سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
اليازغي: الفقيه البصري لم يغفر لي أن طلبت منه ألا يتحرك باسم الحزب في الخارج بعد المؤتمر الاستثنائي عام 75 قضيت 10 أشهر في السجن بدون محاكمة والتهمة تنظيم تظاهرة لدعم فلسلطين بعد حرب 67
تعود حكاية هذه الصفحات إلى سنوات طويلة، ليس التفكير فيها، بل تسجيلها، حيث كنت طرحت على الأستاذ محمد اليازغي في ربيع 1997، أثناء وجودنا في مدينة ورزازات، مقترح أن يكتب مذكراته لما ستكون لها من قيمة سياسية وتاريخية، دون أن تكون هناك ضرورة لنشرها، ووافقني، لكن انشغالاته في مهامه الحزبية، ثم في مهامه الوزارية بعد مارس 1998، جعل الفكرة تغيب عن أحاديثنا. في صيف 2003، أعدت طرح الفكرة عليه وأثناء مناقشتها، بدت لنا صعوبة أن يخصص يوميا وقتا لكتابة هذه المذكرات، فجاءت فكرة أن أسجل له، ليس مذكرات، بالمعنى المتعارَف عليه، بل تسجيل مساره كإنسان، على شكل حوار صحافي مطول، وهكذا كان. وسجلنا ما يقارب عشر ساعات، لكن النتيجة كانت فشلا، لأن جوابه عن كل سؤال كان جوابا عن كل شيء إلا عن شخصه ودوره وموقفه. كانت الساعات التي سجلتها، ليس عن محمد اليازغي بل تأريخا للمغرب وللحزب الذي انتمى إليه، إن كان من أجل الاستقلال أو من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في وطنه ولشعبه، وخلصت، مع أن خلاصتي لم تنل رضاه، إلى أن تجربة التسجيل غير موفقة أو على الأقل ليست كما تصورتها، وقبِل معي أن نعيد التسجيل، لكن بعيد ذلك، في نونبر 2003، انتخب كاتبا أول للحزب، فتأجل كل شيء. وفي صيف 2009، قررنا أن نعيد التجربة، فكانت هذه النتيجة، التي أستطيع القول إنني لم أنجح فيها، على الأقل بالنسبة إلي، في أن «أحفزه» على الخروج, بشكل كامل أو كبير نسبيا، من العامّ نحو الخاص الذي كان يتدفق منه خارج التسجيل في لقاءات ثنائية أو عائلية أو مع مجموعة من الأصدقاء، بل أكثر من ذلك كان التدفق أحيانا بعيد إنهائنا التسجيل، حيث كان، عدة مرات، يتحدث همسا أو يطلب إيقاف التسجيل ليشرح أو يُفصّل أو يروي. هذه الصفحات، ليست كل ما سجل، إذ كثيرا ما تذكرنا أحداثا ووقائع أثناء تفريغ الأشرطة أو التصحيح والمراجعة فأضفناها. هذه الصفحات، إذا لم تكن مذكرات، فإنها، وبالتأكيد، ستكون مرجعية لكل باحث أو مهتم بالشأن السياسي المغربي الحديث، لأنها ليست صفحات مراقب أو شاهد، بل هي صفحات فاعل ومؤثر، لعب دورا متميزا في مسيرة وطنه وحزبه. - كيف كنتم تحيون ذكرى اختطاف المهدي بنبركة؟ في أكتوبر 1966، قمت بتنظيم الذكرى الأولى لاختطاف المهدي. اتفقنا في الاتحاد مع كل الجماعات الحزبية، على الأقل في الرباطوسلا، على أن تضع إكليلا من الزهور أمام منزل المهدي في الساعة التي تم اختطافه فيها. وهذا ما حصل بالضبط في الساعة الثانية عشرة والربع من يوم 29 أكتوبر، حيث جئنا حاملين العشرات من أكاليل الزهور ووضعناها أمام المنزل في شارع تمارة وقرأنا الفاتحة وتفرقنا دون أن يعلم البوليس الذين لم يصلوا حتى كان كل واحد منا قد غادر المكان.. لاحقوني، لكنني استطعت الإفلات منهم والوصول إلى المنزل. وبعد الظهر، وكانت تلك نهاية أسبوع، جاء البوليس وحاصروا المنزل، وطلبوا مني أن أرافقهم، لكنني رفضت وقلت لهم إنني لن أذهب معهم حتى يأتوا باستدعاء رسمي مكتوب. فما كان منهم إلا أن جلبوا الاستدعاء وأتوا في طلبي، فقلت لهم إن اليوم هو يوم عطلة نهاية الأسبوع وإنني سأستجيب للدعوة في الغد. ولما كان يوم الاثنين، توجهت، بعد إشعاري للإخوان في الحزب، إلى الدائرة الثانية للأمن الوطني مرتديا ملابس مناسبة (جلبابا شتويا). وجدت عندهم تعليمات تقضي بأن أذهب إلى الإدارة العامة للأمن الوطني. وهناك استقبلني القدميري الذي كان مدير ديوان مدير الأمن الوطني أحمد الدليمي. لكن القدميري خاطبني باسم أوفقير وقال لي: «إن الجنرال مستاء كثيرا من حركتك، وكان يمكنه أن يعتقلك ويقدمك إلى المحكمة نظرا حتى إلى نشاطك السابق في الخارج لولا أنه يحترمك ويقدر موقفك، لكن لا بد لهذه المسألة من نهاية.. ينبغي وضع حد لأي نشاط حول قضية المهدي بن بركة». وقال القدميري إن ما قمنا به، من الناحية القانونية، كان تنظيم مظاهرة بدون ترخيص، وهو ما يعرضنا لعقوبة حبسية تصل إلى 6 أشهر، معتبرا أن استدعائي هو بمثابة إنذار أول. وفي بقية الأقاليم، كان إحياء الذكرى من خلال عقد اجتماعات سرية في منازل المناضلين. المهم أن الحزب كان مصمما على إحياء الذكرى كيفما كانت الظروف، والتي كانت فعلا ظروفا قاسية بالنسبة إلينا، فقد كان هدفنا إبلاغ رمزية هذا الإحياء والتي تتلخص في أن المهدي بن بركة حي والحزب باق، لذلك حرصنا على إحياء الذكرى سنويا، ليس بنفس الطريقة وإنما باجتماعات كانت تعقد حيثما أمكن، في مقرات الحزب بالأقاليم أو في منازل المناضلين، أو حتى في قاعات عمومية حين يكون هناك انفراج في الوضع السياسي، هذا طبعا بالإضافة إلى ما كان يكتب في هذه المناسبة. ومع تطور الأوضاع في البلاد والنشاط العلني للحزب، أصبح إحياء الذكرى يتم في مقر الحزب المركزي بالرباط وفي مقرات الحزب في الأقاليم، بل في قاعات عمومية بحضور جماهير واسعة. وعكس ما حصل لقادة أفارقة تمت تصفيتهم مثل أميلكار كابرال (Amilcar Cabral) ومضلان (Modlan) وفليكس موممي (Felix Moumier) واو. ام. نيوبي (O.M Niobé) ولمومبا (Lumumba) وصالح بن يوسف (تونس) ومحمد خيضر (الجزائر) الذين انقطعت ذكراهم، فإن المهدي بن بركة، وبفضل وفاء رفاقه في الحزب، بقيت ذكراه حاضرة عند المغاربة بمختلف أجيالهم، وبقيت القضية مهيمنة على حزبنا ونشاطه، لأن الاتحاديين طلاب حقيقة، ولن يفتروا في ذلك إلى أن تظهر تلك الحقيقة كاملة عن اغتياله ويتم التعرف على قبره. - كيف كانت الخطوات الأولى لإعادة بناء وحضور الحزب؟ بعد سنوات، جاء وقت قلنا فيه إنه لا يمكن أن نبقى بدون إعلام، كما لا يمكن أن نبقى محاصرين. كنت آنذاك مدير «ليبراسيون» وكان الحبيب الفرقاني مدير «المحرر»، والجريدتان كانتا معا موقوفتين. وكانت «المحرر» قد صدرت سنة 1964 من طرف الفريق البرلماني الذي كان الفرقاني عضوا فيه، أما «ليبراسيون» فكان قد أصدرها محمد الحبابي كأسبوعية، وسأحل محله على رأس إدارتها بعد عودته إلى وظيفته في الجامعة وانتهاء مهمته في البرلمان. كانت هناك محاولة استئناف، حيث لم يكن هناك منع رسمي لصدور الصحيفتين بل كان المنع عمليا من خلال القيام بالحجز المتكرر على المنشورتين اللتين كنا نحن من أوقفهما، وكانت الحراسة أمام المطبعة مستمرة. وقمنا سنة 1969 بإصدار خمسة إعداد من «المحرر» وعدد واحد من «ليبراسيون»، لكن قرارا شفويا بالمنع سيصدر، وقد جاء مخالفا لنص قانون الصحافة الذي يقول إن المنع ينبغي أن يكون بقرار معلل من الوزير الأول ينشر في الجريدة الرسمية. وبالنسبة إلى إعادة بناء الحزب، فقد بقيت أنا وعمر بن جلون، خلال كل سنوات المحنة، معبأين لربط العلاقات بالتنظيمات الإقليمية حتى لا يقطع الخيط بين القاعدة الحزبية والقيادة التي كان نشاطها مجمدا عمليا، باستثناء نشاط عبد الرحيم بوعبيد. واستمرت العملية بناء على الأرضية التي وضحتها المذكرة التنظيمية إلى غاية 1966، أي إلى حين اعتقال عمر بن جلون. وبعد إطلاق سراح هذا الأخير، قررنا سويا، بالاتفاق مع عبد الرحيم بوعبيد، عقد اجتماع للأقاليم لأن الكتابة العامة والمجلس الوطني كانا منقسمين بين الأطر الحزبية وممثلي جهاز الاتحاد المغربي للشغل. واتخذ هذا الاجتماع قرارات مهمة، منها الإعداد لندوة الأطر التي ستعوض عمليا المجلس الوطني وسيحضرها من بقي ملتزما من أعضاء المجلس الوطني وكتاب الأقاليم وممثلي الشبيبة والنساء، على أساس ما سميناه «الندوة الوطنية للأطر» في مارس 1967. وقد قررت هذه الندوة مبدأ الإعداد للمؤتمر الوطني الثالث للحزب، وشكلت لجنة تحضيرية ولجنة لتحرير التقرير المذهبي، لكن المؤتمر لن يعقد لأنه بعد حرب يونيو 1967 وقع اعتقال المحجوب بن الصديق بعد بعثه برقية اعتبر أن ما ورد فيها يتضمن إساءة إلى الملك. وبادر عبد الرحيم بوعبيد آنذاك إلى الاتصال بعبد الله إبراهيم على أساس استئناف العمل الحزبي الوحدوي الذي كان قد توقف منذ اختطاف المهدي بن بركة. وفي ذلك الوقت، كنت داخل سجن لعلو في الرباط بعد اعتقالي إثر محاولة تنظيم مظاهرة في العاصمة وأخرى في سلا ضد الاعتداء الصهيوني على مصر. وكنت قد شاركت في «ندوة الاشتراكيين العرب» في نهاية مايو وبداية يونيو من سنة 1967 في الجزائر مع وفد كان يمثل الاتحاد وكان يضم الفقيه محمد البصري ومصطفى القرشاوي ومحمد الحبابي والتهامي الأزموري. ومنح زخم الحضور العربي للندوة أهمية كبرى، فقد شارك فيها الناصريون المصريون (الاتحاد الاشتراكي)، ومن بينهم لبيب شقير ولطفي الخولي، والسوريون (حزب البعث) والأحزاب الاشتراكية العراقية، وكان من بين ممثليها جلال الطالباني. وكانت تلك الندوة بالنسبة إلى الجزائر مناسبة للخروج من العزلة العربية التي دخلتها منذ انقلاب بومدين على أحمد بن بلا، وكان على رأس وفدها عبد العزيز بوتفليقة. رجعنا إلى المغرب يوم 4 يونيو، وفي اليوم التالي اشتعل فتيل حرب يونيو التي هاجمت فيها إسرائيل المطارات المصرية، فقررنا في الحزب الخروج في مسيرات ومظاهرات في مختلف الأقاليم. وبينما كنت أعد لمظاهرة في الرباطوسلا بتنسيق مع مجالس فروع الرباطوسلا، اعتقلت وقدمت إلى المحكمة التي ستحكم عليّ، في جلسة عقدت على الساعة السابعة صباحا، بثلاثة أشهر حبسا مع إيقاف التنفيذ، ليتم إطلاق سراحي. لكنني سأعتقل مرة أخرى حين اتصلت بالإخوان من أجل تنظيم مظاهرة كبيرة دعما للإخوة العرب وللقضية الفلسطينية، وبقيت رهن الاعتقال في سجن لعلو بالرباط عشرة أشهر بدون محاكمة. وكان قد اعتقل معي عدد من مسؤولي فروع سلاوالرباط، لكنه أطلق سراحهم. وحدث يوما أن سأل إدريس السلاوي، وزير العدل آنذاك، والدي الذي كان «شاوش» في ديوانه عما إن كان له ابن خلف القضبان، وعاتبه على عدم إخباره بذلك. كنت نبهت والدي إلى ألا يقوم بأي مبادرة لدى أي مسؤول في اتجاه إطلاق سراحي. وفي نفس الوقت، كان عمر بن جلون في السجن لأنه اعتقل سنة 1966 بمناسبة إحياء ذكرى أحداث مارس 1965 في الدارالبيضاء، واختلقوا له ملفا وحكم عليه بالسجن. لذلك فعندما اعتقل المحجوب بن الصديق، كنت أنا وعمر بن جلون في السجن، أنا في الرباط وعمر في الدارالبيضاء. ولما أرسل إلي عبد الرحيم بوعبيد يطلب رأيي في العمل الوحدوي مرة أخرى مع قادة الاتحاد المغربي للشغل، أبديت رأيا متحفظا، بل معارضا، وعللته بالتجربة السابقة، لأن ما جرى وسيجري ليس عملا وحدويا بل اتفاقا بين طرفين هما قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وقيادة جهاز المركزية النقابية. وقد كان عبد الرحيم بوعبيد مقتنعا بضرورة العمل الوحدوي في وقت محنة الكاتب العام للاتحاد المغربي للشغل. وهكذا اتفق عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد على عقد اجتماع للجنة الإدارية، وقررا تشكيل مكتب سياسي مكون من عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد والمحجوب بن الصديق، الموجود في السجن، وأن يكون لهم مرافقون، هم عبد اللطيف بن جلون ومحمد الحبابي ومحمد الفشتالي، كأعضاء مساعدين للكتابة العامة، لأنهم لم يكونوا أعضاء في الكتابة العامة المنتخبة في المؤتمر الثاني سنة 1962. انطلق العمل الوحدوي بالفعل، لكنه، مع الأسف، سيفشل مرة أخرى لأن قيادة الاتحاد المغربي للشغل، وكما هي عادتها دائما، تمسكت برؤيتها المتمثلة في أن الحزب يجب ألا يكون إلا أداة في يد القيادة النقابية وحتى في الحوار مع القصر، فقد كانت تدفع في هذا الاتجاه رافعة شعار «حكومة شعبية تتمتع بثقة الطبقة العاملة»، لأن ما كان مطروحا في الاتصالات بين القصر والأحزاب هو تشكيل حكومة ليس من أجل الإعداد للانتخابات لقيام مؤسسات تمثيلية بل لعقد اتفاق مشابه للاتفاق الذي كان قائما في الحكومات الأولى بعد الاستقلال، كحكومة عبد الله إبراهيم، على أساس أن إجراء الإصلاحات هو الذي سيمهد للمرحلة الجديدة التي تقوم فيها الحكومة بتنظيم انتخابات. كنا -أغلبية مناضلي الحزب- قد تخلينا في وقت سابق نهائيا عن هذه الأطروحة وتبنينا أطروحة أخرى، وهي أن أي اتفاق بين القصر والاتحاد يجب أن يشكل خطوة نحو دمقرطة المؤسسات، أي تنظيم انتخابات تشريعية. أما الخوض في الإصلاحات أولا وفي غياب مؤسسات ديمقراطية فلن يصل إلا إلى طريق مسدود، لأن ذلك يبعد الشعب عن الاهتمام بمصيره. في هذه الفترة الممتدة من 1967 إلى 1969، كان اهتمام الحزب منصبا على العمل الوحدوي، لكن العمل الوحدوي لم ينجح لأن حسابات الجهاز النقابي لم تكن هي ترتيب أوضاع الحزب أو الإعداد للمؤتمر بشكل حقيقي. وفي اجتماع اللجنة الإدارية لسبتمبر 1969، تقرر بالفعل تحضير المؤتمر الوطني الثالث، لكن هذا التحضير سيتوقف بسبب تجميد مجدد للجهاز النقابي في القيادة والعمل الحزبي، خصوصا بعد حملة اعتقالات أواخر سنة 1969 التي استهدفت عددا من مناضلي الحزب الذين اتهموا بنسج علاقة مع الفقيه محمد البصري وتشكيل خلايا لمنظمة سرية. - إلى أي مدى كانت هناك «ثورة مسلحة»؟ سافرت سنة 1968 أنا والحبيب الفرقاني إلى رومانيا بدعوة من الحزب الشيوعي الروماني، وفي طريق عودتنا عرجنا على باريس يوم 3 يونيو التي كانت تعيش وقتها على إيقاع المظاهرات الطلابية الفرنسية لشهر ماي، وشاهدنا بعضا من هذه المظاهرات ومررنا على الحواجز التي كانت تقيمها الشرطة بالقرب من جامعة السوربون. كان الفقيه محمد البصري في باريس، فاجتمعنا ثلاثتنا في جلسة لم تعرف غير نقاش عادي حول الأوضاع السياسية في البلاد. وبعد ذلك، التقى كل واحد منا على انفراد بالفقيه محمد البصري. وخلال لقائي به، قال إنه لا بد من ثورة مسلحة يفجرها تنظيم سري بحكم الكارثة التي أوصل إليها النظام البلاد وما تعرفه الأخيرة من انتشار خطير للفساد، فشرحت له في عرض مطول مخاطر هذه الفكرة، وناقشنا مسألة العنف الثوري والعمل الشرعي والعمل غير الشرعي والأدبيات الموجودة حول الموضوع، وقلت له إن ما أنا متأكد منه، أولا، هو أن العنف في العالم الثالث لا ينجح ضد حكم وطني، لأنه ليس مثل العنف ضد الاستعمار الذي يكون موجها إلى عدو واضح ويكون محل إجماع من قبل الشعب. وقلت له، ثانيا، إنه ورفاقه ممن شاركوا في العمل السري في إطار المقاومة ضد الاستعمار لا يمكنهم الآن أن يعملوا عملا سريا، لأنه لا يمكن للمقاومين أنفسهم أن ينظموا مقاومة جديدة بعد الاستقلال حتى لو استقطبوا عناصر جديدة، لأن المخابرات تعلم بحركتهم وتتابع نشاطها داخل وخارج المغرب، ثم إن ما يحتاجه المغرب والمغاربة اليوم، بحكم التجربة داخل الاتحاد، هو حزب جماهيري يناضل من أجل الديمقراطية بالوسائل الديمقراطية حتى لو كان النضال يتم في ظروف وشروط غير ديمقراطية. المغاربة ليسوا في حاجة إلى حزب طليعي ينوب عنهم لتغيير الأوضاع بالعنف، بل بالنضال السياسي المشروع، إذ على المغاربة أنفسهم أن يغيروا الأوضاع من خلال حزب جماهيري يكون مرتبطا بهم كما يكونون هم مرتبطين به. المهم هو كيف نصل إلى هذه المعادلة، أي كيف نقنع الشعب المغربي بأن يشارك في تغيير أوضاعه السياسية والاجتماعية لأنها مرتبطة ببعضها. ثم إن لي اقتناعا بأن الحكومة الجزائرية لا يمكن أن تدعم النضال الديمقراطي في المغرب لأن النظام في الجزائر نظام استبدادي في صلبه. ولم يخبرني الحبيب الفرقاني بما اتفق عليه مع الفقيه محمد البصري إلى حين اعتقاله في سنة 1969 واتهامه بالعمل على إعداد ثورة مسلحة تنطلق من أمزميز، وقد اعتقلت في نفس الفترة من طرف الشرطة التي كان سؤالها مركزا حول اللقاء بالفقيه محمد البصري في باريس، وسيطلق سراحي لأختطف سنة بعد ذلك في خريف 1970. كنت قد استدعيت إلى مركز الشرطة في الرباط حيث كان إدريس البصري رجل المخابرات بامتياز.. تركني دون استنطاق وكأنه ينتظر تعليمات.. وأعتقد أنه كان ينتظر ما سيقوله الحبيب الفرقاني عن لقائنا في باريس مع الفقيه محمد البصري، وبقيت طيلة يوم كامل بالكوميسارية، جالسا في أحد المكاتب، إلى أن رن جرس الهاتف، وبعد انتهاء المكالمة قال لي إدريس البصري: «على سلامتك»، وأطلق سراحي بعدها. ولن ألتقي بالفقيه البصري بعد ذلك إلا عقب انعقاد المؤتمر الاستثنائي سنة 1975، وذلك في بغداد رفقة محمد أيت قدور، وأبلغته لحظتها رسالة من قيادة الحزب.. كان ذلك في فبراير، أي شهرا بعد مؤتمرنا الذي عقد في يناير. قدمت للفقيه موجزا عن قرارات المؤتمر الاستثنائي وتصورنا حول استراتيجية النضال الديمقراطي، وأيضا عرضا بما أنجزناه في إعادة الهيكلة وخطواتنا السياسية والتنظيمية القادمة. وكان مضمون الرسالة هو أن القيادة الجديدة للاتحاد، والتي قرر المؤتمر أن يكون كل أعضائها مقيمين في الداخل، تطلب منه أن يكف عن أي نشاط باسم الحزب في الخارج وأن يمتنع عن الإدلاء بأي تصريح للصحافة ويرتقب كيف سيتطور الوضع داخل المغرب، على أساس أن نقوم، بعد سنتين أو ثلاث سنوات، بتقييم هذا التطور واستخلاص العبرة منه، فإن أعطت الخطة نتائج تجعلنا نعتمد على مسلك لتحقيق أهدافنا في التغيير والإصلاح وبناء مؤسسات ديمقراطية فسنستمر في السير على النهج الجديد، وإذا ظهر أن الخط السياسي المرحلي لا يفتح آفاقا واعدة، فإذاك نفتح نقاشا جادا لاختيار خط مرحلي جديد في إطار استراتيجية النضال الديمقراطي التي اخترناها بكيفية لا رجعة فيها. وأكدت له أن جميع الاتحاديين في الداخل والخارج، ومهما كانت مكانتهم ودرجة المسؤولية المنوطة بهم، ملزمون بالعمل بانضباط في إطار القرارات التي يتخذها الاتحاد، سواء صدرت بحضورهم أو في غيابهم، والاتحاديون لن يقبلوا مستقبلا أي تعليمات غير تلك التي تصدر عن الأجهزة المقررة في الاتحاد وبعد النقاش الديمقراطي الحر. أعتقد أن الفقيه لم ينس ولم يغفر لي أن أقول له إنه غير مسموح له بأن يصرح أو يتحرك. لن أنسى أنه بعد أحداث مارس 1973، حاول تنظيم مؤتمر وطني بالخارج، لكنه فشل. وبعد انعقاد المؤتمر الاستثنائي، أصدر صحيفة «الاختيار الثوري» واتخذ موقفا رافضا لنتائج وقرارات المؤتمر، وقام بحملة شرسة ضد هذه القرارات. ولم يشر الفقيه محمد البصري، في مذكراته وتصريحاته بعد عودته إلى الوطن سنة 1995، إلى لقائي به سواء سنة 1968 في باريس أو سنة 1975 في بغداد.