1 صار للفلسفة، منذ سنوات يومها العالمي، وهو مناسبة لاحتفاء المجتمع العالمي بهذا النمط من التفكير النقدي والاعتراف عبر ذلك بالدور الذي لعبته الفلسفة في مسار المجتمعات الإنسانية بصفة عامة، وهو اعتراف يدل على أن الإنسانية تكرم في اليوم العالمي للفلسفة الصيغة النقدية للعقل، وتحتفي بما يقدمه النقد من فرصة لتقدم المجتمع الإنساني. فعبر النقد انتقلت المجتمعات الإنسانية دائما من حالة نسيان وجودها الحي والدينامي إلى تذكر ذلك الوجود. كان دور الفلسفة دائما هو تحفيز العقل الإنساني على التفكير في شروط الوجود الإنساني القائمة وفي تطوير تلك الشروط. ولم تكن الفلسفة أيضا علما يكتفي بوصف موضوعه، بل هي ذلك التفكير الذي يحلل موضوعه تحليلا نقديا. واليوم العالمي الذي تحتفي فيه الإنسانية بالفلسفة مناسبة لاستعادة الدور الإيجابي للنقد في حياة المجتمعات التي يوجد بها فكر ودرس فلسفيان. 2 حضور الفلسفة وغيابها شرطان مختلفان لحياة المجتمع. فقد ارتبطت الفلسفة منذ نشأتها الأولى بالحرية ودل حضورها في المجتمع دالا على هذا الشرط. الفكر الفلسفي نتاج لعقل إنساني حر من كل شرط مسبق. وقد أكد هيغل Hegel في دروسه عن تاريخ الفلسفة ارتباط نشأتها بالحرية، وهو مايفسر في نظره ظهور الفلسفة كنمط من التفكير مع مفكري الحضارة اليونانية، أي هناك حيث كان للفكر الإنساني القدر الكافي من الحرية لنشأة التفكير الشخصي لدى حكماء اليونان.(1) وحيث انطلقت الفلسفة في ظل شرط الحرية، فإنها دافعت في كل عصورها عن تحقق هذا الشرط. ظل هذا المعنى لحضور الفلسفة فائما منذ نشأتها إلى الآن، وقد أكده من جديد أحد المدراء العامين لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة هو فيدريكومايورFederico Mayor ، عند تقديمه لكتاب حول الفلسفة والديمقراطية في العالم، حيث نظر إلى الفلسفة بوصفها مدرسة للحرية. فهي تحث الفكر باستمرار على اليقظة الفكرية التي تتيح وضع الأسئلة المنتجة لمعارف جديدة، وتخرج الفكر من روتينه العقلي.(2) الفكر الفلسفي ينطلق من تحرره من التقاليد الفكرية،ويدفع الآخرين نحو الشك الإيجابي المنتج. انبثقت الفلسفة عن تفكير حر، وصار عليها أن تدافع باستمرار عن حرية الفكر. تلك هي المهمة التي تضمن بها الفلسفة استمرارها وضرورتها في العالم المعاصر. 3 حيث انطلق الفلاسفة في العصور المختلفة من الدفاع عن العقل الحر والإيمان بقدرته على التفكير في القضايا التي تتعلق بالإنسان، وحيث لم تكن الشروط متوفرة دائما في حياة المجتمعات الإنسانية لقبول الفكر الفلسفي المنطلق من الحرية،فإن الفلاسفة عاشوا في كثير من الأحوال في إطار تعارض مع مجتمعاتهم التي فكروا من أجلها، ولكنهم وجدوا أنفسهم في تعارض مع ماكان سائدا فيها من نظم وأفكار وتقاليد سياسية ومجتمعية.وقد بلغت حدة هذا التعارض درجة محاكمة الفلاسفة على أفكارهم واتهامهم بالتشويش على استقرار مجتمعاتهم في نظمها وعقائدها. الأمثلة كثيرة، ومن كل العصور والمجتمعات، عن هذا التصادم بين أفكار الفلاسفة والسياق المجتمعي والتاريخي الذي عاشوا فيه. نذكر في هذا الباب مثال سقراط الذي حصل معه تطور في الفلسفة بتحويل موضوعها الأساسي من الطبيعة، كما كانت لدى حكماء اليونان السابقين له، إلى الإنسان، وهو التحول الذي دفع الفلسفة إلى الاهتمام أساسا بالأخلاق والسياسة. فقد اتهم سقراط في زمنه بإفساد الشباب ودفعهم نحو وضع اعتقادات أهلها والقيم الأخلاقية التي كان يقوم عليها نظامهم السياسي والمجتمعي. جرت محاكمة سقراط في إطار الديمقراطية اليونانية آنذاك،وغلبت الأصوات المنادية بحكم الإعدام عيه على الأصوات التي كانت تنادي بالحفاظ على حياته.وقد تجرع سقراط السم تبعا لما حكم عليه به، ومات شاهدا على مصير الفيلسوف الذي يضع أسئلة نقدية على مجتمعه. فالنظم السياسية، منذ ذلك الوقت، لا ترضى أن توضع داخل مجتمعها الأسئلة التي توجه النقد لأسس سيادتها.وقد خلد أفلاطو،وهو تلميذ لسقراط، ذكرى أستاذه ضمن ماكتبه من محاورات التي تهمنا منها في السياق الحالي محاورة الدفاع التي يورد فيها دفاع سقراط عن نفسه وعن السؤال الفلسفي.(3) مثال آخر نأخذه من الحضارة الإسلامية وهو الفيلسوف ابن رشد. وما حدث في حالة ابن رشد دلالة على تردد المجتمعات ومن يحكمونها بصدد الموقف من الفلسفة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بربط الحكم على الفلسفة وأهلها من منطق الجواز بالنسبة للعقائد القائمة، إو لتأويلات معينة لتلك العقائد على الأقل. ماحدث لابن رشد بالذات تراجع عن الموقف الإيجابي من الفيلسوف ومن الحاجة إلى فكره في صيرورة المجتمعات وتدبيرها. فبعد أن طلب منه سلطان موحدي العمل من أجل شرح مؤلفات أرسطو وكانت له مكانة رفيعة ضمن بلاط هذا السلطان، تمت محاكمته لاحقا من أجل أفكاره التي بدت لمتهميه مارقة عن الدين. وحوكم بذلك المشروع العقلاني الذي انتدب ابن رشد نفسه لبيان طريقه، سواء كان ذلك على صعيد شرحه لفلسفة أرسطو بصفة عامة، أو كان بمناسبة تعليقاته على كتاب الجمهورية لأفلاطون، حيث أبدى ابن رشد آراءه في السياسة والاجتماع والعدالة والاستبداد. كان في مشروع ابن رشد ما يتعارض مع أسس سلطة قائمة لم تتردد في محاكمته وإدانته.(4) مثالنا الثالث من أوربا في عصرها الحديث، ونقصد ديكارت الفيلسوف الذي بدأ معه عصر جديد لمسار الفلسفة الطويل. كان ديكارت قد دعا إلى موقف يهدف إلى إعادة النظر في اليقينات من أجل بنائها من جديد على أسس متينة لايعود معها مجال للشك في الأفكار التي كانت تتشكل منها يقينات الإنسان. استند ديكارت في الموقف الذي دعا له إلى منهج بناه كانت قاعدته الأساسية عدم قبول أي أمر على أنه حق مالم يتبين أنه غير قابل لأن يوضع موضع شك. وطبق ديكارت منهجه هذا في البداية على العلوم. ولكمه عندما عزم على التفكير في القضايا الميتافيزيقية ولوعيه بأن هذه القضايا تمس في نفس الوقت العقيدة، وجد أنه من الملائم توضيح غايته من هذه الخطوة للسلطة الدينية في الكنيسة. كان أمام مثال المصير الذي لقيه بعض العلماء قبله ومنهم غاليليو غاليلي، فتبين له أنه ينبغي اتخاذ الحذر وتوضيح موقفه من حيث أنه لايمس العقيدة ولايريد مراجعة مبادئها.(5) نعلم الاختلاف بين سياقات الأمثلة التي ذكرناها، إذ كل واحد منها يستحق دراسة سياقه الخاص. ولكن غاية هذه الدراسة في حدود مانريده منها لاتسير في هذا الاتجاه. 4 الدرس الفلسفي ضروري لحضور الفكر الفلسفي بشخصياته وتاريخه وقضاياه ضمن التكوين العام في كل بلد. وإذا كانت الفلسفة منبثقة عن فكر حر، فإنه من الملائم في كل مجتمع يسعى إلى تربية أجياله على حرية الفكر من درس فلسفي يرشد إلى طريق تلك الحرية. وقد كان أغلب الفلاسفة مدرسين للفلسفة وتاريخها وانبثق تفكيرهم من داخل ذلك التدريس، ونقلوا إلى المتلقين ثورة عن الفكر الفلسفي المتحرر من كل المسبقات. ذلك أن الدرس الفلسفي الذي يقدم للمتعلمين أفكار الفلاسفة المختلفة والمنتمية إلى حضارات وعصور متباينة يقود المتلقي نحو الابتعاد عن الحقيقة الواحدة المطلقة، ويعلمه كيف يعطي داخل فكره الواحد فرصة لآراء مختلفة صادرة عن ذوات متعددة تنتمي إلى آفاق فكرية مختلفة، كما تنتمي إلى عصور وحضارات متباينة. تساعد الفلسفة عبر تدريسها على النظر إلى المشكلات المطروحة على الإنسان في مستواها الكوني والنظر تبعا لذلك في الآراء المختلفة، بل والمتعارضة أحيانا حول نفس المشكل.(6) نلك هي الأهمية التربوية للدرس الفلسفي في المستويين اللذين يلقى فيهما هذا الدرس، أي الاقسام الثانوية والتعليم العالي. وتلك أيضا هي الأهمية التي تقود إلى الدعوة بنشر تعليم الفلسفة في جميع الاختصاصات التكوينية. حيث رصد خبراء منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة الأهمية التربوية الخاصة للدرس الفلسفي من حيث إنه يساهم في تكوين فكر منفتح على التيارات المختلفة وعلى ثقافات العالم المتباينة، وحيث إن هذا الدرس يعلم المتلقي نسبية الأحكام،فقد عملت المنظمة في أكثر من مناسبة على تهييء برنامج لمعرفة وضع الدرس الفلسفي في العالم. فقد تم البحث في وضعية التعليم الفلسفي في العالم، وهو البرنامج الذي نشرت نتائجه عام 1953 . لكن المنظمة عادت للبحث في الموضوع سنة 1995، حيث تم البحث من منظور علاقة وضعية التعليم الفلسفي بالديمقراطية.، وهو البحث الذي نشر في نفس السنة ضمن منشورات اليونسكو.وقد بدا للمشاركين في هذا البرنامج أن هناك اقترانا بين حضور الدرس الفلسفي في المجتمع وسيادة النظام الديمقراطي فيه. فالمشترك بين الفلسفة والديمقراطية هو قبولهما معا احتواء الاختلاف، وقبول التعدد الفكري من جهة الفلسفة، والتعدد السياسي من جهة الديمقراطية. الإشكالات التي عانى منها الفلاسفة، وقد ذكرنا نماذج منها، جاءت في إطار تعارض الأفكار التي عبر عنها الفلاسفة والتي لم تكن تتلاءم مع كل نظام استبدادي. فالحكومات المستبدة تكون في حاجة على إيديولوجيا تؤكد شرعيتها، ولاترى فائدة في الأسئلة النقدية التي يصوغها الفلاسفة حول واقع يؤيدون أن يكون الطرف الواحد المتحكم فيه. لذلك تقصى الفلسفة في هذه الحالة، ولاتعطاها المكانة التي تستحقها. وقد كان للبلدان الساعية إلى النمو، والمجتمعات التي عانت من فترة كبيرة من الركود المجتمعي، ومنها المجتمعات العربية والإسلامية والإفريقية والأسيوية نصيب وافر من هذه الحالة .(7) وهذا ما يتطلب من أجل معرفة موضوعية بوضع الدرس الفلسفي في العالم دراسة هذا الوضع في جهات مختلفة. لايمنعنا ذلك من الوقوف عند حالة كنا قريبين منها. فقد حدث في المغرب أن تعرض الدرس الفلسفي سنة1980 لإجراءات هدفت إلى الحد من حضوره ضمن التكوين الجامعي بإيقاف التسجيل في شعبة الدراسات الفلسفية، وبالتوقف عن فتح شعب لتلك الدراسات في الجامعات الجديدة. وكان المبرر الذي استند إليه قرار السلطة الوصية على قطاع التعليم والتربية هو أن تقلص إمكانيات التوظيف يسمح بإيقاف التخصصات التي لاحاجة إليها في ذلك الوقت. وحدث بعد احتجاج المدرسين على هذا القرار أنتم التخفيف منه، بحيث أصبح هو السماح بالتسجبل في شعب الفلسفة في أقدم جامعتين مغريتين، أي الرباط وفاس، مع الاحتفاظ بقرار عدم فتح شعب للفلسفة في الجامعات الجديدة في مختلف جهات البلاد. بينا في دراسة نشرناها بعد صدور القرار تهافت مبرراته، ووجهنا التفكير إلى أن القار كان يستند في الواقع إلى استراتيجية غير معلنة لتوجهات تربية جديدة تكون في خدمة سياسة أملتها شروط ذلك الزمن.(8) وعندما عادت السلطة الوصية على التربية والتكوين إلى الوعي بفائدة الدرس الفلسفي، رأينا كذلك أن الدرس الفلسفي الذي تم إضعاف حضوره لغايات إيديولوجية، لاينبغي أن تكون عودته إلى مجال التكوين في الجامعة من أجل خدمة أهداف إيديولوجية أخرى. فقيمة الفلسفة في التكوين لاتستقيم إلا في ظل استقلال عن كل غاية إيديولوجية ظرفية. قيمة الدرس الفلسفي كامنة خارج كل اعتبار إيديولوجي في تكوينه الذي يمرن فكر المتلقي على وضع المشاكل في مستواها الكوني، وعلى التفكير بحرية.(9) للحرية ارتباط بالفكر الفلسفي، إذا غابت لايكون، وإذا لم يوجه ذلك الفكر العقل نحوها لايكون قد أدى مهمته في صيغتها المثلى. الهوامش 1- راجع ذلك ضمن كتاب هيغل: دروس في تاريخ الفلسفة، وقد عدنا أثناء إعداد هذه الدراسة إلى الترجمة الفرنسية الصادرة في باريس سنة 1954 عن منشورات غاليمار. 2- راجع كلمة مايور ضمن المقدمة التي كتبها للكتاب الذي ضم أعمال ونتائج برنامج اليونسكو الخاص بالبحث في وضعية الدرس الفلسفي، والذي حمل عنوان: الفلسفة والديمقراطية (بالفرنسية) منشورات اليونسكو، باريس1995. 3- راجع بالعربية محاورة الدفاع ضمن محاورات أفلاطون، ترجمة زكي نجيب محمود. 4- من بين الكتب الكثيرة التي كتبت عن ابن رشد خصص الجابري فصلا للحديث عن نكبة ابن رشد، وذلك في كتابه: المثقفون في الحضارة العربية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1995، ص119 وبعدها. 5- راجع رسالة ديكارت في كنابه: تأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال يوسف الحاج، دار عويدات بيروت. 6- راجع كتاب الفلسفة والديمقراطية، نفس المعطيات السابقة،ص6. 7- راجع الجدول حول وضعية التعليم الفلسفي ضمن كتاب: الفلسفة والديمقراطية، نفس المعطيات السابقة، ص203-205. 8- راجع مقالنا: الفلسفة والتنمية، جريدة المحرر12غشت1980. 9- نقصد هنا مساهمتنا في الندوة التي نظمت حول وضعية الفلسفة في المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء، دورة2010.