سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
اليازغي: عبد الرحيم بوعبيد لم يكن متحمسا لأن يكون اليوسفي نائبا له وعاتبه على رحلته إلى فرنسا بعد اختطاف بنبركة الحسن الثاني اشترط على قيادة الحزب ألا أكون مدير جريدة الاتحاد الاشتراكي مقابل صدورها
تعود حكاية هذه الصفحات إلى سنوات طويلة، ليس التفكير فيها، بل تسجيلها، حيث كنت طرحت على الأستاذ محمد اليازغي في ربيع 1997، أثناء وجودنا في مدينة ورزازات، مقترح أن يكتب مذكراته لما ستكون لها من قيمة سياسية وتاريخية، دون أن تكون هناك ضرورة لنشرها، ووافقني، لكن انشغالاته في مهامه الحزبية، ثم في مهامه الوزارية بعد مارس 1998، جعل الفكرة تغيب عن أحاديثنا. في صيف 2003، أعدت طرح الفكرة عليه وأثناء مناقشتها، بدت لنا صعوبة أن يخصص يوميا وقتا لكتابة هذه المذكرات، فجاءت فكرة أن أسجل له، ليس مذكرات، بالمعنى المتعارَف عليه، بل تسجيل مساره كإنسان، على شكل حوار صحافي مطول، وهكذا كان. وسجلنا ما يقارب عشر ساعات، لكن النتيجة كانت فشلا، لأن جوابه عن كل سؤال كان جوابا عن كل شيء إلا عن شخصه ودوره وموقفه. كانت الساعات التي سجلتها، ليس عن محمد اليازغي بل تأريخا للمغرب وللحزب الذي انتمى إليه، إن كان من أجل الاستقلال أو من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في وطنه ولشعبه، وخلصت، مع أن خلاصتي لم تنل رضاه، إلى أن تجربة التسجيل غير موفقة أو على الأقل ليست كما تصورتها، وقبِل معي أن نعيد التسجيل، لكن بعيد ذلك، في نونبر 2003، انتخب كاتبا أول للحزب، فتأجل كل شيء. وفي صيف 2009، قررنا أن نعيد التجربة، فكانت هذه النتيجة، التي أستطيع القول إنني لم أنجح فيها، على الأقل بالنسبة إلي، في أن «أحفزه» على الخروج, بشكل كامل أو كبير نسبيا، من العامّ نحو الخاص الذي كان يتدفق منه خارج التسجيل في لقاءات ثنائية أو عائلية أو مع مجموعة من الأصدقاء، بل أكثر من ذلك كان التدفق أحيانا بعيد إنهائنا التسجيل، حيث كان، عدة مرات، يتحدث همسا أو يطلب إيقاف التسجيل ليشرح أو يُفصّل أو يروي. هذه الصفحات، ليست كل ما سجل، إذ كثيرا ما تذكرنا أحداثا ووقائع أثناء تفريغ الأشرطة أو التصحيح والمراجعة فأضفناها. هذه الصفحات، إذا لم تكن مذكرات، فإنها، وبالتأكيد، ستكون مرجعية لكل باحث أو مهتم بالشأن السياسي المغربي الحديث، لأنها ليست صفحات مراقب أو شاهد، بل هي صفحات فاعل ومؤثر، لعب دورا متميزا في مسيرة وطنه وحزبه. - لنتحدث قليلا عن خلافك مع الأموي.. إذا أردنا الحديث عن الخلاف مع الأموي، فإنه في العمق خلاف حول استراتيجية النضال الديمقراطي، لكنه مغلف بغطاء المشاكل التنظيمية. نوبير الأموي لم يستطع مواجهة الخط السياسي المرحلي الذي يسير عليه الاتحاد، خط المشاركة في المؤسسات على علاتها والحوار والتعاون مع الأحزاب الديمقراطية الأخرى، وأصبح الهاجس عنده هو التحكم في الجهاز الحزبي ليصبح الاتحاد الاشتراكي أداة بيد قيادة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وفي ذلك إحياء للخطة التي كان ينتهجها المحجوب بن الصديق بالنسبة إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الستينيات. كان الأموي على اتصال بالفقيه محمد البصري في الخارج، هذا الأخير الذي سبق أن أسس تنظيما في المهجر هو «الاختيار الثوري» مع جريدة دورية ناطقة بلسانه تحمل نفس الاسم. وهذا التنظيم لم يستطع التسرب إلى التنظيمات القاعدية للاتحاد في الأقاليم والفروع والقطاعات داخل الوطن، رغم الوسائل والإمكانيات الهائلة التي خصصها لذلك. وفي النهاية، تلاشى التنظيم في الخارج بعد أن طردت مجموعة إبراهيم أوشلح الفقيه محمد البصري نفسه من ذلك الإطار. المشكل في النهاية كان مشكلا داخليا.. هو في الواقع تكرار لتجربة الحزب مع النقابة (الاتحاد المغربي للشغل) بجعل المركزية النقابية (الكونفدرالية الديمقراطية للشغل) هي الموجهة للحزب وليس العكس. وفيما بعد ستظهر داخل الكونفدرالية نفس الأزمة التي عرفها الاتحاد المغربي للشغل والمتمثلة في استبعاد الحياة الديمقراطية داخلها، مما سيؤدي إلى قيام حركة تصحيحية أخرى تمثلت في تأسيس الفيدرالية الديمقراطية للشغل. وأثناء المؤتمر، شعر عبد الرحيم بوعبيد بتعب أرجعناه إلى الإرهاق، لكنه في نهاية ذلك العام سيجري فحوصات طبية ستكشف عن إصابته بسرطان في الرئة، وعلى إثر ذلك توجه، ولعدة مرات، إلى باريس طلبا للعلاج، وتابع العلاج والمداواة في الرباط. ورغم حالته الصحية المتدهورة، فقد رفض أن يخلد للراحة، مدركا أهمية مستوى التنسيق مع حزب الاستقلال ولو أن كثيرا من لقاءاتنا الثنائية، التي كانت تعقد إما عندي في المنزل أو في منزل امحمد بوستة, لم يحضرها شخصيا. وفي غشت 1991 أصبح الوضع الصحي لعبد الرحيم بوعبيد صعبا، وأصبح مطروحا بالتالي إقرار نيابة رسمية عن الكاتب الأول قبل سفره من أجل العلاج. وفي هذا السياق أذكر أنني كنت، عمليا، أقوم، ومنذ اغتيال الشهيد عمر بن جلون، بمهمة نائب الكاتب الأول وكان بوعبيد يشعرني دائما بثقته الكاملة في شخصي وفي إمكانياتي التسييرية، وكنت أنا وإياه نشكل ثنائيا صلبا لقيادة الاتحاد. وفي آخر غشت وأثناء حفل خطوبة ابن أخته ابن عاشر محسن لنعيمة بلافريج، طرحت عليه ضرورة اتخاذ قرار رسمي بتعيين من يباشر مهام الكتابة العامة نيابة عنه. وفي هذا الخصوص، لم يكن عبد الرحيم بوعبيد متحمسا لترك النيابة لعبد الرحمان اليوسفي، بل كان يفضل أن يترك النيابة لي وحدي، فأقنعته بتخويل النيابة لي ولعبد الرحمان اليوسفي، وحررت شخصيا مسودة القرار الذي حرصت على أن أضع فيه اسم عبد الرحمان اليوسفي قبل اسمي، ثم قدمته إلى بوعبيد كي يمضيه وبعدها أُرسل يوم فاتح شتنبر 1991 إلى أعضاء اللجنة المركزية وإلى كتاب الأقاليم والقطاع النسائي والشبيبة الاتحادية. وفي نوفمبر 1991، كان هناك اجتماع مهم للجنة المركزية للحزب، ألقى خلاله عبد الرحيم بوعبيد خطابا مؤثرا جدا، قال فيه إن المهام التي رسمناها لأنفسنا، والمتمثلة في الدفاع عن حوزة بلادنا والسعي من أجل تحقيق الإصلاح الجذري، هي قدرنا لتكون الديمقراطية ومبادئها وحقوق الإنسان دائما نصب أعين المناضلين... إن الاضطلاع بهذه المهام يتطلب منا التحلي بالصبر.. بل يحتاج كفاحنا إلى مزيد من الجلد وبعد النظر، وإلى شعور دائم بأن لنا في هذه البلاد رسالة نريد أن نؤديها على أحسن وجه.. «لذلك إخواني، أخواتي، كنت معكم أو قدرت الظروف أن أكون معكم، فإننا نشعر جميعا باطمئنان إلى أن ما أسديناه من أجل الوطن ليس هو الكمال، ولكن ما أسديناه خرج من صميم الفؤاد، طاهرا نقيا، يريد خدمة الشعب والأمة والمصلحة العامة».. وتأثرنا تأثرا كبيرا عبرت عنه الكلمات التي خرجت بشكل عفوي من أفواه أعضاء اللجنة المركزية. وبعد اجتماع اللجنة المركزية سيستفحل مرض عبد الرحيم بوعبيد.. لكنه ظل متتبعا لقضايا الحزب وقضايا الوطن والوضع العالمي، وكنت أقف على ذلك خلال زياراتي اليومية له والتي كانت آخرها الزيارة التي قمت بها في ساعة متأخرة من ليلة وفاته في 7 يناير 1992، فرغم الإرهاق الذي كان يبدو عليه ليلتها، طلب مني استعراض المعطيات المتوفرة لدي حول الوضع الداخلي وحول تطور القضية الفلسطينية.. افترقت معه في منتصف الليل، وفي الساعات الأولى من صباح يوم 8 يناير فارق بوعبيد الحياة، وجاءني نعيه من طرف زوجته نجاة، فتوجهت مباشرة إلى داره ولم أفارقها طيلة أيام العزاء. بعد وفاة عبد الرحيم بوعبيد وإعلان الخبر، اتخذت الإجراءات مع أعضاء المكتب السياسي وتمت مشاورة عائلته حول مكان دفنه، هل سيكون في سلا حيث مسقط رأسه أم في الرباط حيث رغب أن يوارى الثرى. وقد كان لخبر وفاته صدى كبير، لم يعرفه المغرب منذ وفاة محمد الخامس، إلى درجة يمكنني أن أقول معها إن حجم الحضور الشعبي في مراسيم تشييع الجنازة كان أوسع من حجم حضور كل الجنازات الكبرى التي عرفها المغرب. وعندما انطلقت الجنازة يوم 9 يناير من منزله باتجاه مسجد السنة حيث سيصلى على جثمانه، كانت موجات المشيعين لا تتصور، حيث غطت المسافة ما بين مسجد السنة ومقبرة الشهداء. وكان من الصعوبة بمكان الوصول بالجثمان إلى المقبرة نتيجة التدفق الجماهيري والتأثر الذي كان باديا على وجوه الناس تعبيرا عن الوفاء لهذا الرجل والعرفان له بما قدمه إلى البلاد وأيضا وفاء لحزبه والتزاما بمبادئه حيث رفعت أثناء مراسيم التشييع شعارات «عبد الرحيم ارتاح ارتاح.. سنواصل الكفاح». كانت مسألة النيابة عن الكاتب الأول للحزب حاضرة قبل وفاة عبد الرحيم، وحين اشتد به المرض قرر متابعة العلاج في مستشفى بباريس. وقبل سفره إلى فرنسا في آخر غشت 1991، قرر ترتيب البيت الداخلي للاتحاد على مستوى النيابة عنه داخل المكتب السياسي كما وضحت ذلك من قبل. وكان بوعبيد قد عبر لي، في لقاءات ثنائية متعددة معه في السابق، عن مآخذه على عبد الرحمان اليوسفي، فقد كان يؤاخذه على رحلته إلى فرنسا بعد اختطاف المهدي بن بركة سنة 1965، وخصوصا على بقائه مدة طويلة في الخارج بعد نهاية محاكمة مختطفي بن بركة، كما كان يؤاخذه على عدم إعطائه الأولوية لعلاقات الاتحاد الخارجية وتمتين تحالفات الحزب مع الأحزاب الاشتراكية والأحزاب التقدمية والديمقراطية وحركات التحرر، عربيا وأمميا. وكان عبد الرحيم يؤكد أن ما يقوم به عبد الرحمن اليوسفي من اشتغال على قضايا حقوق الإنسان وحضور في المنظمات غير الحكومية لا يقوم به عادة إلا المتقاعدون عن العمل السياسي، وكان يقول لي إن من يعرفهم هو شخصيا من بين القادة الأوربيين الذين يشتغلون في هذا الميدان ولجوا إليه بعد انتهاء نشاطهم ومشوارهم السياسي، وسألني مرارا بصيغة استنكار: من هو المسؤول الأول أو القيادي في حزب تقدمي وديمقراطي الموجود في هذه اللجان أو في قيادة هذه المنظمات غير الحكومية؟ وقد كنت أعارض بوعبيد في موقفه هذا، وأدافع عن عبد الرحمان اليوسفي وأهمية نشاطاته في الخارج على أساس أن ميدان حقوق الإنسان أصبح ميدانا أساسيا للعمل السياسي، وأن عبد الرحمن اليوسفي أعطى -مثلا- مصداقية دولية لاتحاد المحامين العرب الذي أصبح لتقريره السنوي المقدم في جنيف صدى كبير. وحتى بعد عودة عبد الرحمان اليوسفي إلى المغرب والتحاقه بالمكتب السياسي، كان بوعبيد يعاتبه بسبب كثرة أسفاره إلى الخارج وغيابه الطويل أحيانا في منزل زوجته بكان في فرنسا. وبالمقابل، كنت أطلب من بوعبيد مرارا الاتصال هاتفيا بعبد الرحمان اليوسفي لاستشارته أو للإلحاح عليه في حضور اجتماعاتنا كقيادة، لكنه كان يمتنع دائما. لكل ذلك، ظل بوعبيد مترددا كثيرا في أن يكون عبد الرحمن اليوسفي نائبا عنه إلى جانبي إلى أن أقنعته بذلك. وقد أسر بذلك إلى أفراد أسرته وإلى صديقه عبد الرحيم الشرقاوي وإلى محمد الحبابي وأكدوا أننا لم نكن نتصور أننا سنفقد عبد الرحيم في ذلك الوقت، حتى لما اشتد به المرض، وأنه لهذا السبب كان صعبا أن نجتمع، وهو على قيد الحياة، ونختار خليفة له. لكن بعد رحيله، أصبح موضوع اختيار الكاتب الأول مطروحا بإلحاح، وفي النهاية برز اتجاهان خلال الاجتماعات الأولى التي عقدها المكتب السياسي: اتجاه نوبير الأموي الذي اعتبر أنه لا داعي إلى اختيار كاتب أول خلفا لعبد الرحيم بوعبيد مفضلا أن تبقى القيادة جماعية، والاتجاه الآخر كان يقول، على العكس من ذلك، أن واجب الاتحاديين هو أن يختاروا بسرعة كاتبهم الأول. وكنت أنا من اقترح على عبد الرحمن اليوسفي أن يتقدم ليكون الكاتب الأول للحزب رغم أن المقاوم حسن صفي الدين الأعرج حذرني، لما استشرته في الموضوع، من اختيار عبد الرحمن اليوسفي لأن تجربة المقاومة معه كانت سلبية، حسب قوله، لأنه كان يفر كلما واجهت المقاومة مشكلة تتطلب الحسم. وأخبرت الأمين العام لحزب الاستقلال امحمد بوستة بمبادرتي، ثم قمت بزيارة اليوسفي في منزله فامتنع وتردد في البداية لأنه شعر، ولا شك، بجسامة المسؤولية وكان متخوفا من أعبائها. لكن أحدا منا في المكتب السياسي لم يكن مساندا لما اقترحه الأموي حول القيادة الجماعية التي وقفت على فشلها في الاتحاد الوطني وعلمت إلى أين انتهى مشوارها. بعد أن قبل عبد الرحمن اليوسفي تحمل المسؤولية الأولى، دعوت -بعد الانتهاء من مراسيم العزاء- إلى اجتماع المكتب السياسي في المقر، وكانت على جدول أعمالنا نقطة واحدة هي انتخاب الكاتب الأول فاخترناه، كما أكد أعضاء المكتب السياسي اختياري كنائب للكاتب الأول. لم يطرح الكاتب الأول الجديد مسألة توزيع المهام بين أعضاء المكتب السياسي، وبقي الوضع كما خرج من المؤتمر الوطني الخامس الذي جعلني ما جرى فيه أرفض بعد ذلك تولي مسؤولية التنظيم.. تطوع نوبير الأموي لتولي هذه المسؤولية، وحاول عبد الرحيم بوعبيد إقناعي بأن نكون أنا والأموي من يتصدى لهذه المهمة، لكنني رفضت ولم أشتغل بالتنظيم بعد ذلك التاريخ، دون أن يمنعني ذلك من مواصلة حركيتي، بما تعنيه من اهتمام بقضايا الحزب والمناضلين واستمرار في الحضور المتميز في جميع الأقاليم وتعبير صريح عن موقف الاتحاد من كل القضايا الوطنية والدولية المطروحة على الرأي العام.. ولعل ذلك يرجع إلى طبيعتي الشخصية وشعوري بالمسؤولية. - في نفس الوقت، كنت مسؤولا عن إعلام الحزب وكان لك نشاط صحفي.. كنت المدير المسؤول عن جريدة «المحرر» من سنة 1975 إلى سنة 1981، وكنت أخصص لها 3 أيام في الأسبوع، إذ كنت أنتقل إلى الدارالبيضاء حيث يوجد المقر لأقف على توجيه وتدبير الصحيفة التي أصبحت مرجعية، وعرفت ارتفاعا صاروخيا في التوزيع، لسببين هما توسع الحزب ونشاطه وإشعاعه، من جهة، والخط التحريري المتجدد لصحف الحزب، من جهة أخرى. وكنت قد وضعت مع الإخوة -بعد وفاة عبد الرحيم بوعبيد- مخططا لصحافة الحزب، يرتكز على بلورة الخط التحريري بحيث يكون مبنيا على مبادئ وقيم الاتحاد، لكن مع الاعتماد على مهنية حديثة ومتقدمة. وأسجل هنا أن الفضل في تطور صحيفة «الاتحاد الاشتراكي» وريادتها يعود إلى محمد البريني، مدير الجريدة، ورئيس التحرير مصطفى القرشاوي. والسبب في أنني لم أتول إدارة «الاتحاد الاشتراكي» أن الملك الحسن الثاني كان قد جعل ذلك شرطا لإصدار صحفنا بعد توقف «المحرر» سنة 1981، وإلى جانب ألا يكون محمد اليازغي مديرا للجريدة كان هناك شرط آخر تمثل في ألا تحمل الجريدة اسم «المحرر» على اعتبار أن البلاد بالنسبة إليه قد تحررت ولم يعد هناك من داع بالتالي إلى أن يكون هناك «محرر»، وذلك رغم أن كلمة «المحرر» تعني أيضا الصحفي محرر الأخبار. وعندما أبلغني عبد الرحيم بوعبيد بشروط الحسن الثاني، اقترحت محمد البريني مديرا، واخترنا «الاتحاد الاشتراكي» كعنوان للجريدة، ولو أنه اسم طويل، حتى لا نحتاج إلى دعاية كبيرة للتعريف بهوية الصحيفة عند صدورها. أما «ليبراسيون» فلم يرفع عنها المنع إلا سنة 1989، واخترنا أن يكون إصدارها أسبوعيا في البداية قبل أن نحولها إلى يومية. وعلى عكس ما حدث مع «المحرر»، فقد قبل الحكم أن تحتفظ «ليبراسيون» باسمها. وفي سنة 1993 سأقترح لشغل منصب رئاسة التحرير محمد الكحص الذي اشتغل بحماس صادق ومهنية متميزة واقتناعات اشتراكية، جاعلا من «ليبراسيون» جريدة النخبة التي لها صوت مسموع وذو مصداقية. وفي1977، اختارني بالإجماع الإخوة في النقابة الوطنية للصحافة المغربية، التي كنت عضوا في مكتبها الوطني بصفتي مديرا ل«المحرر»، كي أكون أمينا عاما للنقابة التي كانت عند التأسيس سنة 1963، الذي لعب فيه عبد الرحمان اليوسفي دورا أساسيا، نقابة للصحف وليس للصحافيين. وكانت قد تشكلت آنذاك من الصحف التي كانت معارضة، وخصوصا منها صحف حزب الاستقلال والاتحاد وحزب التقدم والاشتراكية مع صحف أسبوعية لمصطفى العلوي كانت هي الصحف الوحيدة الموجودة آنذاك. كان همّ النقابة الأساسي هو الدفاع عن حرية التعبير وحرية الصحافة، كما خاضت معركة ضد صحافة «ماس» التي وُرثت عن الاستعمار واختار الحكم أن يسمح لها بالبقاء، إلى حين فتحت النقابة معركتها فاشترت الدولة صحفها من الميزانية العامة وسلمتها إلى مولاي أحمد العلوي. وبعد تسلمي لمهامي كأمين عام للنقابة، كان لدي هاجس أساسي وهو أن أجعل منها نقابة للصحافيين وليس فقط للصحف، وأن تأخذ مكانها على المستوى العربي والدولي بما يساعدها داخليا على الدفاع عن حرية الصحافة وحقوق الصحفيين في المغرب. وفي مرحلة أولى، انفتحت النقابة على الصحافة المكتوبة، وتحديدا الصحافيين الممارسين في الصحف الأعضاء بالنقابة. وفي مرحلة تالية سنمر إلى تأسيس فروع في المدن حتى لا تبقى النقابة مقتصرة على مدينتي الرباطوالدارالبيضاء، لأن عدد الصحافيين والمراسلين في تلك المدن كان آخذا في الاتساع، ثم بدأنا في بلورة دفتر مطلبي لحملة الصحافيين ومساعدة الصحف، ومن بين ما أنجزناه ما قررته الحكومة من دعم الصحافة بالورق والاشتراك في وكالة المغرب العربي للأنباء، أما المكاسب التي استطعنا تحقيقها لفائدة الصحافيين فقد تمثلت في تخفيض أثمان النقل عبر القطارات والطائرات، والاتفاق مع أرباب الفنادق على تخفيض أثمان الإقامة. وستسلمنا الدولة فيما بعد المقر الذي توجد فيه النقابة اليوم. وهكذا فقد تم توسيع التنظيم عموديا بانخراط الصحفيين ليس فقط في الصحافة المكتوبة وإنما أيضا في الإذاعة والتلفزة ووكالات الأنباء والمراسلين المغاربة للصحف والوكالات الخارجية، كما تم التوسيع أفقيا بتنظيم الفروع في كل المناطق والأقاليم حسب حجم الحضور الصحفي فيها. وقد كانت علاقتنا بالدولة غالبا علاقة متوترة، لكن النقابة الوطنية للصحافة المغربية ستفتح، من خلال نضالها الذي تجلى في تقديم دفاتر المطالب إلى وزارة الإعلام والاتصالات المستمرة بها، مرحلة جديدة في العلاقات بين الحكومة ورجال الإعلام. ولما أصبح وزير الداخلية ادريس البصري هو وزير الإعلام، أبلغته شخصيا بأن هناك تناقضا بين المهمتين، فكان جوابه أن ذلك قرار الملك، وأعرب عن التزامه بألا يقوم بأي إجراءات ضد الصحافة، وفُتح معه نقاش أدى إلى تنظيم المناظرة الوطنية حول الإعلام بالمغرب في نوفمبر 1992 والتي لعبت فيها النقابة دورا أساسيا وخرجت بتوصيات متقدمة، وأتذكر أن أوسمة ملكية أعطيت لعدد من الصحافيين والعاملين في ميدان الإعلام، ولم أكن طبعا من بين هؤلاء فقال لي إدريس البصري: «جلالة الملك سيقوم بتوسيمك في مناسبة أخرى، ربما تكون عيد الشباب»، غير أن هذا لم يحدث ولم أتوصل بوسام العرش من درجة قائد إلا على يد الملك محمد السادس وأنا وزير لإعداد التراب الوطني والسكنى والتعمير والبيئة سنة 2004. وعلى المستوى الخارجي، وثقت النقابة علاقتها باتحاد الصحافيين العرب، ووقعنا اتفاقيات ثنائية مع عدد من نقابات وجمعيات الصحفيين العربية، وانخرطت النقابة في المنظمتين الدوليتين للصحافيين الموحدتين آنذاك رغم أن واحدة كانت بالشرق في المعسكر الشيوعي والأخرى بالغرب الليبرالي، كما انخرطت في المنظمة العالمية للصحافيين في براغ، وفي السنة نفسها انخرطت في الفيدرالية العالمية للصحافيين في بروكسيل. وقد أمضينا في تلك الفترة اتفاقيات ثنائية مع عدد من النقابات مثل النقابات الإسبانية والفرنسية والبلجيكية والإنجليزية والإيطالية، وفي المعسكر الاشتراكي وقعنا اتفاقا مع النقابة الروسية والتشيكية.