حين أعلن رحيل سالم يفوت (1947 2013) يوم السبت الماضي، انتشرت على الصحف والمواقع الإلكترونية رسائل كثيرة تنعى أحد فرسان الفلسفة المغربية الذي ترجّل عن صهوته. كيف لا، وهو أحد مراجع الفكر العربي الحديث الذي لا تخلو الكتب الفكرية الكثيرة من الإحالة إلى ترجماته ومؤلفاته. كان ناقداً ومحللاً وأركيولوجياً للمعرفة في الفضاء الفكري العربي الإسلامي. كما كان أحد واضعي خارطة الطريق نحو العقلانية وفلسفة العلوم التي انشغل بها خلال مساره. كان يفوت متعمقاً في الفكر الفلسفي الحديث، وممحصاً لكبريات أطروحاته ومدارسه ومناهجه. هذا ما خوّله أن يكون من أبرز فلاسفة المغرب وأساتذته الجامعيين. يكفي فقط أن نشير إلى أنّه شغل ل 12 سنة منصب رئيس شعبة الفلسفة في «جامعة محمد الخامس»، أعرق الجامعات المغربية التي مثّلت منارةً للعقلنة والفكر الحديث في المغرب والعالم العربي، وكان فلاسفة من قامة محمد عابد الجابري، وطه عبد الرحمن، وسالم يفوت، وعبد الله العروي، وعبد السلام بنعبد العالي، ومحمد سبيلا وآخرين يقدّمون محاضراتهم في قاعاتها. انشغل يفوت بالإبستمولوجيا. طيلة ثلاثين سنة، حرّر العديد من المؤلفات، ودرّسها لجيل من الجامعيين المغاربة والعرب الذين يذكرون له فضله في توجيه ومتابعة أبحاثهم الجامعية. كما انشغل بالترجمة الفلسفية. مَن عرفوه وكتبوا عنه، يشيرون في العديد من الشهادات المنشورة إلى أنّه كان يتابع بنهم ما يصدر من كتابات ومقالات في الفلسفة، ولا يتردد في نقل ما يروقه منها إلى اللغة العربية، لمشاطرتها مع من ليسوا على اطلاع على لغات أخرى. «اتحاد كتاب المغرب» الذي يعتبر الراحل أحد أعضائه منذ عام 1977، أصدر بياناً نعاه فيه، قائلاً إنّه «كان ينتصر لقيم الفلسفة والعقلانية في المجتمع المغربي، وهو ما عكسه في مجمل أعماله الفكرية والمسؤوليات التي اضطلع بها طوال مساره العلمي والتربوي والجامعي». ولد يفوت في الدارالبيضاء، ونال شهادة الإجازة في الفلسفة سنة 1968، أي في تلك الفترة من تاريخ المغرب التي شهدت غلياناً فكرياً وثقافياً نهلَ من الفلسفة الفرنسية التي كانت تمور حينها بالعديد من الأطروحات والمدارس الجديدة. كانت البداية مع «مظاهر النزعة الإخبارية في بنيوية ليفي - ستروس» (1972)، وتلتها كتابات مرجعية عديدة، إلى أن حاز دكتوراه الدولة سنة 1985. انشغل يفوت بتدريس الفلسفة. وكانت البداية مع التعليم الثانوي في الدارالبيضاء، قبل أن ينطلق في التدريس في «جامعة محمد الخامس» منذ عام 1978. خلال مساره، ارتبط بصداقات مع العديد من المفكرين المغاربة ككمال عبد اللطيف، وعبد السلام بنعبد العالي الذي أصدر معه كتاباً مشتركاً هو «درس الابستمولوجيا» (1985) ومحمد نور الدين أفاية الذي اشرف يفوت على بحث الدكتوراه الخاص به. صداقته بطلبته ورفاقه على درب الفلسفة كانت نابعة من الكثير من التواضع ومحبة العلم أساساً. هذا ما جعله يفضّل أسوار الجامعة والمعاهد والمحاضرات والندوات، ويبتعد عن الشأن العام في صبغته اليومية وعن حبّ الظهور الإعلامي. كان يفوت معلماً للفلسفة في الأساس، ولم يبخل في استثمار حياته التي ربت على 66 عاماً في الدفاع عن المعرفة الفلسفية، وخصوصاً فلسفة العلوم. ولهذا أشرف منذ أواسط التسعينيات على مؤلفات مرجعية في التفكير المعرفي، وفي الابستمولوجيا هي: «كيف يؤرخ للعلم؟» (1996)، و«التفسير والتأويل في العلم» (1997)، و«مفهوم التقدم في العلم» (2004). صدرت للراحل العديد من المؤلفات، حيث جزء هام منها نشرته «دار الطليعة» البيروتية بينها «مفهوم الواقع في التفكير العلمي المعاصر» (1980)، و«الفلسفة والعلم والعقلانية المعاصرة» (1982)، و«العقلانية المعاصرة بين النقد والحقيقة» (1989). و«فلسفة العلم المعاصر ومفهومها للواقع» (1985). كما انشغل الراحل بالنبش كأركيولوجي في أصول الفلسفة العربية الإسلامية ك«حفريات المعرفة العربية الإسلامية» (1986)، و«ابن حزم والفكر الفلسفي في المغرب والأندلس» (1986)، و«حفريات الاستشراق: في نقد العقل الاستشراقي» (1989)، و«الفلسفة والعلم في العصر الكلاسيكي»، (1990) و«الزمان التاريخي» (1991). كما ترجم لميشال فوكو «حفريات المعرفة»، ولجيل دولوز «المعرفة والسلطة: مدخل لدراسة فوكو». قبل سنة، توقف سالم يفوت عن العمل في الجامعة، قبل أن يخطفه الموت في أحد مستشفيات الدارالبيضاء.