لا أتذكر متى سمعت تعبير»الاتحاد الاشتراكي» لأول مرة. ربما لما كنت في رحم أمي، أو ربما تسلل إلى أذني لما كنت أخطو خطواتي الأولى في ذلك الزقاق بحجارته الرمادية الصقيلة التي دفنتها البلدية في يوم من الأيام تحت الزفت بدرب السلطان، أو لعله أتاني في أحد أحلام الطفولة، أو... لم يكن لي، في البدء، علم لا باليسار ولا باليمين، ولا كان لدي وعي بقيم الحداثة ولا الديمقراطية ولا الكرامة. فقط، وجدتني مرتبطا به أو بالأحرى أحسسته جزءا مني مثل خالة على الخد أو «توحيمة» هنا في العنق، اكتشفت أن الكثيرين كانوا يحملونها مثلي. ولم أؤد قط انخراطا ولا سعيت لأحصل على بطاقة الانتماء إلى التنظيم الذي يحمل هذا الاسم لأني كنت أعتبر، بشكل لا واع، بأن هذا الإحساس بالانتماء المتبادل بيني وبينه يكفيني ويكفيه. وحتى لما توسعت معارفي واكتشفت أن اليسار المغربي يضم تنظيمات أخرى، إلا أنني كنت أعتبرها بشكل تلقائي تنويعات على اللون الأصلي، أو كما يقول الفرنسيون: «des nuances». كان الاتحاد الاشتراكي يمثل عندي اليسار.. تلك النقطة التي «تتخلخل عندها المركزية»، على حد تعبير المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي.. تلك «الفضيحة» التي تمزق جميع القواعد غير العادلة «وتكشف هامشية كل مركز». كان يمثل ذلك اليسار الذي يعلي من قيمة الفرد ويحرره ويطلق طاقته، في مقابل ذلك اليمين المحافظ عندنا الذي يميل إلى تقييده ووضعه تحت «وصايات» التقاليد وتحت رحمة تأويل معين للدين. ولسنين كنت أحسه سفينتي المحصنة وسط هذا الهامش/المحيط الذي أجدني محاصرا فيه، مثل غيري وهم كثير، وأعتبر قادته مثل «عوليس» الأسطوري، الذي سيوصلني إلى مرفأ «إيتاكا» الآمن مهما طال الزمن. ولم أكن -وأجرؤ أن أقول مثل غيري- ألقي بالا لصراعات الاتحاديين وحساباتهم الضيقة في بادئ الأمر، وكنت أشعر بأنها أضعف من أن تصل إلى تلك «الغمامة» التي كنت أحتمي بظلها مثل طائر وجد نفسه في صحراء قاسية. ولكن شيئا فشيئا تحول مركبي الحصين إلى قشة لا تسعفنا نحن الغرقى، ولكننا لا نملك غيرها في هذا البحر الهائج الذي رمتنا فيه يد خرافية، وصار الاتحاد الأسطوري مجرد حزب من بين كل الأحزاب الأخرى، ولم يعد «قادته» ينتبهون إلينا نحن الذين نحمله ك»توحيمة» من فرط إصرارهم على أن يكون في حجم صراعاتهم التي تصغر.. وتصغر.. وتصغر يوما بعد يوم. ليست لي هنا أي رغبة في الحديث بلغة السياسة والسياسيين لأنني أحسها قاصرة عن بلوغ عمق تلك العلاقة الخاصة التي نسجتها، ونسجها غيري وهم كثير، مع الاتحاد/الفكرة، وحتى مع الاتحاد/التنظيم. وأحس بأن هذا الاتحاد يخذلني ويخذل فيّ تلك الأحلام التي ترعرعت بداخلي وأن أحتمي بجداره، الذي كنت أعتقد أنه متين لن تتسرب إليه الشقوق، وأحمل وردته التي كنت أخالها دائمة النضارة. لكنها تحولت بين يدي إلى شيء ذابل أبعد ما يكون عن تلك «الوردة التي توبخ العالم».. التي كان الشاعر أحمد بركات يحمل في إحدى قصائده.