراطية، وجمد بالتالي نشاطه ولم يعد يحضر اجتماعات الهيئة العليا للكتلة، لكن دون أن يصدر عنه أي إعلان أو بيان. - المؤتمر الوطني الخامس 1989 كان استمرارية صاخبة.. لم يعرف الاتحاد الاشتراكي، في مساره النضالي، مؤتمرا صاخبا كالمؤتمر الوطني الخامس، فقد مر في أجواء متوترة لأن نوبير الأموي أعد خطة للسيطرة على الاتحاد الاشتراكي، حيث عبأ نفسه قبل المؤتمر وقام بحملة ممنهجة وسرية في عدد من الأقاليم، كما تعبأ جل المناضلين الذين كانوا يعملون معه في المركزية النقابية، بطبيعة الحال، في هذا الاتجاه. وقد كانت الخطة موجهة، عمليا، ضدي شخصيا وضد الكاتب الأول وضد عدد كبير من أعضاء اللجنة المركزية الذين لا يمكن أن يقبلوا بأن يصبحوا أدوات في يد الكاتب العام للكونفدرالية الديمقراطية للشغل. وكانت لي قناعة قوامها أنه سيكون خطأ كبيرا إذا أبعد الحزب عن المسؤولية مناضلين لهم مصداقية وإشعاع. كانت الأزمة متمثلة، أولا، في مناقشة قضايا التنظيم، ومنها مقترح وضعه عبد الرحيم بوعبيد، وطلب الأموي أن يتم التصويت عليه فرفض بالأغلبية. لم نصل إلى فكرة التصويت على الكاتب الأول من المؤتمر مباشرة، لأن المشروع كان مرفوضا من لدن كثير من الاتحاديين، نظرا إلى رواسب تاريخية بقيت مستمرة منذ القيادة الجماعية المشهورة للاتحاد الوطني. وقد كان مقترح عبد الرحيم بوعبيد حول مسألة مسطرية بسيطة، ورفض لأنه كان هو شخصيا من قدمه، وكانت ردة فعله أن انسحب محتجا وتوجه إلى منزله، فاضطررنا أنا وعبد الرحمن اليوسفي إلى اللحاق به إلى المنزل وبذلنا جهدا كبيرا من أجل إقناعه بأن مكانه الطبيعي يوجد في المؤتمر حتى تنتهي أشغاله. وتمثلت الأزمة أساسا في اختيار القيادة، أي اللجنة المركزية، حيث كانت المناورات متعددة لإبعاد الكثير من المناضلين المقتنعين باستراتيجية النضال الديمقراطي والخط السياسي المرحلي. وفي النهاية، فشلت المناورة داخل لجنة الترشيحات، وتم الاتفاق على أن تمثل في اللجنة المركزية كل الاتجاهات الموجودة بالحزب. وبعد انتهاء المؤتمر وفي أول اجتماع للجنة المركزية لانتخاب المكتب السياسي، سعى الأموي إلى أن يكون له في المكتب السياسي ثقل لقناعته بأن وجود الموالين له بكثافة كأعضاء في القيادة هو الطريق الأسلم للاستيلاء على الاتحاد. اتفقنا في البداية على انتخاب الكاتب الأول عبد الرحيم بوعبيد. وبعد أن بدأت العملية التالية، أي اختيار أعضاء المكتب السياسي، امتنعت عن الترشح للمكتب السياسي امتناعا قاطعا.. وعبثا ظل الكاتب الأول يلح علي في التراجع عن قراري، ذلك أني تمسكت به لأن تشكيلة المكتب السياسي المقترحة لا يمكن أن تشكل قيادة فعالة للاتحاد، كما امتنع عدد من المناضلين عن ترشيح أنفسهم للمكتب السياسي. وأمام هذا المأزق، قررت اللجنة المركزية تأجيل انتخاب المكتب السياسي. وفي الدورة اللاحقة، كان أمام اللجنة المركزية اقتراح قائمتين، قائمة بوعبيد وقائمة الأموي، وهي المرة الأولى في تاريخ الاتحاد التي سيكون فيها التصويت بالاقتراع السري على قائمتين للمرشحين. تصويت اللجنة المركزية لم يفرز من قائمة الأموي إلا اسمين هما نوبير الأموي وعبد المجيد بوزوبع، فيما كان باقي أعضاء المكتب السياسي من قائمة بوعبيد عشرة أعضاء هم: عبد الرحمان اليوسفي، محمد اليازغي، محمد منصور، الحبيب الشرقاوي، مصطفى القرشاوي، عبد الواحد الراضي، محمد الحبابي، محمد جسوس، فتح الله ولعلو، محمد الحبيب الفرقاني.