كان رحيله مفاجئا بدون استئذان أو ربما تعمد أن يكون دون سابق إشعار. تغيب عن جنازته كثير من أصدقائه وتلامذته. لم يصلنا خبر رحيله إلا بعد أن وري الثرى. كان يؤثر الصمت على الكلام ويفضل الجلوس في المقاعد الخلفية إلا في الحالات الاستثنائية عندما يتحمل المسؤوليات الكبرى، رئيس جمعية الفلسفة بالمغرب ثم رئيس لشعبة الفلسفة لمدة عقدين من الزمن، أو عند انخراطه المبكر في العمل السياسي ومشاركته الفاعلة في أحداث الدارالبيضاء 1965 التي أدت إلى اعتقاله. ثم سيتعرض للاعتقال مرة ثانية مع مطلع عقد السبعينات. عندما تخرج المرحوم سالم يفوت من قسم الفلسفة بكلية الآداب بالرباط سنة 1968 عين أستاذا بمدينة القصر الكبير بالمعهد المحمدي آنذاك أو الثانوية المحمدية الآن، وكنت ضمن الفوج الأول الذي تتلمذ عليه. كان نموذجا للمثقف الكانطي في سلوكه وصرامة مواعده. لم يتغيب يوما واحدا عن إلقاء دروسه، بالرغم من التزامه الأسبوعي وسفره إلى الرباط من أجل متابعة دراساته العليا. استوقفني عندما كنت أجلس في الصفوف الوسطى، جاذبية شخصيته وهندامه الأنيق على الطريقة السارترية التي كانت تساير آخر أساليب الموضة في تلك المرحلة، لا يخلع إلا نادرا ربطة العنق، كان وجهه المليح يذكرني بسماحة القس جاكسون داعية السلام ضد التمييز العنصري. من طقوسه الجميلة التي عودنا عليها نحن تلاميذه أنه كان يجري لنا امتحانا شفهيا عند نهاية كل فصل دراسي من أجل الدعم والتحضير لامتحان الباكالوريا. كان تيار التواصل مع المرحوم سالم يفوت منذ الحصة الأولى قد مر بيننا خفيا وخفيفا، في أحد هذه الاختبارات الفصلية سألني دون غيري من تلاميذ القسم عن موضوعات لا تتعلق بالمقرر بادرني بسؤال عن الثورة الثقافية في الصين ثم انتقل إلى طرح سؤال بدا لي غريبا هل تعرف زنقة لافوزيي بالرباط حيث يوجد مقر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. تمتمت بكلمات مبهمة متظاهرا بمعرفتي بالمكان. فدعاني الأستاذ سالم يفوت بعبارات واضحة أن أتوجه عند نهاية الأسبوع لتمثيل تنظيم الاتحاديين في الشمال المزمع عقده في مقر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. لست أدري كيف تعرف علي المرحوم سالم يفوت أو بعبارة أصح لماذا انتدبني دون غيري من التلاميذ للقيام بهذه المهمة (التاريخية) التي غيرت مسار حياتي، هل يرجع ذلك إلى أسئلتي المشاغبة التي كانت دائما شاردة عن أجواء الدروس، أو ربما كانت فراسة المرحوم الرائية هي التي قربتني إليه. كانت هذه الحادثة أول فرصة وآخرها نتحدث فيها عن انتمائنا السياسي، لم يكن المرحوم سالم يفوت يتحدث عن انتمائه السياسي إلا بضمير الغائب سواء في دروسه أو في علاقته النضالية اليومية، لم يستعمل أبدا في تعليمه لغة الحماس الصاخب، كان يبتعد عن زعيق الخطابة الثورية التي كانت لغة المرحلة بامتياز، يجتهد المرحوم سالم يفوت في تفكيك المفاهيم العلمية دون أن ينحاز للتأويل السياسوي أو للهوى الإيديولوجي. استطاع سالم يفوت في فترة زمنية وجيزة من إقامته بمدينة القصر الكبير أن ينسج علاقات نضالية مع الفاعلين الحقيقيين وأن يتعرف من نافذة غرفته بفندق (الزهرة) على خبايا الحياة السياسية بالمدينة. بعد نهاية السنة الدراسية كان المرحوم يفوت قد استوفى إنجاز بنود أجندته النضالية وكأنه رسول الحب الذي شاءت الأقدار أن تبعثه لكي يسهم في تغيير حيوات صاعدة بالمدينة، ثم بدأت دوائر الحصار تحوم حوله، في الشارع وفي الثانوية، نتيجة لتقارير الوشاية التي صارت تطارده من خارج المدينة، كما أن إدارة الثانوية المحمدية ساهمت بدورها في تخويف السلطات المحلية عبر تقارير مبالغ فيها تعمل على تضخيم أفعاله وتحركاته. مما جعل البوليس السري زميلا له يرافقه في ذهابه إلى الثانوية وعند عودته إلى الفندق. لم نعد نلتقي إلا لماما، بعد التحاقي بجامعة فاس بظهر المهراز. صرنا نتقاطع في مناسبات حزبية عابرة. التقينا مرة في مقر الحزب بعمارة لاصافت بديور الجامع قبل انبثاق حزب الاتحاد الاشتراكي. عندما بلغني بسجن عين قادوس بفاس نبأ اعتقاله تألمت كثيرا، لقد تعرض لتعذيب وحشي بتهم خطيرة، باعتباره كان حلقة الوصل بين اتحاديي الخارج والداخل، لكن غصة سالم يفوت التي لازمته منذ محنة اعتقاله إلى الإفراج عنه، أنه ترك وحيدا مثل حصان محمود درويش. لم يحسب أجره لا على مناضلي الخارج ولا على الداخل، لقد تنكر له الجميع ولم ير اسمه ضمن قائمة المعتقلين السياسيين ولم يتبن قضيته تيار سياسي منشق. فأصيب بالخذلان وعدم الاعتراف لما قدمه من تضحيات، فانصرف وهو بالسجن إلى ممارسة الرياضة البدنية والانكباب على البحث العلمي، خرج من هذه الفترة القاسية بإنتاج أطروحة جامعية باذخة، اعتبرت بذاك أول أطروحة جامعية في ابستمولوجية العلوم. عندما صرنا زملاء في التعليم الجامعي، أحسست بان المرحوم سالم يفوت قد تغيرت أحواله وطبائعه، صار في السنوات الأخيرة يتعامل مع الأحداث والوقائع الجسيمة بمواجهة ساخرة وابتسامة عريضة. ففي لقاء تكريمي جرت وقائعه بكلية الآداب وحضره المرحوم سالم يفوت، سارني في لحظة الاستراحة بأنه لا يؤمن بالتكريم وأنه رضي بذلك نزولا عند رغبة أصدقائه. وعراب هذه المبادرة الكريمة الدكتور كمال عبد اللطيف، ثم حكى لي نكتة ليست لها علاقة بموضوع الندوة. وعندما أسندت إليه كلمة الختم أوصى المرحوم سالم يفوت بضرورة الاهتمام بالبحث العلمي.