ثمة أسماء في عالم الفكر والأدب، يكفي ذكرُها، أو الإحالةُ إليها، فكيف بالوقوف عندها بأناة وإسهاب، لتثير مواقف للتأمل، وتستدعي عملية استرجاع ذاكرة جمعية كاملة، ومرجعية ثقافية شاملة، في قلب زمنية حضارية شمولية، ترى أعلامها إما يقعون في مركزها، أو هم من أقوى الخلاقين أطلقوا شُهُبها الأولى، وبأعمالهم، وبمُتَسِع رؤاهم وصنيعِ نصوصهم وإشعاع وقوة بصيرتهم النفاذة، أمكن فعلا للمعرفة، وللإبداع أدبا وفنا، أن يؤكدا دائما ضرورتهما القصوى وجدارتهما المثلى لقول وإعادة اكتشاف وإبراز الجوهري في الإنسان، من أجل ترسيخ الإنسانية وإعلائها فوق مستوى الغرائز والحاجات الأولى، ابتغاءَ مُثل وقِيَم عظمى هي قطب الوجود، حتى ولو ظلت بعيدة المنال، وما الإبداع العظيم والخلاق إلا بعض هذا المطلب، منذ بواكير الحس الإنساني، وإلى مشارف استحالة التعبير عنه. الشعراء منبوذون ومطرودون من بعض الكتب المقدسة ومصنفات الفلاسفة، لأنهم منافسون حقيقيون للخالق، بدعواهم، برؤاهم وتمثلاتهم. بالعبارة، باللغة أداة أخرى تعيد تشكيل الحياة، وبثّها أرواحا وأجسادا غير مألوفة، هي من عبقرية، من إحساس الشاعر الكاتب، ومضمار خيال الإنسان. باللغة والخيال يبدد الإنسان بداهته، وينتزع معنى خلقه بيده، وفيما يفصح عن هويته، يأتي قولُه الشعري والديني والصوفي وباقي استيهاماته لتمثل التجلي الأقوى لحضور الكائن الخلاق في الوجود، فكأنه هو خالق نفسه وإلهه، ولا أحد، لا شيء ينافسه في هذا التشكيل، وكلما اصطدم بما يحول دون تحقيق كينونته، وامتداد أفق أحلامه، زاد قلقه أضعافا، وهواجسه أكداسا، وراح يسعى ليستبطن ذاته، ويفكك علامات الوجود عودا على بدء، من غير أن يستقر على يقين، فاليقين عدو الشعر هو والثبات، لذلك تراه يطوف دوما في دائرة المحال، وفي كل مرة يجرب أدواته، وينزاح عن أشكاله، ويطور جوهره. الفرق بين النص المقدس ونص الشعر أن الأول كامل، ونهائي، وقداستُه من أعلى، بينما الثاني في صيرورة دائمة وبنيتُه مفتوحة لغةً وبلاغةً وخيالاً وتصوراتٍ، لا تقدس إلا الجديد، لتعود فتنقلب عليه حين يتحول إلى قيد ودوغما، ولذلك لا يكون الشاعر، المبدع، كذلك وفي انسجام مع الموقع الحقيقي الذي ليس له غيره، إلا وهو في تجاوز مستمر، ونقض دائم حتى الفناء، لمقدراته وإنجازه بنفسه، وهو يبتغي نيل محالَ مراده، محال! أنسي الحاج من هذه السلالة، حتى وهو لا ينتمي إلا لسلالته الشعرية الخاصة، لاعتقادي أن الشاعر مفردٌ، وهو صوتُه، قبل أن يكون صوت الجماعة(القبيلة، مثل شاعر الجاهلية)، هو إذا نطق باسمها، أو هتفت من حنجرته، نبَست من شفتيه، أو باح وتحرّق بلواعجها فهو يتجوهر في هذا الصوت، صاحب النداء لا الصدى، الرسول لا التابع، الشيخ وليس المريد. وأنسي، الذي لم أقابل يوما، لم أعرف شخصا، رغم أن علاقتي بلبنان، ببيروت تخصيصا أضحت جزءا من علاقتي بنفسي، كلما حللت بهذا التراب وجدته حاضرا معي، يمشي برفقتي، أشمه في الهواء، أرى أنسي يتلبّس السحاب، والمتوسط يزداد زرقة من نظرته، أو أمواجه هديرا من غضبه، وهو صاحب الغضب الهادئ، والصبر النابض، والخفقان المتئد، مثل من يمشي في منامه، يحسبونه سكرانَ، وما هي إلا خمرةُ الوعي الحاد، وعناد طائر الفينيق، ما هو بسكران، إلا بيقظة إله يحس بمسؤولية ضرورة تدبير كون بكواكبه وخلائقه، فيترك النهار للعابرين والعاديين ومقايضي الصكوك من كل نوع، يتفرّج بنصف عين على تفاهات الحياة وترَهات أشباه الأحياء، وعند الغروب يتوضّأ بأرجوان روحه، ويشرب أول كأس من شغف المعرفة، وحدوس الوله، كي تبدأ قصيدة، وينبثق سؤال لم يفطن إليه أحد، وليس عند غيره الجواب. في لبنان آلهةٌ وأساطير وخوارق ومقامات وهذه كلها تحميه وتبجّله، لا يتبيّنها إلا المهووسون، والممسوسون، أنسي الحاج أحدها، ولذلك هو يَرى وفي الآن لا يُرى، وكل من قابله إنما شُبِّه له، لأنه يقيم في ذُرى شعره الذي مذ بدأ وهو شلال يهدر وينهمر من الأعالي. هو الرائد، ولذلك تراه في معتقده الفكري، ومنظوره الأدبي، لا يومن إلا بالرواد، وهؤلاء قِلة بالطبع، هم المؤسسون والفاتحون، وغيرهم التابعون والأصداء والنُّسَخ المكرورة، لا يُعتد بها. من هنا بعض خطورة من يريد أو يزعم أن يصبح شاعرا، كاتبا، لا توسُّطَ في الأدب. إما تكون شاعرا أولا تكون. ومن هنا، أيضا، جحيم الشاعر، أن تبقى نارُه مشتعلة إلى أن يُوارى الثرى ليقبِس منها من أصابهم مسٌّ من جنِّه. يقول أنسي إن الشعراء هم المتنبي وأبو تمام وأبو نواس وبودلير وملارمي، وأضرابُ هؤلاء، وكفى. وهو بدأ رائدا، لا متمرنا، مع جماعته الشعرية ،في مرحلتها الأولى التأسيسية وكمؤسسة(مجلة شعر 1957، يوسف الخال، أدونيس، وأنسي الحاج). وفي الآن يقترن بالفردي، بالنواة الواحدة، الجوهرة، إذ الشاعر مهما تضامن وتكافل نظريا وحول مبادئ ومعايير إبداعية لا يُعرَف ويعتد به إلا بقصيدته، هي هويته ومرآته، والباقي ذيل. لذلك قال في هذا المعنى:" ليست البداية مشيئة محض فردية ولا محطة زمنية تعقبها محطات، وليست الريادة طلائع وموجات، بل هي بداية وكأنها صفر؛ بداية في غير معنى المتابعة والإكمال، فليس للفجر متابعة وإكمال، وكل فجر هو البداية". أظن قيل كل شيء هنا، بالنسبة لمن انخرط في حركة شعرية، وانبثق من أتون حقبة تاريخية وثقافية هي بمثابة منعطف، بأحداثها وبالوعي الذي تبلور لدى أعلامها، رادتِها، في حقول التعبير الأدبي، والتفكير المعرفي التنويري، من جهة، كما العمل التحرري، المشروع الديموقراطي، من جهة ثانية، وهذا في مجموع العالم العربي. من قلب هذه اللّجج والتيارات مجتمعة أنجب أنسي الحاج قصيدته لتعلن على طريقتها "مشروعه" الذي يمكن تسميته بعباراته:" أكثر ما يخفف القهر ليس الصراخ والغضب بل الرقة". لنذكر فقط أن هذه القصيدة، التي مثّل ديوانه "لن"(1960) باكورتها،(بدأ النشر منذ 1954) وُضعت في زمنية أدبية عربية تميزت ببداية تغيرات مهمة مسّت تشكل الأجناس الأدبية الحديثة روايةً وقصة ً قصيرة وشعرا، ومنظوراتِ الواقع ومفهومَ الواقعية، وعلى صعيد الشعر خاصة كانت قصيدة التفعيلة قد طرحت بأسماء روادها المعلومين(لا يعنيني هنا السجال حول أسبقية رائد أو إسم على آخر، لا سيما حين يتعلق الأمر بظاهرة، لا يمكن أن ينشئها نص واحد، وتحتاج إلى تراكم وانتظام، وسياق، وحين تشرع في الاستقرار يصبح لها نَسَق، وهذا المعول عليه؛ يُنظر هنا لزاما الكتاب المعلمة للشاعر الأستاذ محمد بنيس:الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها) نصوصا اتجهت في بنائها وموسيقاها ولغتها إلى اجتراح بنية بديلة للشعر العربي الكلاسيكي علما بأن تنويعات تجديدية طرأت عليه قبل ما سُمي بحركة الشعر الحر أو التفعيلي(حركة أبولو المصرية مثلا، أو الشعر المهجري،إلخ)، وتحولت فعلا وبالتدريج إلى نموذج مضاد وبديل للشعر القديم، ترافق مع تبدل متواتر للذائقة الأدبية وعملية التلقي، ومع مزيد انفتاح على الثقافة الحديثة، كله في إطار التحولات الحثيثة والموضوعية لبنيات المجتمع العربي. بيد أن قصيدة أنسي الحاج، هو والحركة التي انتمى إلى مزاجها وجماليتها الشعرية جاءت وفي وقت متزامن، أو غير بعيد على الأقل عن كتابة التفعيليين، لتطرح نصها، انطلاقا من تصورات معلومة للدارسين، بمثابة إبدال، لما قبلها وما يجاورها في آن. نظرت إلى الثانية وكأنها تستنسخ سابقتها ببضعة رتوش وتحويلات طفيفة لا تمس البنية العميقة، نظما ومبنى. قدم النص الشعري الحاجِيّ، حتى من غير أن يتخذ له توصيفا بالتعيين الفني أو المذهبي، وبطبيعة حاله كاختيار، كبراديغم شعري مختلف عن النسقين الموروث والوارث، فهو قطيعة، القطيعة التي اقترحتها للشعر العربي وعنه هي المسماة "قصيدة النثر" التي لا سابق لها في تراثنا، والمنقطعة عنه، والمأخوذة كلا من نمط الشعر الغربي، في نماذج محددة له ومكرسة لها بلا جدال، تقريبا، ذلك أن التعرف على هذا النمط احتاج إلى وقت، ولا كان المنتجون العرب يومئذ، خلا مواهبهم وطموحهم الأكيدين، يمتلكون الثقافة الشعرية الحديثة المتينة والمتراصة التي تؤهلهم حقا لجعل نصوصهم ممثلة حقا للحداثة التي أصبحت شعارا لكتابتهم ونزعتهم الأدبية، قبل أن تأخذ هذه التسمية ما لا حصر له من المعاني ويضيع بعد ذلك دمُها بين قبائل الشعراء؛ شعراءُ قصيدة النثر، كان لها روادُها، في مقدمهم أنسي الحاج ونصوصها المثال الذي ترسخ وتراكم في أدبنا العربي، وظهرت فيه طرائق وتعبيرات، هنا وهناك، لكن، من غير أن ينتزع إلى الآن اعتراف الذائقة الأدبية العربية التي ما زالت تميل إلى التفعيلة والإيقاع البين ولا تكاد تميز، بسبب اكتساح العادي والرديء والركيك والمتطفل بين ما هو نثر، أو نثر فني، أو شعر مرسل، أو تصفيف كلام على عواهنه، أو قصيدة نثر حقيقية وضع لها أنسي الحاج شروطا في التخلق حددها في قوله المعياري:" لتكون قصيدة النثر قصيدة حقا لا قطعة نثر فنية، أو محمّلة بالشعر، شروط ثلاثة: الإيجاز، والتوهج، والمجانية". لاحظوا كيف أنه يسقط الإيقاع، الموسيقى، المرتبطة بالقصيدة النشيدة، ويُبقي العنصرين الأخيرين ملتبسين، أو قابلين لتعدد الفهم. الحق، لم يكن أنسي الحاج في حاجة إلى التنظير والإسهاب فيه، فهذا شاغل أدونيس وبلواه، اكتفى بإرادة أن يكون نصه مثاله، صورته من غير أن يفرضه نموذجا على أحد. لكن، هل بوسع أحد اليوم من شعراء قصيدة النثر الجديين، المحنكين، لا اللاهين والعابثين ممن أفسدوا" سوق الأدب" أن يزعم بأنه لم يتتلمذ على القصيدة الحاجية ، إلا بطر أو مخادع لنفسه ولتاريخ الأدب، وهو تاريخ حيّ ويقظ في ذاكرة الدارسين، كم من هؤلاء في نفوسهم حسرة وعلى طرف لسانهم نداء: لكم الحاجة إليك قوية اليوم يا أنسي، لكم!