رحل أنسي الحاج، عن 77 سنة، تاركا وراءه يتما أدبيا كبيرا لكل مريديه الذين رأوا فيه ليس شاعرا كبيرا فحسب بل أنموذجا أدبيا وإنسانيا يحتذى. رحل بعد أن تهامس أهل الأدب في الأيام الأخيرة، وتناقلوا حزنهم عليه وألمهم لمصابه مع إدراكهم أن النهاية باتت محتمة. وأمس جاء الخبر الصاعقة الذي كان محبوه يخشون سماعه. وبغياب هذا الشاعر يفقد لبنان أحد آخر شعرائه الكبار، وأحد صحافييه الأكثر حرفية ومهارة، وكاتبا أنفا، شامخا، مترفعا، في زمن قل أدباؤه المتعففون، وشعراؤه المترفعون عن الدنايا والمتطلبات الهزيلة. فالرجل من الذين صنعوا مرحلة أدبية مفصلية، وساهموا في صياغة مشهد الحداثة بوجهه اللبناني بشكل خاص. لم يكن أنسي الحاج من الرواد الأساسيين العرب لقصيدة النثر، فقط، بل كان أول شاعر عربي يصدر ديوانا (عام 1960) يجرؤ على التعريف به على أنه «ديوان نثر»، وهو لا يزال في الثالثة والعشرين. وتضمن ديوانه هذا الذي حمل اسم «لن» وصار أشهر من نار على علم، المقدمة الشهيرة التي تحولت إلى بيان حول قصيدة النثر، ورؤيته لها ومعايشته لها. هذا مع أن شعراء عربا كانوا قد كتبوا قصيدة النثر قبله ونشروها. وحين سئل أنسي الحاج عن هذا الأمر في إحدى مقابلاته الصحافية قال: «أدونيس هو المنظر الأول لقصيدة النثر في اللغة العربية، ومجموعة الماغوط، (حزن في ضوء قمر) صدرت قبل (لن) بعام كامل. لكن (لن) هي أول مجموعة ضمّت قصائد نثر عرّفت عن نفسها علنا بهذا الاسم، وبشكل هجومي، ورافقتها مقدّمة جاءت بمثابة بيان». وهو ما فتح بابا واسعا للنقاش والنزال في الساحة الشعرية العربية. ومما كتبه أنسي الحاج في بيانه يومها «شاعر قصيدة النثر، شاعر حر، وبمقدار ما يكون إنسانا حرا، أيضا تعظم حاجته إلى اختراع متواصل للغة تحيط به، ترافق جريه، تلتقط فكره الهائل التشويش والنظام معا. ليس للشعر لسان جاهز، ليس لقصيدة النثر قانون أبدي». وبقي أنسي الحاج أمينا في سلوكه، لما كتبه يومها، لتلك الحرية التي ربطها بالكتابة، لذلك النبض المتفلت من القيود والصور الجاهزة، والقوالب المسبوقة. إنه بحق «الشاعر الملعون» و«المتمرد» كما وصف نفسه، لكنه أيضا الشاعر «الجريء»، «الغازي» صاحب الفتوحات اللغوية والتعبيرية. هكذا كان في «زمن السرطان» حيث «الفن إما أن يجاري الموت أو يموت». هذا السرطان الذي أراد أن يجاريه كي لا يموت، فتك بحياة أنسي الحاج في النهاية، بعد أن وصل إلى شهرين أخيرين من المكابدة الشديدة. لم يكن المرض هينا على أنسي الحاج، كان طويلا وثقيلا، ومع ذلك لم يتوقف عن الكتابة. ظل مقاوما بقلمه وكلمته الصافية الزاهية حتى عجزت يده عن خط حروفها. بقيت حياة الشاعر الذي عرف كيف ينسج لنفسه صورة هلامية، قرينة التعبير الحر المصفى، المنتقى بعناية، والمنسوج كلمات تتخفف من أي لفظ يزيد على المعنى. أنسي الحاج، ابن قيتولى في جزين، الشاعر الجنوبي، ولد يوم 27 يوليو (تموز) عام 1937، نشأ في بيروت تعلم في مدرسة الليسيه الفرنسية ثم في معهد الحكمة. بدأ ينشر كتاباته وهو ما يزال تلميذا، فوالده لويس الحاج كان مترجما ورئيس تحرير «النهار»، هذا المنصب الذي سيرثه الابن انسي بعد ذلك منذ عام 1992 حتى 2003. لكن البداية الصحافية كانت من جريدة «الحياة» عام 1957، في العام نفسه الذي أسس فيه مع يوسف الخال وأدونيس مجلة «شعر»، ثم انتقل إلى جريدة «النهار» كمحرر قبل أن يؤسس ملحق النهار الثقافي الأسبوعي عام 1964 ويكتب فيه أسبوعيا، ولمدة عشر سنوات تحت عنوان «كلمات كلمات كلمات». تعارفه على الأخوين رحباني عام 1963 كان إحدى المحطات الهامة في حياته التي جعلته ينخرط في الحياة الفنية اللبنانية، حيث ترجم ما يقارب عشر مسرحيات، وضعتها على الخشبة «فرقة المسرح الحديث» المرتبطة حينها، بمهرجانات بعلبك الدولية. أصدر «الرأس المقطوع» عام 1963، ليصبح ثاني مجموعاته الست وصدرت طبعته الأولى عن «دار مجلة شعر»، ثم «ماضي الأيام الآتية» عام 1965، فديوانه الجميل «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» 1970 و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» 1975 وهو عبارة عن قصيدة، طويلة متدفقة، فاتنة، قيل إنه كتبها في فيروز التي ربطته بها عرى صداقة عميقة لم تنفصم، وربما أنه كتب فيها أجمل ما قيل في السيدة، على الإطلاق. ولا بد أن فيروز بوفاته ووفاة الشاعر الذي غنت له كثيرا من أغنياتها جوزف حرب، تشعر اليوم بفقد كبير، وهي ترى شعراءها يتهاوون واحدهم بعد الآخر. كان «الوليمة» آخر دواوينه الشعرية عام 1994، لكنه أصدر كتابه «خواتم» الجزء الأول ومن ثم «خواتم» الجزء الثاني. خطّ أنسي الحاج لنفسه أسلوبا ونهجا في الكتابة، مقالاته لم تبتعد في روحها عن قصيدته. بقي رغم انغماسه في التحرير الصحافي، وحرفيته العالية قادرا على حماية شعره من لوثة اليومي الذي يغرق فيه. فصل على طريقته بين مهنة، لا بد أحبها، وتململ منها في وقت واحد، وعالمه الأثيري الهلامي الذي حماه ببراعة. مزاج يعتكر سريعا وشخصية صعبة المراس، مع نبل وتهذيب، ورقة لا تخلو من مكر ذكي حذق. شاعر مركب، وحضور نسج حول نفسه شرنقة صلبة لكنها شديدة الشفافية. الابن البار للشعر والنقد الفرنسيين، كتب للحب. لم يتعب من الكتابة عن الحب، والمرأة، قارئة وأما، وتلك العصرية والنجمة والحبيبة، المرأة بكل صورها وحالاتها، بأمزجتها ووجوهها وتلوناتها. إنه شاعر المرأة على طريقته وبجرأته وحسيته أيضا. «لنا حياة وليس لنا غيرها. وإذا لم نضطرب بالحب فمتى نصنع ذلك؟ لنا حبّ وليس لنا غيره. إذا احتقرناه فأين نحمل مجدنا؟». حاول سبر أغوار النفس الإنسانية، آمن أن بلاغة اللغة بجنونها وجنوحها، بمقدورها أن تشرّح النفس وعالمها، وهكذا بقي يفعل، سابحا في اللاوعي والبواطن البعيدة الغور. كان يرى أن «من أجمل ما يمكن أن يحدث هو أن ترمي نفسك، كل يوم من النافذة بتلذذ متجدد واكتشافات فاتنة». لم يتوقف أنسي الحاج عن خوض المغامرة الكتابية، غاب لفترات، وصمت لمرات، واعتكف ثم عاد، لكن حياته بقيت صنو الكتابة، ومزاجه بعيدا عن الكرنفالات الثقافية والاستعراضات الفارغة. منح نفسه للكتابة فمنحته أسرارها. أعادت «دار الجديد» عام 1994، طباعة دواوينه، مما جعله في متناول الجيل الجديد، وعاد بهذه المناسبة «لن» إلى واجهات المكتبات لمرة جديدة. وتروي ناشرته الروائية رشا الأمير أنه «أصر أن يقوم بنفسه بتحرير وقراءة ومراجعة الطبعة الجديدة» واصفة إياه بأنه «مدقق حاذق». «وبعد بروفات للدواوين محرّكة، طلب أنسي الحاج حذف كل الحركات، قائلا يومها: أريد نصا عاريا». عام 2007، صدرت الأعمال الكاملة لأنسي الحاج في مصر، عن «هيئة قصور الثقافة»، في ثلاث مجلدات، وهي طبعة شعبية جعلته في متناول المصريين، الذين كانوا يشتكون غلاء الطبعة اللبنانية. في زاويته «خواتم» التي كان تنشر في صحيفة «الأخبار» في سنواته الأخيرة، كل سبت، كتب تنويعات عكست اهتماماته، وانشغال باله بالمآسي الدائرة حوله، كتب عن سورياولبنان، والصراعات الدينية العبثية، معتبرا أنه «من غير العدل أن يبقى العرب والمسلمون خارج دائرة الحضارة هذه، تارة باسم الأصالة وطورا باسم التكفير». وكان آخر ما نشره يوم 28 ديسمبر (كانون الأول) 2013، تحت عنوان «ملامح امرأة صاعدة» وهو عبارة عن مقطوعات مكثفة ومفلترة، يصف فيها امرأة عصرية جامحة يحاول سبر أغوارها، تبدأ المقطوعات المنشورة: «جميلة وفي جاذبيّتها طَعْم الحتميّة. قويّة وتوظّف كلّ قوّتها في طموحها». ومن غرائب الصدف، أو من دواعي الحدس الشعري، أن تنتهي مقالة أنسي الحاج الأخيرة بعبارة: «لا يتذكّر أنّه قوي إلا بعد أن يبدّد قواه في متاهاتِ التوهُّم أنّه ضعيف!». طلب أن يستمع إلى أم كلثوم، أجهش بالبكاء، وبعد ساعات رحل كما تروي الأديبة رشا الأمير. لعل أنسي الحاج مرتاح حيث هو الآن ويردد: ما عدت أحتمل الأرض فالأكبر من الأرض لا يحتملها. ما عدت أحتمل الأجيال فالأعرف من الأجيال يضيق بها. ما عدت أحتمل الجالسين فالجالسون دُفنوا. * صاحبة «دار الجديد» وناشرة دواوينه رشا الأمير: بغيابه يفقد لبنان شيئا من نكهته * تقول الأديبة رشا الأمير، وهي صاحبة «دار الجديد» التي نشرت دواوين أنسي الحاج، في طبعة ثانية، عام 1994، وعرفته في سن باكرة، وعن قرب: «تعرفت إليه وأنا لا أزال تلميذة في باريس، بينما كان هو قد تسلم مسؤولياته في (النهار العربي والدولي) هناك». لأنسي الحاج فضائل على مساري لا أنساها. فهو الذي منحني أول وظيفة في حياتي. ذهبت إليه، وكنت أحب الكتابة وطلبت نشر مقالة دبجتها بخصوص أطروحة كتبت حوله، ووافق، ومن هنا كانت البداية، معه. فقد انضممت إلى فريق العمل الصحافي في «النهار العربي والدولي». هو الذي كان يصحح مقالاتي ويعنونها، كما كان يفعل مع بقية الصحافيين. تصفه الأمير بأنه «رجل كريم، يعرف كيف يساعد ويعاضد، لديه جانب أبوي ومحب. مؤمن على طريقته، متأثر بالعهدين القديم والجديد. بتناقضاته عاش أنسي الحاج على صورة لبنان. هذا رجل لبناني حتى النخاع، لذلك يفقد الوطن بغيابه شيئا من نكهته. صاحب مزاج ليلي، عنيد، بقي يقارع القلم حتى الرمق الأخيرة». «صاحب (كاراكتير)، له شخصيته ذكية، واستطاع أن يصنع لنفسه مكانة ليست لغيره، نسجت حوله ما يشبه الأسطورة». وتتابع الأمير: «فقدنا بغياب أنسي الحاج، صوتا مميزا في الأدب والصحافة الثقافية. نحن في (دار الجديد)، كان لنا شرف إعادة طباعة دواوينه، وبالتالي نشعر بمسؤولية أدبية تجاه هذه الطبعة» وتتذكر الأمير ما حدث بعد صدور الطبعة الثانية من دواوينه وتقول: «إثر صدور الطبعة أقامت الدار تكريما لأنسي الحاج، وأهديناه رسما له، وسأل يومها: (هل أنتم تحبونني إلى هذا الحد؟) كانت العلاقة به فيها ود ولطف. يوم استقالته من جريدة (النهار)، وبدا الأمر حدثا له ولكثيرين، نشر رسالة استقالته، كما لا يزال البعض يتذكر وقمنا بدورنا بإعادة نشرها، في كراس صغير ووزعت على محبيه». وتختم رشا الأمير: «ربطتني بأنسي الحاج مودة عميقة، وغيابه وهو القصيدة وجزء هام من المشهد الأدبي، خسارة كبيرة للبنان».