في ببليوغرافيا الرجل، يلمح انتظام ورود مجالين للإهتمام في كتاباته: الإبستمولوجيا والفكر الإسلامي. ففي المجال الأول كتب «الفلسفة، العلم والعقلانية المعاصرة» و«مظاهر النزعة الإخبارية في بنيوية ليفي ستروس» و«مفهوم الواقع في التفكير العلمي المعاصر» و«العقلانية المعاصرة بين النقد والحقيقة» و«فلسفة العلم المعاصر ومفهومها للواقع» و«الفلسفة والعلم» في العصر الكلاسيكي.. { أود أن أسألك بداية السؤال الذي عادة ما يُطرح على باحث في الفلسفة. ما الذي حمل الأستاذ يفوت إلى الإهتداء إلى الفلسفة؟ بداية، ما كان الأستاذ يفوت رجل إفضاءت ورجل تلك "الأنا الضئيلة" كما كان يسميها هايدجر التي تريد أن "تتعرى" أمام الملأ، فما كان ليهمه الحكي عنها، ما كان ليؤثر الشهرة على الغمرة. لكن، في إحدى المرار القليلة النادرة كان قد أجاب عن سؤال وجهته إليه جريدة الإتحاد الإماراتية في شخص محمد نجيم منذ ست سنوات خلت. ومما ذكره المرحوم عن قصة اهتدائه إلى الفلسفة ما يلي: "كان ولعي بالفلسفة منذ أول يوم تعرَّفتُ عليها؛ فهو حب من النظرة الأولى. كان ذلك وأنا ما زلت شاباً أدرسُ في التعليم الثانوي حينما وقع بين يدي كتاب في الفلسفة لطلبة البكالوريا، فالتهمته وصرتُ أبحثُ عن كتب الفلسفة في أسواق الكتب القديمة. وتصادف أن كان من حسن حظي في قسم البكالوريا أن درَّسني الفلسفة أستاذ قدير هو ''مصطفى العمري''، وهو من جيل الأساتذة محمد الجابري وأحمد السطاتي والذي غرس فينا محبَّة الفلسفة." ثم سرعان ما عقب على قوله هذا بالحديث عن جيله وكيف اهتدى إلى الفلسفة وكيف كان هذا الاهتداء ضربا من العمل النضالي التنويري: "هذا الجيل لم تكن الفلسفة بالنسبة إليه مادة تدرس وكفى، بل كانت قضية ينبغي الدفاع عنها وإشاعتها كمدخل للتنوير والفكر النقدي. منذ تلك السنة قررتُ العزم أن أواصل دراستي الجامعية في الفلسفة". { أود أن أسأل، ثانية، وأنا أراعي أن من قرائنا من ليس له اهتمام بما يكتب في الفلسفة، ما هو المجال الفلسفي الأساسي الذي استأثر باهتمام المرحوم سالم يفوت؟ أستحضر دوما، عندما أسأل مثل هذا السؤال بمناسبة تكريم مفكر من مفكرينا، جواب الفيلسوف الفرنسي الراحل بول ريكور. فقد كان كتب في رده على أحد دارسي فكره من الباحثين الإنجليز الذين أرادوا تقديم صورة مجملة عن مساره، كتب يقول: »إن هذه المحاولة بالذات لهي ما يستدعي مني، على الحصر، امتنانا وديا [اتجاه الباحث]، وذلك بسبب من أني عاجز بعجز ذاتي عن تحقيق مثل هذه النظرة الإجمالية [عن عملي]، وذلك لعاملين اثنين متضافرين: أولا؛ لأنني مدفوع على الدوام إلى السعي إلى الأمام بفعل مشكلة جديدة تفرض نفسها عليَّ، ولأنني، ثانيا، عندما يحدث لي أن ألقي نظرة إجمالية واسترجاعية على عملي، فإن ما يدهشني ليس هو الطابع التراكمي لهذا العمل بقدر ما هي أنحاء الانفصالات التي نتجت عن متاوهي. وإنني لأميل إلى اعتبار كل عمل من أعمالي كما لو كان جملة مكتفية بذاتها تنشأت عن تحد أملاها، وإلى اعتبار العمل التالي كما لو تَوَلَّدَ هو عن المسائل غير المحلولة التي تخلقت وتبقت عن العمل السابق«. وقد صدق بول ريكور في ما قال. قال هذا في بلد عرف تقاليد فلسفية عريقة، فكيف لا يصدق على بلد لا زال لحد الآن يشهد على "سنوات التعلم الفلسفي" إذا ما نحن أردنا استعارة عنوان أحد كتب هانس غادامير. ذلك أن الجامعة المغربية ما عملت يوما من الأيام على أن يتفرد كل أستاذ بتخصص. وقد اضطر الأستاذ يفوت، ولا نزال نضطر اليوم، إلى تدريس عشرات المواد الفلسفية التي تدخل في تخصصه وفي غير تخصصه. وبطبيعة الحال، هذا يشتت انتباه الباحث، فتجد في كتبه تباعدا في المواضيع عجيبا غريبا. ولا أظن أن الأستاذ يفوت قد شكل استثناء بهذا الصدد. فالناظر في لائحة الكتب التي أصدر يجد أنها متعددة المواضيع مختلفتها. ولئن كان من ميزة تذكر لهذا التعدد الذي يفرض على الأستاذ، فإنما هي محاولة خلخلة جموده على مبحث بعينه، حتى يصير موضوع سخرية طلبته أحيانا، على نحو ما حدث لطلبة ثورة ماي 1968 بفرنسا الذين عابوا على أساتذتهم أنهم ينجزون أطاريحهم ويظلون يدرسونها إلى حين تقاعدهم. وهذا ما حدا بالمفكرة والأديبة رفيقة سارتر سيمون دو بوفوار إلى كتابة كتاب لنقد هذه الظاهرة سمته "المشايخ". على أن الناظر الممعن في ببليوغرافيا الرجل، يلمح انتظام ورود مجالين للإهتمام في كتاباته: الإبستمولوجيا والفكر الإسلامي. ففي المجال الأول كتب "الفلسفة، العلم والعقلانية المعاصرة" و"مظاهر النزعة الإخبارية في بنيوية ليفي ستروس" و" مفهوم الواقع في التفكير العلمي المعاصر" و"العقلانية المعاصرة بين النقد والحقيقة" و" فلسفة العلم المعاصر ومفهومها للواقع" و"الفلسفة والعلم في العصر الكلاسيكي" و"درس الابستمولوجيا" (بالاشتراك مع عبد السلام بن عبد العالي)" . وفي المجال الثاني كتب "ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس" و"حفريات المعرفة العربية الإسلامية" و"حفريات الاستشراق: في نقد العقل الاستشراقي"... وهذا الأمر يستدعي ملاحظتين اثنتين: أولهما؛ أن تقليد الجمع بين الإبستمولوجيا والفكر الإسلامي، بما له وما عليه، تقليد استنه المرحوم محمد عابد الجابري، ويعد يفوت وريث هذا التقليد إن لم يكن الوريث الوحيد في هذا... ثانيهما؛ أن لكل مفكر ما سماه فولتير ذات مرة "حديقته الخلفية" التي يتعهدها، ولذلك تجد ليفوت كتبا خرجت عن هذا التقليد، ولا ضير في ذلك. غير أن ما يجمع بين المضمارين هو محاولة الإفادة من عدة التحليل الإبستمولوجي على الطريقة الفرنسية (باشلار، ألتوسير، فوكو) وتثميرها في الفكر الإسلامي. وهي محاولة جريئة، ولكنها مجازفة أيضا. وقد تنبه الأستاذ يفوت إلى السلطان بل السطوة الذي مارسه التقليد الإبستمولوجي الفرنسي، فوجدته يحاول كسر الصوت الواحد الذي كتب عل الفكر الفلسفي بالمغرب المعاصر أن يصغي إليه، بإدخال صوت فلسفة العلوم الأنجلوسكسونية. ولربما هو ذ ما يفسر إنكبابه في العقد ما قبل الأخير على ترجمة أو بالأحرى إعادة ترجمة أحد كلاسيكيات فلسفة العلوم الأنجلوسكسونية: بنية الثورات العلمية والذي كان المرحوم يفضل ان يسميه "بنيةالانقلابات العلمية". { بمناسبة إثارتك لتلمذة الأستاذ يفوت على الأستاذ محمد عابد الجابري، أود أن أسألك: هل بقي الأستاذ يفوت دوما وفيا لمنهج الجابري في النظر؟ بداية، أود أن ألاحظ مسألة لطالما نبهت عليها. وهي أن لا فكر فلسفي يرسخ من غير تقاليد فلسفية عريقة. خذ بنا، بديا، إلى مقارنة ما يحدث عندنا بما حدث بفرنسا ناموس تقليدنا الثقافي لا محالة تلفي أن التيارات الفكرية التي شهدها هذا البلد أغنت المكتبة الثقافية الفرنسية حد العجب. إذ المؤلفات المحسوبة على مذهب "الشخصانية" بالعشرات، وتلك المعدودة على منزع "الوجودية" بالمئات، وقس على ذلك ما مت إلى المدرسة "الماركسية" أو "البنيوية" بصلة، ابتناء واعتقادا وانتقادا، واعتبارا واستشكالا وتقويما! وبالمقابل، ما الذي أورثته هذه النزعات العابرة مكتبتنا الثقافية المغربية : فتشها أنت كل تفتيش وألطف النظر في رفوفها وراجع صفوفها صفا صفا، أَوَ تجد فيها كتابا ذا بال عن "الماركسية" إن معتقدا أو منتقدا! أيسر من هذا، دلني أنت على مؤلف جامع في مذهب "الوجودية" إن تأييدا أو تفنيدا! بل هاتني بمؤلف واحد جاد في النزعة "التفكيكية"! فما تكاد تقدر. ومن جهة ثانية، حتى لئن نحن ألفينا لهذه "الموضات" العابرة ببلدنا أثرا، فإننا لا نعثر على "تقاليد فلسفية" راسخة. دأبنا على "التقلب" بين شتى المذاهب حتى صار أمرنا كأمر الحارث بن قيس بن عدي الكعبي الجاهلي المعروف باسم "صاحب الأوثان" : كان يعبد الأحجار، وكان إذا مر بحجر أحسن من الذي عنده أخذه وألقى الذي عنده، وفيه نزل "أرأيت من اتخذ إلهه هواه، أفأنت تكون عليه وكيلا" (سورة الفرقان، الآية 43)! كذلك يبدأ الواحد منا "ماركسيا"، فإذا هو حدث أن صادف "الوجودية" ألقى بما بين يديه و"توجد"، فإن هو استمكن من "البنيوية" خلع ربقة "الوجودية" كما يخلع منا الواحد معطفه و"تبنين"! وقد "يتقلب" هو العمر الواحد في خمسة مذاهب أو ما يزيد أكثر! ما من مرحلة من مراحل فكر الغرب إلا وأغنت مكتبة الغرب. أكثر من هذا، ما من مرحلة إلا ورسخت لديه تقليدا متينا. فلأتباع هيجل تقليد في الغرب راسخ، وقس على ذلك اتباع هايدجر وجادامير وفيتجنشتاين ودريدا ... ولهؤلاء الأتباع مدارس وتقاليد بحث ومجلات ومؤسسات ومعاهد .. أما نحن ، فلا تقليد لنا أ"فينومينولوجيا" كان أم "هرمنوطيقيا" أم "تفكيكيا" ... وحتى لئن هي صارت لنا أعمال مفكرينا تراثا، شأن "شخصانية" الحبابي و"تاريخانية" العروي و"تفكيكية" الخطيبي و"تأصيلية" الجابري و"تداولية" طه و"حداثية" سبيلا، فإنها ما صارت بعد تقاليد يلتف حولها الباحثون. مَنْ مِنْ باحثي اليوم بمكنته أن يدعي أنه يشتغل في أفق تاريخانية العروي أو يجتهد في تطوير فكر تأصيلية الجابري أو يلتف حول مشروع الخطيبي؟ أَوَ ليس حالنا لا يفترق عن الحال الذي وصفه حسن حنفي منذ زمان : »يبدأ كل جيل وينتهي، ثم يبدأ الجيل الثاني كما بدأ الأول من الصفر«! إن هذا الأمر يولد لدى المتتبع لشؤون هذا "الفكر" ضربا من القلق على مصيره : مَنْ ذا الذي يكمل عمل الحبابي أو الخطيبي أو الجابري، من الأموات، أو العروي أو طه أو أومليل، من الأحياء؟ ربما لا أحد سوى الزمان أو النسيان وفي ذلك موطن مأساتنا! وإذا ما هو حق أن يفوت اقتفى أثر الجابري مضطرا أحيانا في الجمع بين عدة الإبستمولوجيا ومادة الفكر الإسلامي، فإنه عادة ما تبرم مع أخص أخصائه من بعض آراء أستاذه. لكن ما كان استحياؤه الخلوق المكين يسمح له بالقيام بما يسميه الفرويديون "قتل الأب"، حتى ولو بصمت. { يؤثر عن المرحوم دفاعه عما كان يسميه "الفلسفة المغربية" (...) لطالما دافع المرحوم عما كان يعتبره "فلسفة مغربية" في العديد من المحافل العربية. ولقد كان يجد أن ما يميز "الفلسفة المغربية" إنما هو قرب المغرب الجغرافي والتاريخي من أوربا، وتأثره الحديث بكل الموجات الفلسفية الجديدة التي تجتاح أوربا. وأنه إذا كان النظام التعليمي الفرنسي يفسح مساحة رحبة لتدريس الفلسفة بقسم البكالوريا، فإن نظامنا فعلَ الشيء نفسه؛ ولعل هذا عامل من عوامل ازدهار الفلسفة لدينا. يضاف إلى هذا أننا وبلدان شمال إفريقيا الأخرى (الجزائر وتونس) السباقون، بين العرب، للقراءة باللغة الفرنسية وغيرها، والأكثر احتكاكاً بالأفكار والمعارف الرائجة بالسوق الثقافية الأوربية. لا غرو إذن إنْ لاحظنا الازدهار الكبير للترجمة لدينا لآخر النظريات التي تظهر هناك، خصوصاً في العلوم الإنسانية. هذا ما سمعت المرحوم يردده المرار العدة. وأذكر بهذه المناسبة أنه منذ بضع سنوات خلت انعقدت ندوة عربية حول "رهانات الفلسفة في العالم العربي"، وكان أن حاول بعض الإخوة المشارقة الزراية على بعض رموز الفكر الفلسفي بالمغرب، والحط من قيمتهم، على عادة بعضهم وليس جلهم، انتقاما من زعم الجابري بالنبوغ الفلسفي المغربي، فما كان من الأستاذ يفوت إلا أن قام منتفضا متحدثا عما سماه "تمغرابيت" في الفلسفة، وذلك وسط ذهول شديد في القاعة وعدم فهم المشارقة لما قصده يفوت ب"تمغرابيت" وهي كلمة لا تقبل الترجمة، وإنما يحس بها المغربي. وما كان الرجل في ذلك شوفينيا متصنعا، وهو الذي ما فتئ يتحدث عن العقل الكوني ولا يخشى موجة العولمة العاتية، حتى وإن بدا مبالغا في الحديث عن مغربة الفلسفة أو مغربية الفلسفة أو تمغربها لا فرق. { يتساقط رموز الفكر الفلسفي كتساقط أوراق الخريف: الخطيبي، الجابري، أركون، يفوت ... وذلك في الوقت الذي يتم فيه التشكيك في دور الفيلسوف والمثقف بعامة في الواقع، لا سيما بعد الربيع العربي. كيف كان يفوت ينظر إلى دور الفيلسوف في المجتمع؟ وهل كان متفائلا بالنسبة إلى مستقبل الفلسفة بالمغرب؟ لا شك عندي أن الرجل كان يؤمن بأشد إيمان يكون بدور الفلسفة في المجتمع. أَوَ ليس هو الذي قال في الإستجواب النادر الذي أشرنا إليه: "مسؤولية الفيلسوف هي في كل العصور. فلكل عصر مشكلاته وأزماته مما يتطلَّب تدخُّل الفيلسوف أما نوعية مشكلات عصرنا هذا فتتمثل في تهديد العولمة للهويات، وانتشار ثقافة الموت متمثلة في الإرهاب. الفيلسوف ملزم اليوم أكثر من أي وقت مضى أن يعمل على نشر ثقافة الأمل والحياة، ثقافة التنوير والعقل من خلال تكريس ثقافة الاختلاف وتقبل الآخر المختلف، وتكريس ثقافة التسامح والحوار بين الثقافات والأديان والمذاهب، ونبذ العُنف والقوة والغطرسة"؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن المرحوم يخفي غبطته بالتطور الذي تشهده الفلسفة وما كان يشارك في الخطاب "التأبيني" "الجنائزي" الذي يعلن عن نهاية الفلسفة بنهاية جيل من كبار مفكري المغرب والعالم والعربي. إذ ظل الرجل فضلا عن محمد سبيلا من أكثر أساتذة الفلسفة تفاؤلا بمستقبل الفلسفة بالمغرب. وإنما كان يبدو راضيا كل الرضا على مستقبل الفلسفة بالمغرب، وكان يثق بأن مستقبل الفلسفة في أيدٍ أمينة. وأن ثمَّة تواصلا في مسيرة أجيال الفلسفة ببلادنا، ولم يحدث قط أي انقطاع، بحسب قوله. وتلك كلمته الأخيرة.