في إحدى قصائده يقول الشاعر اللبناني الكبير أنسي الحاج، الذي تركنا الثلاثاء الماضي لعرينا «لا أخرج من الظلمة إلاّ لأحتمي بعريكِ». أحس أن هذا المقطع هو الأقرب للتعبير عن حالتي في ذلك الأحد البارد من فبراير 2011، وأنا أغادر تلك الساحة البيضاوية الشهيرة التي يعتبروها «بيضاوة» قلب مدينتهم والتي يسكنها الحمام الذي منحها اسمه وغطى على الاسم الرسمي المدون في سجلات البلدية.. تلك الساحة التي يحج إليها أساسا، ومنذ سنوات، المنتمون إلى شريحة معينة من سكان الدارالبيضاء ليؤكدوا انتماءهم إلى هذه المدينة ولينفضوا عنهم إحساسا غامضا بالتهميش ولو لبعض الدقائق. خرج الكثيرون في ذلك اليوم، في البيضاء وغيرها من مدن المغرب من ظلمة الخوف وصرخوا «الشعب يريد إسقاط الاستبداد»، واحتموا في العري الصافي لحركة عفوية كانت نطفة في رحم العالم الافتراضي، وصارت في ذلك اليوم عظاما كستها أصواتنا المتحررة المتحمسة بلحم آمالنا المتواضعة في العيش بكرامة. لم تكن هذه الحركة، التي أخذت اسم اليوم الذي ولدت فيه (20 فبراير)، ابنة تيار سياسي أو حركة دينية أو انتماء إثني، بل كانت مثل المسيح، خرجت من رحم عذراء غير ملوثة، فجاءت جيناتها صافية وسليمة من تلك العاهات والتشوهات والأمراض تصيب التنظيمات السياسية والدينية. كانت مثل الطفل الذي يكشف أمام الملأ وبعفوية ما لا يبدو له مستقيما من أبويه، ويقول إن «بابا تياخذ دانون ديالي من الثلاجة».. و»ماما تتخبي الشكلاط في الصاك» ويجري ضاحكا منتشيا بانتصاره الصغير في عالم الكبار. كانت مثل طفل لا يعترف ب»تابوهات» الآخرين و»مقدساتهم»، فيشد لحية جده ويرفض تقبيل يده. فعلا كانت «20 فبراير»، التي احتفلت أمس الخميس بذكرى ميلادها الثالث، واعدة وجريئة وصافية مثل الطفولة.. ولكنها كانت كذلك هشة مثل الطفولة، وكانت في حاجة إلى حضن أم يدفع عنها شرور الأغراب. ولكن هذا الحضن خذلها. نعم، خذلت هذه الحركة الشابة من طرف كل أولئك الذين جلسوا على الرصيف يتفرجون عليها ويقولون لها ما قاله بنو إسرائيل لموسى: «اذهب أنت وربك فقاتلا إننا ها هنا قاعدون». وخذلت من طرف الذين استغلوا ريحها النقية والمنعشة لدفع مراكب تيارتهم الدينية والسياسية المهترِئة والصدئة للوصول إلى مرافئهم. نعم، خذلنا الحركة، نحن الذين اكتفينا بأضعف الإيمان وجلسنا هنا خلف ربوة جبننا ننتظر من سينتصر، ونحن نعرف حقا المعرفة أن «داوود»نا لن يكون قادرا على قهر «جالوت»هم من دون دعمنا. كل هذا وغيره أصابها بالضمور، ولكنه لم يقتلها. ومهما يكن، فهي لم تنجح فقط، في إقناعنا بأن صوتنا يمكن أن يخرج من حناجرنا ويصل عنان السماء، بل وأفلحت في طرق أبواب تلك المجالات التي حولها سكوتنا وخوفنا جميعا إلى «مقدسات» (طقوس المخزن.. ميزانية البلاط..). وفوق كل هذا وذاك، فهي استطاعت أن تخرجنا من تلك الظلمة التي فرضها علينا العيش فيها لعقود. قد ينتفي جسدك يا «20 فبراير» وأنا أحاول التأقلم مع الضوء الذي خرجت إليه بفضلك، ولكن، كما قال أنسي الحاج: «ما أملكه فيكِ ليس جسدكِ بل روحُ الإرادة الأولى».