إلى الناقد السرداني عبد الفتاح الحجمري، زوّدني بالخبر، فأردّه إليه مسرودا وله النظر. 11 احتك بي الذي صار إلى جواري في المكان الشاغر سابقا: معك المعلوم؟ المجهول؟ أقول:الدعوة أي دعوة؟ لا تنكر، أنت منا! التفت خلفه وردد كلامه حرفا: معك المعلوم؟ أنت منا..التفت إلى أمام المسافرين،إلى خلفهم،إلى وسطهم،على قدامهم. كلّهم،جلهم يتهامسون وشيئا فشيئا يتباوسون ويتعانقون، والسائق نفسه تخلى عن المقود ليرتمي في الأحضان..إلا حضني. انشغلت عنه، عنهم،عن جديتهم بتحسّس جيوبي، جيبي الداخلي خاصة. قلبي ينبض، واطرافي ترتجف،إلى أن جسستُها ورقتي، دعوتي، لا أعرف كيف أخرجتها، وأشهرتها على الملأ: هاهي ذي..دعوتي! 12 قلها من الأول، حسبناك منهم! منهم، من هم؟ هم!، وإذن، أنت معنا! أنا مع الدعوة، وأشهرتها أمامهم، فما كان إلا أن فعلوا وأشهروها مثلي: هاهي ذي.. دعوتنا! وإذن، سنقول لهم. ماذا؟ ما اتفقنا عليه. على ماذا ؟ حسب الشروط. الشروط ؟ الموضوعية، طبعا.أنسيت؟! نسيت،أنا،أبدا. ربما الرعاش،أوالألزايمر، زوجتي، إخفاقي معها البارحة، مرة أخرى. بلى، سأقول لهم. ونحن، أيضا. ما دمت معنا سنقول لهم كل شيء.. في القاعة. 13 دنا مني جاري يسألني عن موضوع اجتماع العاصمة، فاستغربت كيف هو لا يعرف. ردّ بلى،ولكنني أخفيت الدعوة خشية أن تضيع. فلما أجبته بأن الموضوع يتعلق ب»الشؤون الموضوعية» فزّ كالمستغرب،لا يبدو عليه أنه فهم. وهنا طمأنته،أؤكد له أن المهم من ذهابنا شيئان: الحضور، والكلام. فعاد يسأل: لكن،الكلام عن ماذا بالضبط؟ عقلته: عن الشروط الموضوعية يا رجل. إنما، ماهي؟ تساءل للمرة الثالثة. ولأوقف لِجاجه، قلت بحسم وحزم: حين سنكون في القاعة ستفهم، وسيأتيك الكلام وحده، من قلبك، هكذا، من عند الله، سترى! 14 فكأن سائق الحافلة لم يكن ينتظر إلا عبارتي الأخيرة،لا أعرف كيف وصلت إليه وهو في الأمام،هناك، ففرمل فجأة والمحرك يهدر، وصاح وهو يهدر: لابد أن نقول لهم كل شيء. هدر الصف الثاني: لا سلام، ولا منام، نريد الصّحّ! نريد المعقول! هدر الصف الخامس في الحافلة: نريد التغيير، نريد التجديد، نريد الجديد. ظننت أني سمعت من أضاف: والثريد والقدّيد، حتى هو!!وهبّت الحافلة كلها تهتف: التجديد، الجديد، الثريد بالقدّيد، الجديد!!غمرني الانتعاش والتفاؤل، فها نحن أبناء البلدات الخلفية ذاهبون إلى العاصمة، وسنقول لهم الكلمة الحازمة! 15 يبدو أننا بكّرنا في الوصول، إذ انتظرنا أزيد من ساعة عند المدخل الخارجي لمقر حزبنا. لم يسمح لنا الحارس بالولوج قبل وصول الكبار، قال:»الكبار!» وصدره ينتفخ أمامه، وجسده، رغم ضآلته، وقِصر قامته،يسد الباب سدّا محكما،ونحن ننظر ولا نفهم،والكلام يتلجلج في صدورنا ولا يخرج،على الأقل كان في صدري هكذا، وأظن أحسست به يصطدم ببعضه في جوف رفاق رحلتي، إنما العجب أننا حين طفقنا نتبادل النظرات في وضع من يستنكر رأَينا شفاهنا مطبقة ،والأغرب أن أجسادنا تنقص،تتقلص، ولم ينقذني من الزوال إلا تلمّسي جيبي الداخلي أتحسس الكنز الذي فيه، دعوتي، لكن هذه المرة بحماس أقل، بدون الصعقة الأولى. 16 أخيرا سمح المنتفخ بدخولنا، أفهمنا أن الكبار وصلوا، ولم نرهم يدخلون، ولم نفهم إلا حين أصبحنا وراء المدخل ورأينا بابا جانبيا يفضي إلى القاعة، فأدركنا أنه باب دخول الكبار. عبرنا أولا ممرا ضيقا مغطى بعريشة موشاة بزهيرات،تفضي إلى باحة توزعت فيها النباتات كأنها مشتل،وهي منفتحة على المكان الذي أخذنا في الدخول إليه تباعا،قاعة الاجتماع. العجيب أن سقفها الذي يغطي مكان جلوس الحاضرين وطيء جدا، فيما مقدمتها سقفُها عالٍ، ومزين بنقوش، وتحته منصة طويلة من خشب السنديان الفخم،حيث جلس الكبار. 17 ألقى أكبر الكبار الكلمة الأولى، رحب بنا، ونبّه للظرف الدقيق الذي تمر به البلاد، وحيّا فينا جميعا الروح التي تجمعنا هنا في هذه القاعة، وفي هذه اللحظة التاريخية بالذات ولم نكن نحن نعلم عن أي لحظة يتحدث بالذات، ولا هي وردت في الدعوة، فقدّرنا من النظرات التي صرنا نتبادلها بخفر واختلاس أن الأمر يتعلق،لاشك، بخطب جلل وزاد إن علينا دائما أن نتحلى بروح المسؤولية، التي تحتاج من المناضلين والمناضلات،والفاعلين والفاعلات، إلى تغليب الشروط الموضوعية،على الخصوصيات والذاتيات،لأنها،غير موضوعية. 18 تناول الكلمة بعده نائبُه، فنائبُ نائبِه، فالنائبةُ عنهما،وجميعُهم يتحدثون عن أهمية اللحظة التاريخية، وكيف الحاجة لتدبير الأزمة،ل»تحقيق انتقال هادئ وسلس»يضمن للحركة أن تبقى في الريادة «مع تحليل صائب وفهم عميق للشروط التاريخية(كذا) وإلا «سيفوتنا قطار التاريخ». وفعلاً، كان الوقت يمضي سريعا، ولم يكن أي منا قد تدخل ليقول كلمة عن مشاغل بلدته، ورأيه في تدبير الأزمة، وكل ما عزمنا الحديث عنه وتمرننا عليه ونحن في حافلتنا قاصدين الاجتماع. كان الوقت يمضي، ونحن نخاف أن يمضي علينا وقت العودة في القطار! 19 لاحظت الذي بجواري يحرك سبابته، وشفتيه، ويتململ في مقعده كأنه سيقف ليطلب الكلمة،ولم يقف. لاحظت شخصين أمامي يتزحزحان كثيرا، ويصدران صوتا كصهيل مختنق، لكنهما لم يقفا ولا تكلما. رابع، وسادس، تاسع، اهتزوا كنوابض في مقاعدهم، منهم من رفع أصبعه، يده، وكنت أتوقع صوته، حتى إني سمعت مثل الصدى، ولم يك إلا توهما ما رنّ في أذني،ولذلك قررت أن أضع بنفسي حدا لهذا التردد، والقلق، والخوف، بل والجبن، وأن أتصدى بمفردي لهؤلاء الكبار الذين يسوسون باسمنا، ولما وقفت،ها، تجمدت أطرافي، يبس فمي، بلعت لساني، نظر الحضور جميعا إليّ، وما لبثت أن هويت لا أنبس ببنت شفة. 20 أعلن رئيس الجلسة توقفا قصيرا للراحة وشرب الشاي، فخرجنا وتجمّعنا في الحديقة، الكبار في جهة، ونحن جماعة الحافلة انتبذنا لنا ركنا. طفقنا ننظر إلى بعضنا باستهانة وشماتة: هه،هكذا إذن! لماذا صمتتم؟ لأنهم قمعونا، لن أسمح بعد. أبدا، لم يقمعنا أحد، نحن الذين لم..سترون بعد قليل سأكون أول متدخل، سأقول الحقيقة..سترون سأطلب الكلمة، سأفضح الأمور، في كل مرة يسحروننا بالشروط الموضوعية، أنا سأتحدث عن الشروط الذاتية والإنسانية، وما يجري حقيقة على أرض طازلانكا، وزبلانكا،وعمالانكا، الكلمة أنا! 21 تقدمنا إلى القاعة نتبع من أصرّ أنه سيطلب الكلمة الأول. قال:»سأفرقع الدّلاّحة»،علقنا: يا حفيظ! اهتاج الذي وراءه: حتى أنا! الذي بعده: وحتى أنا! وتبعتهم: اعتمِدوا عليّ، أنا أيضا. لما صرنا في القاعة توقعت سماع الفرقعة الأولى، لم يحدث شيء.عاد رئيس حزبنا يواصل خطابه بصوته المفخم، وحين رأى يداً ترتفع ربما يطلب صاحبها الكلمة، واصل قائلا في جملة اعتراضية: سنشكل لجنة خاصة للاستماع إلى الشكاوى. أما الآن فعلينا أن نتعبأ لإعداد تصور شمولي لمخطط الحكامة الجيد، ودائما وفق مقتضى الشروط الموضوعية التي...ربع ساعة ثانية مضت ولم تحدث الفرقعة، ربع ساعة ثالثة، ونحن نسمع مكتوفي الأيدي، والذي أصرّ على أخذ الكلمة لم يتكلم، وأنا كدت أتكلم، لولا أن الرئيس عاد يرفع الجلسة للاستراحة. 22 « شوف أسيدي، احنا ما جيناش من الثلث الخالي حتى نبقاو ساكتين! شوف أسيدي لابد من وضع حد لاحتكار الكبار، واضطهاد الصغار. شوف أسيدي، نحن لا يمكن أن نبقى، إما مكتوفي الأيدي، أو من المصفقين.» كنا قد انتبذنا لنا مكانا في الحديقة، نحن الصغار،وقد حمل إلينا الحارس كؤوس شاي وكعيبات غزال، وهو لا يفوّت الفرصة لنفخ صدره، وإظهار تأفف سافرٍ منا، وهو ما استفز جاري في الحافلة، الذي رمى الكأس والكعب، وتصدّى له، لنا، في آن، مكورا قبضته، رافعاً يمناه ليعلن في قسم مدوٍّ:»وحق الله العظيم، سترون ما سأفعل بهم، ما سأقول في القاعة!». 23 عدنا نتدافع عند مدخل القاعة، صحّ عزمُنا للمرة الأخيرة على ما لابد أن يقع، وقد أصبح لنا قائدٌ ليتحدث باسمنا،أو سيحدث هكذا قال ما لا يُحمد عقباه! لولا أن حدث ما لم يرد في الحسبان، حسباننا نحن على الأقل. فإننا، ونحن نضع أقدا منا على أرضية المدخل انبرى لنا الحارس بصدره المنفوخ. صمدنا وهو يدفع، ونحن صامدون، ودفعه أصْمد. تدفق من خلفه الرئيس،ونوابه،والنائبة. قالت بلهجة آمرة:: ابقوا في مكانكم. وأردفت مخففة:الجو حار، سنواصل الاجتماع هنا. رفع القائد التحدي،:سندخل إلى القاعة؛ سنقول كلمتنا. تصدت النائبة بعنجهية: كلا، الكلام في الحديقة. زاد هو معاندا: كلمتنا نقولها في القاعة. احمرّ وجهها، انتفخت أوداج الرئيس، ونائبه، صار الحارس بالونا،اختلط الكلام: نقول لكم، القاعة والحديقة ابحال، ابحال. استنفرنا منكرين: لا، القاعة، أولا وأخيرا!. رد الكبار: القاعة أولا وأولا!. 24 فرمل سائق الحافلة فجأة، فتقافزنا في أماكننا،إذ انتقل الأول إلى الأخير، والأخير في الوسط، ارتطمنا ببعضنا، تجاذبنا، تعانقنا. سمعت حنجرتي تصرخ في صراخهم: «القاعة!» ؛»القاعة!»؛»القاعة!». صعد إلى الحافلة دركيان، فوشوش لهما السائق بشيء،، فتبسّما، وضحكا، وتضاحكا، وقهقها، ثم استعادا سمت الوقار، سائليننا: «إلى أين؟ فتكفل السائق بالجواب معلنا : على ربالانكا،أسيدي. فسألا مباشرة: ولكن، اعلاش هاذ قربالة؟!». لم يتلقيا عندئذ أيّ جواب لأننا كنا ما نزال نصرخ، ونهتف: «القاعة!»؛ « القاعة!». فرفع أحدهما عقيرته فوق صراخنا وقبضته تضرب سقف الحافلة: «ما دام هذا مطلبكم، فسنأخذكم إلى القاعة، هيّا ، وخاطبا السائق: « من هنا إليها، مرحبا بكم، لن يكون إلا خاطركم؛ في القاعة إن شاء الله.». الرباط في 12/04/2011 1 وصلت الدعوة فوجدتني متأهبا،متحفزا،بل قلقا ومتوترا. أولا،تحسبا لوضعي الشخصي. ثانيا،لما يسمى بفجاجة، ونوع من التفخيم الضاجّ والملتبس ب»الظروف الموضوعية». زيادة على شرط ثالث، واقع بينهما، موجود بين الشخصي والموضوعي. هو ما يمكن أن أختصره لكم ببساطة في عملي، بالأحرى في علاقتي بمدير مصلحتي الإدارية،هذا الذي ينغّص عليّ بعض حياتي، إلى حد أني مستعد لذبحه من الوريد إلى الوريد! 2 طلب مني رئيس المصلحة حين التمست عطلة للتغيب، أن أدلي بحجة تبرر الغياب؛ قال: نحن نعرف انتماءك إلى ذلك الحزب، وتنسيقك لشؤونه في هذه البلدة. بل أنت جزء من «بوطزطاز» في هذه المصلحة، إذ هذا الحزب ينفخ في «بعرتك»، حتى إنك بتَّ تتصور أن بإمكانك الدخول والخروج هنا، كأنك في هُري. لا يا مولانا، اعلم أن لا غياب عن العمل إلا بحجة، وهي عند حزبك، وعليه أن يرسل إليك دعوة، وعليك أنت أن تحضرها إلى المصلحة لنسجلها في مكتب الضبط، وشوف اتشوف بعد ذلك، مفهوم! 3 كان محقا في ما يقول، في مطلبه، لكني،أيضا،الأحقّ منه. فأنا أعتبر من ينتمي إلى حزبي مُنزّهاً عن الخطأ، هو معصوم عن الخطأ، يعلّم الصواب للجميع. ولرئيس المصلحة هذا الذي يحشر أنفه في ما لا يعنيه. هو مخبر، جاسوس هذا الحقير. يريد الاطلاع على الدعوة، ونقل نسخة منها إلى مخبريه الكبار، وهكذا، ليطلعوا، نعم ليطلعوا، على، على ماذا؟ طبعا، وليترقّى على حسابي، ويصعد على كتف حزبي، حزبي أنا، الذي... يا للمخبر الحقير! 4 كنت متأهبا، متحفزا، بل دمي يغلي، يزداد غليانا،وموعد الندوة، اللقاء، اجتماع المجلس، مجلس الفروع.. يقترب. أسمع أن من الناس من يؤرخ بتاريخ ميلاده، بسقوط القنبلة النووية على هيروشيما ونجاساكي؛أم بعام»البون»، أو بزلزال أغادير، وقبل ذلك بنفي محمد الخامس إلى مدغشقر، الذي يسميه بيضاوة «ارفود محمد بن يوسف»،أو باختطاف المهدي بن بركة أمام مقهى ليب بشارع سان جرمان بباريس والنهار مصحصح،واختفائه إلى الآن،الخ،الخ ،،فقلت فظهر لي أن التاريخ يمكن أن يبدأ، سيبدأ مع.. مع يوم اجتماعنا، واعلاش لّا؟! 5 (...) قلت، تحسّبا لوضعي الشخصي، وسأشرح هذا باقتضاب ما أمكن. فأنا ككل البشر، عندي ما هو شخصي: في طفولتي، ومراهقتي، وزواجي، وطلاقي، وزهوي، وفي علاقتي، بالذات، مع هذا الحزب الذي لم أعد أذكر كيف صار جزءاً من حياتي، رائحةً في جلدي، ما عشت فيه،ورأيت،وسمعت،ونسيت،ما أحاول أن أنسى،ومالا يُنسى..إلى يوم الدين. الحاصل، أنا، كما نقول، نحن المغاربة،»قلبي عامر»، بل أزيد فأقول:»عندي قلب مُحبّ!»، وعندئذ يا من لا تعرفونني، ستقع الواقعة، وهذا ما لا أرغب فيه، على الأقل في انتظار الإجتماع . 6 قبل أن أنسى،وتنسون،أيضا،فالخلق مبتلى بالنسيان،أحب أن أذكر بأن توتري، وغلياني، ناجمان عن ما سموه ب»الشروط الموضوعية». أقرأ العبارة في مراسلات ترد علي كمسؤول في فرع الحزب. أكون مسترخيا، ثم ما ألبث حتى أنتفض مستقيما كجندي سيؤدي التحية العسكرية إلى رتبة أعلى. ودقات قلبي أسمعها تقنبل، قائلة:»الله يحفظ!».أخمِّن، قد جاءت الساعة التي انتظرنا طويلا؛ حزبي وأنا، أنا وحزبي، والساعة آتية لا ريب فيها. أحس بالدم يغلي في شراييني جمراتٍ، والجمرات التهبت، تصعد حِمماً إلى فمي..! 7 أقف في منتصف الصالة الصغيرة لبيتنا. تنظر إليّ زوجتي فجأة، وهي المستغرقة في متابعة مسلسل دكتاتور سفاح، يصر على إبادة شعبه بأكمله، ليبقى في الحكم مضحيا بكل شيء إلى آخر قطرة من دم شعبه. في عينيها نظرة عتاب أني خيبت شهوتها البارحة، بينما أنا متحفز، شبق لما لا تعلم. بيدي ورقة الدعوة،أقرأ عبارة»الشروط الموضوعية». أحسب حساب تعويضها حين تنتهي الواقعة سأعوضك، آه، يا زوجتي الغالية!!. وكمن يخطب على الملأ، بملء صوت جهوري أردد: لبيك،لا حول لي، فهي الشروط الموضوعية! 8 ولم أفلح معها في الليلة نفسها. كان بالي مشوشا، وقلبي مضطرب الخفقان، وأقوى منه يدي اليمنى أصابها الرِّعاش. اصفرّ وجهي. لعله ازرقَّ،أو احمرَّ، أو اخضرّ. فوجهي إذ أقابله بالمرآة لم يعطني أي لون، وما عكست لي هيّّ إلا الشروخ. رغم إخفاقي معها اقتربت مني زوجتي، قد لاحظت رجفاني:ما بك؟ إنه الرّعاش، بوتفتاف، كما تلاحظين، ومعناه أني خرفت، وسأفقدك، والأولاد، والعمل، وأردت أن أسترسل فخفت أن أنسى الأهم في اللحظة، فعجلت وأنا أحفر جرحا في ذقني بشفرة الحلاقة: المهم عندي الآن هو الاجتماع،الإج..ماع! 9 في الحافلة القادمة من طازا بلانكا، وستنقلني من بلدتي خوالنكا، هويت بجسدي المفكك على مقعدي، وأنا أحاول ضبط خفقاني ورعشي. من حسن حظي كان المقعد بجواري فارغا، وإلا للاحظ جاري كيف أنّي مذ صعدت لم أتوقف عن تحسس جيوبي، الداخلي منها خاصة. هنا حيث مكمن رحلتي،سرّي ودليلي الذي لم يطلع عليه رئيس المصلحة الحقير.هي دعوتي، الحمد لله، مستقرة في جيبي. أتحسسها وأعيد. أتلمسها كلحم امرأتي في قراننا الأول. كيَدِ زعيمي حين فُزتُ بمصافحتها،ومن يومها صرتُ العبدَ، وحزبي وزعيمي هما المعبود! 10 توقفت الحافلة في بلدة عمابلانكا، فصعد كفيفان،استقر الجلوس بهما بقربي. وفي بلدة نعناع لانكا صعد آخران، فوّاحان بالنعناع،وهذان جلسا خلفي. وفي بلدة هايهايكا،التحق ثلاثة يدفعون أمامهم طعارج وقراقب،وهم يتصايحون:هاكا! هاكَّوَا!هاكّا! وأخيرا، أظن على مبعدة بضع كلمترات من نهاية الرحلة، توقفت الرحلة فجأة،إذ قفزنا نحن المسافرين،قد اختلفت علينا مقاعدنا ووقف على رأس كل منا دركي: في الأمام، في الوسط، وإلى الخلف. وثلاثتهم نطقوا مرة واحدة: هكذا؛ كلكم هنا؛هكذا جميعكم ذاهبون إلى القاعة. سنرافقكم،نحن أيضا، إلى مدينة قاعا لانكا.