أركن السيارة أسفل جسد بنلوبي كروز، المنتشر كفتنة مندلعة في اللوحة الإشهارية الكبيرة لإحدى مستحضرات التجميل. منذ أشهر ووجهها الفاتن بملامحه اللاتينية المسكونة بسحر يمت برابط ما للجمال الشرقي، يضيء موقف السيارات الكبير حيث يركن الزبناء عرباتهم الحديدية قبل أن يلجوا بطن المركز التجاري. يبدو لي في كل مرة بأنها تنظر إلي وحدي، بشعرها الفاحم المنسدل على كتفيها العاريين، و فتحة صدرها التي تلوح منها كعمق للغواية تضاريس نهديها. تنظر إلي بوجهها ذي التقاسيم الطفولية التي تقول مع ذلك كل النضج الأنثوي الذي ينسكب من جسدها. أترجل عن السيارة الزرقاء المهترئة و أظل واقفا، كأنني أقفل الباب للحظات، أشرئب بعنقي ناظرا إليها. أنا في الأسفل أحاول أن أرقى مدارج فتنتها، و هي في الأعلى تنظر إلي، تحدق في بالوداعة الأنثوية ذاتها التي جعلت بيدرو ألمودوفار، يحتفي بكل شفافية لغته الشعرية الكثيفة بحضورها الشبيه بحشد استعارات تعبر حقولا غرثى في فيلمه Volver . كأنها هناك تحرس فراغ موقف السيارات حين يعم الليل، و تظل بكل فداحة أرقها محدقة في العتمة. حين رأيت صورتها أول مرة معلقة هناك، بجوار بطن الحوت الذي يتغذى من هوس الاستهلاك المفرط، و المواضعات الاجتماعية الهشة، التي تدفع الكثيرين للإتيان للمركز التجاري الضخم في كامل أناقتهم و بكل أفراد أسرهم، و التجول بين أروقته و ردهاته دون شراء شيء أحيانا أو شراء النزر القليل، كما لو أنهم يتجولون في حديقة حيوانات، أحسست بنشوة مباغتة شبيهة بالدفء الذي يمنحني إياه جسد أنثوي بجواري في ليالي الشتاء الباردة. قلت لنفسي، على الأقل هناك فتنة أنثوية ما، تكسر رتابة الأجساد الشبيهة بكائنات آيلة للتلاشي والانقراض، هناك استعارة باذخة تزرع الحياة وسط هذه الصحراء الميركانتيلية المهووسة بالأرقام، حتى لو كان الغرض من حضورها إشهاريا. آه بينلوبي كروز يا سيدتي الطاعنة في ألق حضورها، امنحيني البعض من صمتك الصخاب، و ليكن وجهك المسكوب في براءته الولهى هبتي. (ف) تقول لي بأنني أقف طويلا أسفل صورتها. لست ادري إن كان ذلك تعبيرا عن غيرة ما، أم مجرد ملاحظة عابرة. لكن المؤكد هو أن لحظات وقوفي بحضرة وجهها طالت. أحيانا، في ما يشبه أحلام اليقظة وأنا شاخص إليه من الأسفل، أتخيلني عوليس مشرد، رث الثياب، جائع عائد من كوارث حربه ورحلته، و هي في مكان ما، في إيثاكا ما لا أدري الطريق إليها تغزل صوفها كل ليلة وتنسج من خيوطه غطاء لي، وحين لا أعود تفك خيوط نسيجها ثانية في الصباح لتعود إلى نسجه في الليل. بنلوبي كروز لا تمنحني أكثر من الصمت. تنظر إلي من دون المتبضعين، كأنها ترسل إلي إشارة خفية لا أحد غيري سيفك شفرتها. (ف) تنهرني حين أطيل النظر في وجه بنلوبي. أحيانا أود أن أبوح لها بحبي الهلامي للوجه الشامخ هناك في علياء فتنته الإيبرية. لكنني أصمت. ألوذ بالصمت وألحق بها و هي تلج مغارة علي بابا. نقترب معا من الباب الزجاجي، و دون أن نردد الجملة السرية: افتح يا سمسم، ينشرع الباب أمامنا منسحبا ذات اليمين و ذات الشمال. هناك اترك (ف) لعادتها الأليفة في التجول عبر الأروقة، و لمس البضائع المعروضة و قراءة أثمانها بعناية، و ألوذ برواق المشروبات الروحية، كأنني أنشد الراحة، داخله من وعثاء سفر ما، و بنلوب هناك في الخارج تحرس صمتي، وانخطافي امام قناني ذات أشكال شبيهة بمنحوتات فنية. سأشرب نخبك يا بنلوبي، ثقي بأنني سأهبك البعض من ثمالتي حتى و أنت وحيدة، في برد هذه الليالي الدسمبرية في موقف سيارات فسيح، ترقص فيه زخات الهواء البارد رقصات بالي على أنغام أوبريت نشيد البجع. (ف) التي تدرس تقنيات الخطاب الإشهاري في مدرسة خاصة للتجارة و المقاولات لطلبة ينتمون لأوساط بورجوازية، تعلق بأن وجه بنلوبي كروز مجرد أيقونة لعولمة الرأسمال، وأنه مجرد إشهار لا يتجاوز حدود قيمة التبادل التي وجد من أجلها، و بالرغم من أنني متيقن بأن بنلوبي كروز لا تبيعني بحضورها الأوهام، فإنني كنت أنصت لتعليقات (ف) بعناية، و هي تتحدث عن آليات الإغراء التي يستعملها الخطاب الإشهاري، و دأبه الميركانتيلي الفادح على مخاطبة الحشد من الأفراد كما لو كانوا مجرد ذوات مستقلة عن بعضها البعض، بحيث تعتقد كل ذات بأنها المعنية أولا و أخيرا. أنصت إليها و أنا شاخص لوجه بنلوبي كأنني سأراه لآخر مرة. هي هناك كملاك يحرس تيهي، و أنا هنا ضائع وسط صخب يبدو أحيانا كثيرة قاتلا للحواس. في كل مرة ألج موقف السيارات إلا وأبحث عن وجهها، كما لو كان نجمة القطب التي سترشدني وسط الصحراء الجليدية. لا أدري هل بإمكان بنلوبي أن تبيعني الجحيم؟ هي لا تجيب، تكتفي بالنظر، نظراتها المبثوثة كمجسات لا مرئية في الهواء، تكتفي بالإشارة كعراف. لا تقول. ثم إن تضاريس نهدها لا تعترف بكل دسائس وكمائن الغواية التي يخفيها وجهها. أين أنت يا بيدرو ألمودوفار. نحتت لحمها الحي، وضعت لها عجيزة اصطناعية تليق بقوامها الممشوق في Volver، فقط من أجل لذة تصويرها من الأسفل، من أجل أن تترك يا بيدرو الماكر، الكاميرا تزحف كثعبان عبر ساقيها المفرغين في شكليهما الصارخين كمنحوتتين رخاميتين ثم تصعد قليلا إلى الأعلى. هي تنظر إلي كما لو أنها تقول لي، بأن بيدرو ذلك الكائن الأندروجيني المسكون حد الهوس بأركيلوجيا النساء، لم يختبر، رغم جرأة كاميرته، كل كوامن جسدها. بنلوبي تنظر طيلة النهار ثم تتفرغ ليلا، من أعالي لوحتها الإشهارية للتحديق في براري الظلام، و نسج ما يكفي من الثوب لتفكيك خيوطه في الصباح الباكر، قبل أن يستيقظ المتنافسون الذين يخطبون ودها في قصر إيثاكا الفارغ من عوليس. أنظر إليها طويلا، أركب السيارة رفقة (ف)، أضع في المسجلة شريط فلامنكو يتضمن مقطوعات موسيقية من فاندانجو هويلبا، و أنطلق مفكرا في أرتال الغوايات التي تندلق من ملامح بنلوبي و في أعماق جوانيتي صوت يقول: آه بنلوبي، بنلوبي أين الطريق إلى إيثاكا؟..