سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
اليازغي: الداخلية كانت ضد أن يكون للاتحاديين حضور في الصحراء وتعاملت مع متعاونين مع الاستعمار الإسباني دافعت عن عقد المؤتمر التأسيسي للشبيبة الاتحادية بعد أربعة أيام على مقتل عمر بنجلون تحية لروحه
تعود حكاية هذه الصفحات إلى سنوات طويلة، ليس التفكير فيها، بل تسجيلها، حيث كنت طرحت على الأستاذ محمد اليازغي في ربيع 1997، أثناء وجودنا في مدينة ورزازات، مقترح أن يكتب مذكراته لما ستكون لها من قيمة سياسية وتاريخية، دون أن تكون هناك ضرورة لنشرها، ووافقني، لكن انشغالاته في مهامه الحزبية، ثم في مهامه الوزارية بعد مارس 1998، جعل الفكرة تغيب عن أحاديثنا. في صيف 2003، أعدت طرح الفكرة عليه وأثناء مناقشتها، بدت لنا صعوبة أن يخصص يوميا وقتا لكتابة هذه المذكرات، فجاءت فكرة أن أسجل له، ليس مذكرات، بالمعنى المتعارَف عليه، بل تسجيل مساره كإنسان، على شكل حوار صحافي مطول، وهكذا كان. وسجلنا ما يقارب عشر ساعات، لكن النتيجة كانت فشلا، لأن جوابه عن كل سؤال كان جوابا عن كل شيء إلا عن شخصه ودوره وموقفه. كانت الساعات التي سجلتها، ليس عن محمد اليازغي بل تأريخا للمغرب وللحزب الذي انتمى إليه، إن كان من أجل الاستقلال أو من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في وطنه ولشعبه، وخلصت، مع أن خلاصتي لم تنل رضاه، إلى أن تجربة التسجيل غير موفقة أو على الأقل ليست كما تصورتها، وقبِل معي أن نعيد التسجيل، لكن بعيد ذلك، في نونبر 2003، انتخب كاتبا أول للحزب، فتأجل كل شيء. وفي صيف 2009، قررنا أن نعيد التجربة، فكانت هذه النتيجة، التي أستطيع القول إنني لم أنجح فيها، على الأقل بالنسبة إلي، في أن «أحفزه» على الخروج, بشكل كامل أو كبير نسبيا، من العامّ نحو الخاص الذي كان يتدفق منه خارج التسجيل في لقاءات ثنائية أو عائلية أو مع مجموعة من الأصدقاء، بل أكثر من ذلك كان التدفق أحيانا بعيد إنهائنا التسجيل، حيث كان، عدة مرات، يتحدث همسا أو يطلب إيقاف التسجيل ليشرح أو يُفصّل أو يروي. هذه الصفحات، ليست كل ما سجل، إذ كثيرا ما تذكرنا أحداثا ووقائع أثناء تفريغ الأشرطة أو التصحيح والمراجعة فأضفناها. هذه الصفحات، إذا لم تكن مذكرات، فإنها، وبالتأكيد، ستكون مرجعية لكل باحث أو مهتم بالشأن السياسي المغربي الحديث، لأنها ليست صفحات مراقب أو شاهد، بل هي صفحات فاعل ومؤثر، لعب دورا متميزا في مسيرة وطنه وحزبه. - كيف كان الوضع الداخلي قبل المؤتمر الاستثنائي? لقد كان الهيكل الحزبي الاتحادي، المبني على أساس أفقي، أي الفروع والأقاليم، مفككا قبل عقد المؤتمر الاستثنائي. وقد حاولنا أن تكون الأقاليم الحزبية موازية للأقاليم في التنظيم الإداري الترابي للدولة، فتم إحياء أو خلق التنظيم العمودي/القطاعي، أي التنظيم في المؤسسات، الذي له في حزب كحزبنا دور أساسي، لأنه بقدر ما كان للتنظيم الجغرافي دور في العمل والتعبئة الانتخابية بقدر ما كان التنظيم العمودي/القطاعي يربط الحزب بالمنتجين، سواء كانوا منتجين ماديين كعمال في المصانع والمعامل والفلاحة أو منتجين فكريين في الوظيفة العمومية ومؤسسات الخدمات في مختلف القطاعات الإدارية الحكومية والقطاعين العام والخاص ومختلف المهن الحرة، ذلك أن الترابط بين هذين التنظيمين يجعل القاعدة السوسيولوجية للاتحاد قوية وواضحة. وبالطبع، فإن التنظيم العمودي يبقي الاتحاديين مرتبطين بل وملتصقين بالقطاعين الاقتصادي والاجتماعي، ويسمح بالتلاقح بين الخبراء والمناضلين من فلاحين وعمال ومستخدمين وطلبة وتجار وحرفيين صغار.. ذلك أن النظرية تأتي من أعلى وتناقش، ويتم إغناؤها بالواقع الملموس داخل المجتمع.. وازدواج التنظيم هو ما يخلق فضاء كبيرا للحوار والنقاش للقضايا الملموسة والحقيقية للمجتمع. الأمر لم يكن سهلا في المغرب، فالعمل التنظيمي بالمدن يختلف جذريا عنه في البوادي. وهناك مناطق كانت محرمة علينا، مثل الريف والأقاليم الصحراوية والمناطق الحدودية، حيث كانت السلطات تمنع منعا كليا بناء تنظيم حزبي للاتحاد، وحتى عندما كنا نؤسس كتابة إقليمية في عاصمة الإقليم، مثل الحسيمة، فإنه لم يكن يسمح نهائيا بأن يكون لنا أي فرع خارج المدينة. وأتذكر أننا أسسنا فرع أحد الرواضي بعيدا ب10 كلم عن الحسيمة واكترينا المقر، فضغطت السلطات على صاحب المبنى وألغى العقد. وفي نفس الإقليم، فتحنا مقرا في تاركيست، فتم تنقيل جميع من كان هناك من المناضلين، من رجال التعليم والصحة وموظفي الإدارة العمومية، الذين شاركوا في تحمل المسؤولية، خارج الإقليم. وفي إقليم الشاون، الذي اقتطعناه من إقليمتطوان، حدث نفس الشيء، حيث إن كل عناصر كتابته الإقليمية الأولى أبعدت إلى أقاليم أخرى، وهو ما كان يضطرنا إلى إعادة البناء من جديد أحيانا كثيرة. ومن الأمثلة الصارخة على المناطق التي منعنا فيها من بناء تنظيم حزبي إقليمقلعة السراغنة، فقد سعت السلطات إلى أن يبقى هذا الإقليم خاليا من الاتحاد والاتحاديين، لكي تستطيع الإدارة انتخاب من تريده في المؤسسات المحلية والوطنية، وكان قد ترشح في هذا الإقليم الوزير مولاي احمد العلوي لأنه لم يكن ممكنا له أن ينجح في فاس أو غيرها من الحواضر. وعلى غرار القلعة، كان إقليمالصويرة أيضا من الأقاليم التي كان يصعب علينا فيها بناء تنظيم حزبي. وقد كان هذا الوضع بقرار مركزي، إذ لا يمكن لعمال الأقاليم أن يتخذوا مثل هذه القرارات بمبادرة منهم. ولاحظنا أن الأقاليم التي كنا نمنع من البناء السياسي فيها هي الأقاليم التي تكون السلطات تنوي إسقاط مرشحين بالمظلات فيها لتضمن نجاحهم. - وكيف كان الوضع في الأقاليم الصحراوية? بالنسبة إلى الأقاليم الصحراوية المسترجعة، كان هناك وضع آخر.. لم نكن متفقين على التعامل الذي سنته وزارة الداخلية هناك، فقد أذكت النعرة القبلية والعشائرية وتعاملت مع عدد من الأشخاص الذين تعاونوا مع الاستعمار الإسباني، لذلك لم يسمح لنا قبل سنة 1978 ببناء تنظيم في أي من الأقاليم المسترجعة، لكننا بدأنا بعد هذا التاريخ محاولات بناء تنظيم اعتمادا على نواة من الاتحاديين الذين سبق لهم أن قاوموا الاستعمار الإسباني، أو كانوا أعضاء في جيش التحرير، وكذا عدد من الشباب الذين كانوا مرتبطين بجيش التحرير الذي ساهم في تكوينهم من خلال إدخالهم إلى المدارس، خصوصا في بوزكارن وتارودانت. وقد كانت مطروحة علينا قضية التنظيمات الشبيبية وقطاع المرأة، وهكذا وبعد المؤتمر الاستثنائي بدأ العمل التحضيري لعقد مجلس وطني للشبيبة الاتحادية، وهو المؤتمر الذي انعقد يوم 22 ديسمبر 1975، أي أربعة أيام بعد اغتيال الشهيد عمر بن جلون. وهذا المجلس الوطني (المؤتمر) هو الذي سينتخب عبد الهادي خيرات كاتبا عاما للشبيبة الاتحادية وهو لا يزال آنذاك طالبا في جامعة محمد بن عبد الله بفاس. وكان ضروريا أن يكون للحزب تنظيم للشبيبة، أولا لأن الجامعة اتسعت واستقطبت الطلبة من كل مناطق المغرب، وكان التواصل السياسي مع بعض المناطق يتم عن طريق هؤلاء الشباب الطلبة، وثانيا لأن الحزب، أي حزب، حتى لو كانت له جماهير واسعة، إذا لم تكن لديه أطر فلن يكون بإمكانه أن ينجح ويحقق أهدافه، لذلك كانت الشبيبة الاتحادية هيكلا أساسيا لإعداد الأطر للمستقبل. وقد تم تأسيس الشبيبة الاتحادية في أجواء مؤثرة غداة اغتيال الشهيد عمر بن جلون. واقترح إخوة في المكتب السياسي، في ظل تلك الأجواء، تأجيل المؤتمر، لكني دافعت عن ضرورة الالتزام بالتاريخ المقرر، لأن ذلك هو أكبر تحية يمكن أن تلقى على روح عمر بن جلون، كما أنه تعبير عن الثقة الكاملة في قدرة الشباب المغربي على الوقوف في وجه الاستبداد والتخلف، وقدرة طاقاته الحية على شق طريق لها نحو أفق الديمقراطية والحرية والعدالة والتقدم والاشتراكية. وهكذا أنشأنا الشبيبة الاتحادية، على أساس أن تكون مصدر إنتاج مستمر للأفكار والمشاريع والمبادرات وضخ دماء جديدة في شريان تنظيمات الاتحاد، لا لتكون آلة لتنفيذ سياسة الاتحاد والدفاع عنها فقط، بل كذلك لإنتاج هذه السياسة والحفاظ على حيويتها وارتباطها بالمجتمع المغربي. لقد فتح لنا المؤتمر الاستثنائي الباب لاستقطاب عناصر وأطر حداثية، وهذا ما ركزت عليه في جانب من مهمتي في هذا الإطار اعتمادا على انفتاح العقل ونبذ الدوغمائية على المستوى الفكري. وهكذا تمكنت، مع إخوان آخرين، من استقطاب عدد من الكفاءات العالية والأطر الرفيعة وفتح الباب لها مشرعا من أجل الانخراط في الاتحاد والاندماج في صفوفه. وتميز المؤتمر كذلك بإصداره الوثيقة التاريخية حول المرأة المغربية، حيث بلور رؤية متقدمة للمسألة النسائية بتجاوز أطروحة اليسار الدوغمائي الذي كان يعتبر أن الصراع الطبقي هو المحرك الأساسي، وأن تحرر المرأة سيصبح واقعا حتميا بعد تفويض أسس المجتمع الطبقي، حيث اعتبر المؤتمر أن المرأة ينبغي أن تصبح عنصرا إيجابيا وفعالا في النضال من أجل الديمقراطية والعدالة والتقدم والمساواة. ومن ثم سهرت، إلى جانب مناضلين ومناضلات، على إعداد مؤتمر القطاع النسائي الاتحادي سنة 1977 ليكون قناة وسيطة من شأنها تمكين النساء المغربيات من ولوج العمل السياسي، وأيضا لتكون للقطاع هياكله وضوابطه وبرامجه لتحرير المرأة، أخذا بعين الاعتبار خصوصية المجتمع المغربي. وإلى جانب الشبيبة والنساء، أسس المكتب السياسي لجنة عمالية لما يوليه الاتحاد من أهمية نضالية للطبقة العاملة، لأنه مع الانحراف الذي ظهر خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1961 و1963 داخل المركزية النقابية الاتحاد المغربي للشغل، احتد الصراع بين المناضلين الاتحاديين والجهاز البيروقراطي، لتفتقد المركزية النقابية الروح الديمقراطية ويفرغ الجهاز ومؤسساته من كل محتوى، إلى درجة أن عقد المؤتمرات نفسه أصبح مقيدا، وكل شيء أصبح مفروضا، وقرارات العمال وقرارات الإضراب وغيرها صارت مصادرة.. الكل تركز بيد الأجهزة.. وباختصار فقد أصبحت هناك بيروقراطية قاتلة لروح النقابة ومعطلة لحركيتها، وهنا قرر الاتحاديون خوض الصراع داخل الأجهزة النقابية. تبعا لذلك بدأت كل من النقابة الوطنية للتعليم والنقابة الوطنية للبريد في العمل من أجل الخروج من هيكل الاتحاد المغربي للشغل، وخرجتا بالفعل من إطار الجامعات التابعة له. لكن لما حصلت الوحدة عام 1967 ورجع الجهاز النقابي لقيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، عادت النقابتان إلى الاتحاد المغربي للشغل على أساس إعداد مؤتمر وحدوي لكل منهما. غير أنه كان واضحا أن عقد هذا المؤتمر بشكل ديمقراطي أمر مستحيل، وبالتالي عادت النقابتان إلى وضعيتهما السابقة، أي الاستقلال عن الجهاز، دون الإعلان عن ذلك حتى وقت لاحق. وقد ساهمت اللجنة العمالية التابعة للاتحاد الاشتراكي في التوجيه وتوحيد الرؤى بين الحزبيين العاملين في مختلف النقابات، كما ركزت على التنظيم العمالي داخل المؤسسات، ومتابعة الملفات الاجتماعية في مختلف قطاعات الوظيفة العمومية والخدمات والمؤسسات العمومية والمؤسسات الإنتاجية والخدماتية للقطاع الخاص. وجاءت مناسبة انتخابات اللجان الثنائية لممثلي العمال سنة 1976، فترشح الاتحاديون كمستقلين لهذه الأجهزة، وحققوا نجاحا كبيرا في عدد من القطاعات، إذ لم ينحصر ذلك النجاح فقط في قطاعات التعليم والبريد والصحة، بل تعداها إلى الفوسفاط والطاقة والسكك الحديدية وبقية مؤسسات القطاع العام، لتصبح لدى النقابيين الاتحاديين شرعية قانونية لأنهم صاروا ممثلين للعمال في اللجان الثنائية أو لجان السلامة في عدد من المؤسسات. وهذا سيدفع إلى الإعداد لتأسيس نقابات مستقلة عن الاتحاد المغربي للشغل في قطاعات الفوسفاط والمعادن والطاقة والسكك الحديدية والصحة، بالإضافة إلى التعليم والبريد، وهي النقابات التي ستؤسس في نوفمبر 1978 الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، كاستكمال لنضالها النقابي. وقد جاء اختيار هذا الاسم بدافع من الرغبة في الابتعاد عن التجربة السابقة، لأن الكونفدرالية معناها أنها ليست مركزية في تدبيرها وقيادتها لنضال الطبقة العاملة، بل هي تجمع لعدة نقابات وطنية، لكل منها استقلاله في اتخاذ القرار، سواء تعلق الأمر بالحوار أو الإضراب أو صياغة الملف المطلبي، وهذا ما سيعطي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، ولسنين طويلة، الإشعاع الكبير وسيمكنها من إرجاع الثقة إلى الطبقة العاملة في النضال النقابي ونجاح المبادرات النضالية القطاعية والوطنية، لكن وللأسف ستتطور الأوضاع في الكونفدرالية سلبيا بعد ذلك، وهو ما سيخلف لدى الطبقة العاملة إحباطا كبيرا. في 1978، استكملنا عملنا التنظيمي الأفقي، أي الإقليمي والمحلي، والعمودي، أي القطاعي. وبالتالي، عاد الإشعاع الاتحادي في القطاعات العمالية، وهو ما يوضح الدور المتميز الذي لعبته الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في النهضة النقابية بالمغرب. وبالنسبة إلى التنظيمات، يذكر أن روحا وثابة دبت في المنظمات الجماهيرية، مثل الاتحاد الوطني للمهندسين الذي تأسس سنة 1972 لكنه سيعرف هزات عديدة، فقد تم إحياؤه وتوسيعه بعد المؤتمر الاستثنائي من خلال إحداث وتنظيم الفروع وتمكينه من تمثيلية واسعة في الحوار مع السلطات العمومية حول الملف المطلبي للمهندسين. وهناك كذلك النقابة الوطنية للتجار الصغار التي كانت أداة وقناة لهذه الفئة، وهي شبكة تغطي مجموع التراب الوطني، لطرح مشاكل التجار الكثيرة لعلاقتها بالتجارة الداخلية والمنافسة والمستغلين والمحتكرين. وهذه كلها واجهات أساسية مهمة جعلت عناصر الاتحاد موجودة على أرض الواقع وفي علاقتها بالمواطنين في مجتمعهم، سواء في ميدان الإنتاج أو الخدمات. وستنجح الشبيبة الاتحادية في رفع الحظر عن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب الذي سيستأنف نشاطه ونضاله في الجامعة إلى حين انعقاد المؤتمر الوطني السابع عشر سنة 1981، حيث سيدخله العدميون في نفق لم يستطيعوا الخروج منه إلى حين فتتته جماعة العدل والإحسان التي حولت الطلبة إلى جزر متلاشية داخل الجامعات المغربية. وقد أولينا، بعد المؤتمر الاستثنائي، اهتماما خاصا لاتحاد كتاب المغرب ليس بهدف الهيمنة كما قيل، بل للدفع باتجاه أن يكون منظمة مستقلة تضم كتابا ومبدعين أحرارا معترفين بالتعدد الذي يسكن وحدتنا كأمة، وتعمل على نشر الثقافة الحديثة وبلورة سياسة لدعم الكتاب ونشر المعرفة وتشجيع الحوار الفردي والجماعي. وقد ظل اتحاد كتاب المغرب لسنين طويلة من المنظمات القليلة المستقلة عن السلطة داخل العالم العربي التي اكتسبت إشعاعا بفضل المواقف السياسية والثقافية للمنتمين إليها من كتاب وشعراء وروائيين ومسرحيين ونقاد. وقد واجهنا في عملية إعادة بناء الاتحاد الاشتراكي وهيكلته صعوبات كثيرة ومتعددة، أولاها الصعوبات المادية، فوسائلنا المادية محدودة، واشتراكات المناضلين أحيانا رمزية، وإذا استطاعت الفروع والأقاليم تغطية مصاريفها والتزاماتها المحلية فإن ذلك وحده يكون نجاحا كبيرا، وبالتالي فقد كنا، لمواجهة المشاكل المادية، نذهب إلى العاطفين على الحزب ونضالاته ممن لهم وسائل وإمكانيات مادية دون أن يكونوا بالضرورة منخرطين في الحزب، والحقيقة أن دعمهم المادي كان مصدرا مهما لوسائل العمل الوطني، لذلك طرح الاتحاد أن على الدولة أن تساعد الأحزاب الوطنية كما في جل الدول الديمقراطية، بحيث تعتمد الأحزاب، بالإضافة إلى اشتراكات أعضائها، على دعم الدولة بما يجعلها قادرة على الاستمرار والفعل، لأن مصلحة الدولة والمجتمع أن تؤطر المنظمات السياسية المواطنين، وهذا يساعد الدولة على معرفة مشاكلهم وقضاياهم وأوضاعهم بمختلف انتماءاتهم الاجتماعية وفتح آفاق جديدة لإيجاد الحلول لها. وتكمن الصعوبة الثانية في أننا لم نكن نتوفر في بعض المناطق على الموارد البشرية الكافية التي من شأنها تأمين حضور فعلي للحزب، لذلك كان تكوين المناضلين ضروريا وأساسيا. وفي هذا السياق، قمنا بمحاولات للتغلب على جانب التكوين للكفاءات والطاقات المحلية وجعل الأطر تستوعب أولا كل أدبيات الحزب، وثانيا امتلاك منهجية التعرف على قضايا المنطقة التي يعيشون فيها وأيضا قضايا البلد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، مع اكتساب مهارات للإقناع والتعبئة. وبالطبع، كان الاتحاد يتعرض من طرف السلطة لحرب معلنة وأخرى خفية، ذلك أننا لم نعش، في أي وقت من الأوقات، في مأمن من حروب تشن علينا تختلف درجة ضراوتها، وكأنه يجب على هذا الحزب أن يفنى ويموت، لا أن يتقوى ويتعزز ليزيد من قوة الوطن. وقد كان عدم ثقة الحكم والسلطة في حزبنا هو السائد، وهذا بطبيعة الحال جعلنا بدورنا لا نثق في كل ما كان يقال أو يطرح حول الحياة السياسية والوطنية من طرف الحكم والأجهزة التابعة له. - هل مرت عملية إعادة الهيكلة في ظروف سليمة؟ لم تبرز خلال إعادة الهيكلة خلافات فكرية في أوساط الحزب، ورغم طول سنوات السرية أو شبه السرية فإن الاختلافات أو التباينات على صعيد الفكر لم تظهر بعد أن تبنى المؤتمر الاستثنائي التقرير المذهبي للحزب، باستثناء ما كان يقوم به الفقيه محمد البصري من تنظيم وتوزيع نشرة «الاختيار الثوري». لكن المشاركة في الانتخابات التشريعية والبلدية خلقت نقاشات ساخنة، فقد كان هناك اتحاديون يدافعون عن عدم المشاركة في الانتخابات، ويلحون على عدم الدخول أصلا إلى المؤسسات المنتخبة حتى يتحقق التغيير الشامل للأوضاع السائدة على الصعيد الوطني. وتعزز هذا الرأي بعد عملية التزوير التي قامت بها السلطات في كثير من المناطق، وأصبح مطروحا شعار عدم تزكية مؤسسات مزورة، إلى جانب التساؤل حول ما إن كانت مشاركتنا في الانتخابات والمؤسسات المحلية والتشريعية مباركة لهذا التزوير. وفي المقابل، كان هناك رأي مفاده أن الانتخابات والمؤسسات هي ميدان من ميادين معركة الديمقراطية والحرية، وأن الحملات الانتخابية هي نافذة يتم عبرها الالتقاء بالجماهير والتعريف بمبادئنا واختياراتنا، وأيضا إسماع صوتنا داخل المؤسسات المنتخبة، على اعتبار أن المهمة المنبرية جزء من خطتنا النضالية. وعندما جرى تزوير الانتخابات التشريعية سنة 1977 وتقلص حجم فريقنا النيابي إلى 15 نائبا، قررت اللجنة المركزية أن مشاركتنا هي مشاركة نضالية وأننا بحاجة إلى المشاركة في الانتخابات، أولا لأن الحملات الانتخابية تتيح فرصة الاتصال بالجماهير، وهو ما كنا محرومين منه في سائر الأيام، حيث كان من غير الممكن أن نتصل علنا بالناس أو نوزع بيانا أو منشورا، فذلك كان صعبا جدا وكانت له عواقبه الوخيمة على حرية المناضلين وعلى الحزب، في حين أن فترة الحملة الانتخابية تسمح لنا بأن نتصل بالجماهير وأحيانا بجماهير غير ناخبة، خاصة في المدن. وأتذكر أنه في مهرجانات كبرى سنتي 1977 أو 1984 كانت الجماهير المحتشدة في جلها من الشباب، وكان كثير منهم غير معني بالانتخابات بسبب سنه أو لا تحق له ممارسة الاقتراع بسبب عدم تسجيله في اللوائح الانتخابية. وهذه الجماهير كان يهمنا أن تكون حاضرة، وأن تستمع إلى تحليلاتنا وتصوراتنا ومواقفنا ومبادئنا وأهدافنا. من هنا تقرر أن نبقى في البرلمان، رغم إسقاط مرشحينا بكيفية تعسفية في كثير من الدوائر الانتخابية. وكان عبد الرحيم بوعبيد أول من دافع عن فكرة أن المقاعد لا تهمنا، وأنه لا بد من النضال ضد التزوير إلى أن يزول من سلوك وزارة الداخلية. وقد تأكدت صحة هذا الموقف فيما بعد في الممارسة داخل المؤسسات. ورغم تقليص حجم فريقنا فقد كانت له فعالية كبيرة، وهو من خلق تقاليد العمل البرلماني المغربي، تقاليد المعارضة وآليتها البناءة، والمستوى الرفيع لمناقشة القضايا الوطنية والاختيارات وطرح البديل، وأيضا كان منبر البرلمان قناة للاتصال الدائم بالمواطنين في كل أنحاء المغرب. تأسست الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والمغرب يمر بمرحلة اقتصادية واجتماعية حرجة أغرقت البلاد في ديون أثقلت خزينة الدولة، فالمغرب استدان أكثر من طاقته على السداد، بسبب الوضع الدولي وارتفاع قيمة الدولار والنفط إلى درجة أنه سيجد نفسه في الثمانينيات لا يملك من العملة الصعبة إلا ما يغطي به حاجياته بالكاد لأسبوعين على أكثر تقدير، وارتفعت مطالب العمال والموظفين، سواء في قطاع التعليم أو الصحة أو الصناعة أو التجارة. وكانت الحكومة ترفض أي حوار مع النقابات، خاصة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل التي تحررت من البيروقراطية وأصبح بيد العمال فيها قرار الحوار والإضراب، كما أصبحت العلاقة بين الحزب والنقابة علاقة دعم وتضامن لا علاقة إملاء أو فرض لأي قرار حزبي على النقابة.