ارتبطت نشأة الفلسفة بالمغرب بجهود الأجيال المتعاقبة في مجال البحث والتدريس، منذ فجر الاستقلال وإنشاء جامعة محمد الخامس. تحدّث المرحوم سالم يفوت عن الفلسفة في المغرب في نصف قرن، قائلاً إنّ الفضل يعود ابتداءً إلى الراحل محمد عزيز الحبابي في إنشاء أول شعبة للفلسفة بالمغرب الحديث، وفي "استجلاب نخبةٍ منتقاةٍ من الأساتذة من المشرق والمغرب وفرنسا للتدريس بها (...) ولعل هذا الانتقاء هو ما أعطى دفعاً للتكوين الفلسفي ببلدنا ميّزه عن أمثاله بالمشرق والعالم العربي عموما."1 غير أنّ التّحدّي الأكبر الذي كان يقع على كاهل الفلسفة هو تحدّي الاستمرارية و خلق تقاليد فلسفية وأجيال جديدة من الباحثين. كانت جهود المرحوم محمد عابد الجابري والباحثين الشباب الذي التحقوا بالشعبة عاملا أساسياً في ضمان الاستمرارية داخل الجامعة. وقد كان هاجس استمرارية درس الفلسفة بالمغرب هاجسا مؤرقاُ في الظروف السياسية العصيبة التي مرّ منها المغرب آنذاك. و لذلك تختلف حياة الفيلسوف عن حياة غيره من الناس. فهي تختلف عن حياة العلماء والمبدعين والباحثين، بحكم الهاجس الذي يسكن الفيلسوف، وهو ضرورة ضمان استمرارية الفلسفة داخل الجامعة. لم تكن الفلسفة في ذهن الفيلسوف مجرد قوت يومي، بقدر ما كانت نضالا مستمرّاً. ولم يكتب الفيلسوف في الفلسفة إلا لكي يكتب لها حياةً جديدةً لحظة كتابة كل مقالة جديدة. يخشى الفيلسوف على حياة الفلسفة قبل خشيته على حياته. إذ كانت الفلسفة قد ماتت موتتها الأولى في بلاد المغرب بموت ابن رشد، واستطاعت أن تحيا من جديد بميلاد الجامعة المغربية. عندما أرّخ المرحوم سالم يفوت لميلاد الفلسفة بالمغرب في مقالاته و كتبه الجماعية والفردية، انتصر لأطروحة "الفلسفة المغربية"، تميزاً لها عن الفلسفة المشرقية. كانت فلسفة تسعى منذ نشأتها الأولى إلى التخلص من مخالب المثالية. هذا السؤال كان قد طُرح مبكرا بعد هيغل: كيف يستطيع الفيلسوف الإفلات من قبضة هيغل المثالية؟ "عصرنا كله حاول بكل الوسائل، كما يقول فوكو، أن يفلت من قبضة هيغل سواء عن طريق المنطق أو عن طريق الإبستملوجيا أو عن طريق ماركس أو عن طريق نيتشه." هذا الاستشهاد الذي ساقه المرحوم يفوت، خلال الندوة الدولية التي نظمت بالرباط عن رهانات الفلسفة العربية المعاصرة، كان ناطقا بلسان حال المرحوم سالم يفوت والجيل الذي قاسمه همومه. فقد انبرى جيل المرحوم سالم يفوت إلى العناية الفائقة بالكتابة والتأليف والترجمة في حقول فلسفة العلوم والسلطة والإيديولوجيا والمنطق وفلسفة ما بعد الحداثة. كان الأمل الذي يراود كل هؤلاء الفلاسفة هو ألا تموت الفلسفة من بعد موتهم، كما ماتت من قبل بموت ابن رشد. وكان كل مجال يدخله المرحوم سالم يفوت يكتب من خلاله عمراً ثانياً للفلسفة ويشق امتداداً جديداً لها، فكتب في فلسفة العلوم وترجم كتب ميشيل فوكو وترجم كتاب بنية الانقلابات العلمية لتوماس كون وكتب في الفلسفة الأندلسية، وأنشأ مجموعات البحث في تاريخ العلوم، ونشر عددا لا ينحصر من المقالات والكتب الجماعية. وقد قام بكل هذه الإنجازات الفلسفية الهامة، بكامل الإباء وعزة النفس، رغم معاناة أدواء الزمن و سنوات الرصاص، ورغم مخلفات كلّ ذلك على صحته الجسمية. لا يحرص الفيلسوف على رغبته في البقاء، إلا بقدر ما يحرص على بقاء النسل واستمرار الفكر. يموت الفرد و لا يموت المفكر؛ يتلاشى الكتاب وتبقى الأفكار شاهدةً عليه؛ كما تحيا الأفكار بحياة أجيال المفكرين. لم يعش سالم يفوت لحياته الفكرية الشخصية، بل عاش أيضا من أجل كل الآخرين. استحال سالم يفوت كتبا ومقالات. سكن في ذات الوقت كتبه، كما سكن بيته بالمحمدية وسكن مكتب الشعبة بالرباط؛ كان في ذات الوقت زوجا و أبا و أستاذا ومشرفا على البحوث وزميلا وكاتبا ومدرسا. اجتمع فيه ما تفرّق في غيره. أخلص المرحوم النفس لفكرة الفلسفة وسعى لها سعيا مشكورا، إلى آخر رمق قضاه على رأس شعبة الفلسفة بالرباط، قبل أن ينتابه الأجل المحتوم أشهرا قليلة بعد تقاعده. عرفت الأستاذ المرحوم الإنسانَ بعد أن عرفت الأستاذ الفيلسوف. وهنا أريد في النهاية أن أقدم شهادة شخصية عن أخلاقه العالية التي خبرتها عن قرب بمدينة فاس. فقد استضافته شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس بمناسبة مناقشة شهادة جامعية أنجزتها تحت إشرافه خلال بداية التسعينيات. ومن آداب الضيافة بالجامعة المغربية أن تستضيف الأساتذة الضيوف بفندق بالمدينة. لكن المرحوم أبى آنذاك أن يقضي الليلة بالفندق المحجوز. وفاجأني بالقول إن أصهاره بفاس سيغضبون منه حقّا لو علموا أنه قد قضى ليلته بغرفة الفندق، وهو ما لا يرضاه لنفسه. تكرّر نفس المشهد بعد ذلك حينما حضر إلى فاس في مناسبات علمية كثيرة أخرى. وقد كان رحمه الله يلبّي من دعاه إلى الندوات والمناقشات واللقاءات العامية، بالرغم من الصعوبات الصحية التي بدأ يعاني منها. تعلمت من أخلاقه النبيلة في مناسبات عدة جمعتني به بفاس والرباط أن الفلسفة ليست بحثا نظريا في فلسفة العلوم و المنطق والآبستملوجيا فقط، بل تجسّد كذلك قيم الحكمة العملية وروح الصداقة و مقومات الحياة الكريمة، في وقت يكاد يصبح فيه المرحوم آخر الحكماء. رهانات الفلسفة العربية المعاصرة، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط، تنسيق محمد المصباحي، 2010، ص. 425.1