وجدت نفسي أسير في اتجاه الكلية دون قصد، لم أفكر في التوجه إلى مكان آخر...وبررت لنفسي حين اقتربت من بابها الرئيس زيارة المكتبة وجناح المجلات فيها. ثم قلت هذه فكرة أفضل من غيرها لأشغل نفسي في صباح يوم جعلته منذ سنوات صباحا حرا غير مقيد بعمل معين، بعد أن اتفقت مع زوجتي على أن نقتسم يوم الثلاثاء قسمين: الصباح لي والمساء لها، وألحقناه بيوم آخر حين رغبت أن يكون مساء السبت لي ولها وتكون هي التي تقترح ما ترغب فيه بينما تبقى الأيام الأخرى لي و للكلية... سألت نفسي هل هي العادة التي تحكمت في دفعي نحو الكلية أم عزوف نفسي عن الذهاب إلى أماكن تحضر الرغبة في زيارتها بالصدفة، أمكنة مثل السوق أو الجوطية أو مكتبات المدينة أو شاطئ البحر...أم نزوع النفس إلى معرفة ما تعرف حتى تتأكد حقا مما تعلمته من الحياة...وأن الحياة تكشف لها بأنها ميدان حرب: الغابة ساحة حرب، والكلية نفسها حلبة صراع...كل حي يحارب الموت بزرع الموت في طريق بقية الأحياء؛ النبات يقتل النبات...الحيوان يفترس الحيوان. الإنسان يقاوم الإنسان...الحرب نتيجتها واحدة بوسائل تختلف من حي إلى آخر... قلت وأنا أعبر ممرات الكلية المعتمة" حتى هذه العتمة هي أثر حرب ما، تجمد فيها دخان حرائق حرب تتأجل حينا وتستعر حينا وتكون سرية أغلب الأحيان، ولا أحد يعرف عدوه يقينا إلا بالصدفة، قبلها وبعدها حالة هدنة، لا أحد يقول للآخر أنا عدوك، أنا أيضا لا أسأل أحدا إن كان عدوا. أعرف أصدقاء زملاء أصدقاء، زملاء فقط، طلبة فقط. والآن أنا أرى وأسمع التقط بسمات وتحيات وكلمات: أرد عليها بأحسن منها:- كيف حالك؟ - صباح سعيد – صباح الخير أستاذ حماد... كيف حالك؟ -بخير- شكرا- لا بأس- صباح الخير..- الحمد لله... الحرب في ساحة الكلية لها شرارات...شرارة بوزن كلمة تقال وشائعة تتداول. أو شرارة بحجم كتاب صدر يغضب من يكره تفوق غيره وإشعاع عمله. الشرارة قد تكون قرارا ترقى به شخص وطعن فيه آخرون. قد تبدأ الحرب بين شخصين أو عدة أشخاص ولا تنتهي إلا باليأس من تحقيق الانتصار لذلك وسببه صرت أحرس على مجانية من لا شغل له إلا الحرب، أبلع الكلمات التي قد تتحول إلى شرارة ولا أبالي بمن يترقى ولا بغيره، ولا أخوض أي حرب لا يكون لها أثر يستجيب إلى حاجات عامة؛ حاجة لها صفة المصلحة العامة..وأقول لنفسي...ما يحدث بين الموظفين ثم بين الأساتذة..وبين هؤلاء وآخرين لا يعنيني، لا أعيرهم أذنا ولا أتحدث بلساني عنهم ولا نيابة عنهم...من يعرفني يعرف ذلك، لا أسأل أحدهم إلا سؤال المضطر، ولا أتجاذب الحديث في أمر من أمور الحرب، الباردة. أمام رفوف المجلات تناولت نسخة من مجلة العلوم الاجتماعية، والفلسفة.. ما أن تمعنت في غلافها حتى أدركت أنها عدد قديم...تجاوزته أعداد أخرى. أرجعته،..تناولت نسخة من مجلة أخرى...الأزمنة الروحية..وجدتها عددا قديما أيضا، ومع ذلك تصفحتها..لعلي أجد فيها مقالا يهمني فاتتني قراءته سابقا لكن سرعان ما خاب ظني..أرجعتها إلى مكانها..استدرت مغادرا القاعة. فوجدت الموظف المكلف بالقاعة يمد يده مصافحا، صافحته، سألته: "لم لم تعد المكتبة تقتني المجلات الجديدة!!" رد ببلادة لا" راه كلشي موجود"..تحركت وتحرك معي. صرت قريبا من الباب، بادرني بالكلام: -هل عرفت ما حدث!! التفت إليه وهممت بأن أقاطعه فسبقني إلى الكلام: مساء أمس كان الأستاذ عشار غادي يتقتل..واحد الجدرمي جا باش يقتلو- أخرج المسدس وصار إلى الشعبة بيصيح "فين هذاك(...) حاشاك- نقتل أبوه، أبوه فاجأني الخبر ولم أستغرب، فضلت أن أقول للموظف "عرفت" حتى لا يستمر في التشفي.. فلا مبرر لديه سوى أن يضع نفسه في مكان المخبر الذي يشهر بخصم عجز عن بلوغ مكانته وتابع الموظف: "الجدرمي راجل واحد الطالبة" قاطعته بصرامة: - شوف أنا ماشي شرطي ولا قاضي ولا عميد..وما عندي سوق، شوف شغلك إذا كان عندك شي شغل وتمثلت صورة عقاب ينقض على جثة ميت وهو ينهش ظهره. وغادرت المكان، تركت العقاب يبتلع لسانه، وتركت قدمي تتكفلان بالهروب فأسرعت الخطو، وانعطفت إلى ممر يفضي إلى مكتب الشعبة وقد وجدت مبررا لذلك، أن أتفقد صندوق المراسلات وتمنيت لحظتئذ ألا تكون اليد السارقة التي تترصد بريدي وتختلس ما يهدى إلى من كتب أو تتجسس على المراسلات وتنتشل دعوات المشاركة في ندوات بكليات عربية، وتمنيت أكثر أن أصادف صاحب اليد وهو متلبس بفتح الصندوق. ودفعت باب الشعبة، فوجئت بزميلي سعيد يتكلم، يهاتف شخصا ما. فتحت الصندوق، لم أعثر فيه إلا على دعوات لحضور افتتاح ندوات لا شأن لي بها. قال سعيد وهو يدس هاتفه في جيبه : كيف حال الأخ حماد! شحال هذي ما شفناك؟ كيف الصحة!! وبنفس السخرية أجبته:-وأنت! فين كنت غائب طول هذا الشهر؟؟ وأنت...فين كنت طوال هذا الوقت. وتصافحنا بحرارة ضاحكين ساخرين من حوارنا العبثي الذي تجاهل لقاءنا صباح الأمس، قال: أنت لم تأت أمس إلى المقهى...يظهر أنك وجدت الطلبة في انتظارك وتعالت ضحكة داخل قاعة اجتماعات الشعبة، سأل سعيد: شكون هذا؟؟ وخطا خطوات وفتح الباب، دخل، تبعته قال سعيد يخبرني هذا الأخ الفاضل الفاسي أستاذ المنطق حفظه الله !! وكان فاضل الفاسي جالسا قبالة الزميلة ليلى(الطويل) سألتهما من باب التأدب:"كلامكم حديث خصوص أو حديث عموم!!" ردت ليلى: تفضلا مد سعيد يده يصافح الزميلين وهو يرد على: لا أظن أن أستاذ المنطق وأستاذة علم الاجتماع بينهما كلام مما تعنيه. قال فاضل: نحن نتكلم في موضوع عام؟ ويهمكما كثيرا وليس فيه خصوص سأل سعيد ليلى: كيف حال علم الإجتماع معك وحال المنطق.. والتفت إلى جهة فاضل، ردت بنبرة متعالية: توسي طري باين تابعها فاضل: المنطق لا منطق له..يختاره طلبة لا يحبونه دلت كلماته عن عدم رضى وبسخرية ماكرة سأل فاضل ليلى. - هل تعرفين أن سعيد قد يصير وزيرا في حكومة التناوب! استرقت النظر إلى وجه سعيد وخشيت أن يفطن إلى خبث كلامه فقالت معرضة: علاش لا... واش باقي شي معنى...مابقات قيمة للعلم ولا للوزارة. رد سعيد: تماما حتى السوسيولوجيا رجعت سوقية.... واستعرت شرارة حرب، كادت أن تتحول إلى قذائف صاروخية تحت أرضية قلت كمن يقف بين الخطوط التي تستجمع أسلحتها ..السياسة تمسخ الإنسان في هذا الزمن. فقامت ليلى بسرعة تناولت محفظتها وتوجهت نحو الباب مكتفية بكلمة "سلام" واغلقت الباب خلفها ثم انفتح الباب وظهر جسد زاهي الألوان، عطره يسابق العين ونطق لسان فاضل: هاهي! هند المالقي..جاءتكم يا أصحاب العقد النفسية بالعلاج!! ودخلت هند، بقامتها الممشوقة، وجهها المشرق وشعرها الأشقر الذي ينزل فوق كتفيها. وشفتاها تقطران بترياق من عصير رمان يشفي الميت من موته قلت مخاطبا إياها : - " ألا ليت الشباب يعود" ردت ممازحة: - "وأنت مازلت شابا...صدقني..." وضحكت ضحكة طردت شيطان نفسي وأفاقت بصيرتي وتحاشيت النظر إليها نحو فاضل وسعيد الذي تقمص هيئة ثور متحفز وكأنه يريد أن ينقض أو يضرب الأرض بقدميه. شفت ليلى بحال اللي غاضبة. ياك لا بأس!! رد فاضل وهو ينظر إلى سعيد: علم الإجتماع كما تعرفي حال وأحوال مدت يدها إلي وظلت واقفة..مترددة..ثم جلست إلى جوار فاضل: حتى هذي فاسية..غابت شهرا وعادت فرنسية! تأملت وجه هند...التصقت عيني بين شفتيها... قلت: -بل هي أندلسية قبل أن تكون فاسية ورباطية. ضحكت هند: عندك الحق: ومن حسن الحظ أنا ماشي إيرانية بحال كيف ظن واحد العربي.. سألها فاضل: متى رجعت من فرنسا؟..هل أقول لك هنيئا مبروك! ردت: آه اليوم عاد يمكن لي نفرح بنفسي أو نرتاح بالمعقول. استدرك فاضل إذن ناقشت الأطروحة... التفتت إلينا واش بالصح شي أستاذ البارح جا شي جدرمي باش يقتلو...شكون هذا؟ أجاب سعيد مغتنما السؤال: علاش ما عرفت شكون..السي فاضل اللي كتشوفي، حمته الألطاف الإلهية. نظر إليه فاضل باندهاش وحدقت هند فيه غير مصدقة قلت بدوري: لا..فاضل هو اللي هجم على الجدرمي وأنا كنت معاه. ضحكت هند: فوريكولي..جو بارل سيريوزما..كي سي؟ فريما..كي سي؟ رد فاضل بجدية: أستاذ في شعبة أخرى... ونظر إلى ساعته وقام مخاطبا هندا: أنا خارج...الطلبة ينتظرونني قالت هند : أنا أيضا خارجة كملت حصتي هذا النهار...تبقوا على خير. قمت بدوري وتحرك سعيد: ما عندنا علاش نبقاو حتى احنا. اتجهت هند في إثر فاضل...افترسها سعيد بعينيه فصادف ظهرها ومؤخرتها. ترك لي البقية، ذراعيها البضتين..المدهونتين بزبد شهي. لم يذكرني إلا بجوع شاب يقبع داخل نفسي قتل الزمن فيه كل النزوات و الشهوات قال سعيد وهو يتباطأ: شوفت الناس المحظوظين!! واش بالصح كتبت رسالتها..أو كتبها لها بعضهم في فنادق خمسة نجوم.. عقبت : لا تكن سيء الظن..هي شابة جادة..أما محظوظة فهذا شيء مؤكد... ثم تحركنا صامتين...وفجأة توقف، ضرب رأسه بكفه: نسيت!! ادخل يده في جيب معطفه وناولني ورقة مطوية..فتحتها وقرأتها بنظرة عابرة... قال: الإجتماع بعد غد..الخميس مساء في مقر النقابة. ثم تحرك وعاد يواصل قولا بقول انقطع : و "هند هذه أراهنك أن تصبح عميدة أو وزيرة..." قلت: ما رأيك!! هل أترك عبد الله الأدهم يقرر إخصاء نفسه ندما سألني ونحن نعبر بهو الكلية.. من يكون هذا..هل هو فيلسوف قديم..أحمق مثل فوكو وألتوسير ونيتشة ربما..لكنه يبقى صاحب روح ما تزال تشقى بتاريخها، لقد كان مجبرا على حراسة مقصورات جواري الخليفة، وجواري الخليفة تمكن منه ونال هو من أجسادهن واتعبن جسده وروحه... هل هو؟؟ آه !لعله شخص تخيلته في رواية أو قصة كتبتها!! أجبت: هل تعرف أن صالح المرسي: حين اكتشف لؤم العامة وتواطأهم مع من يرون مصلحتهم في خدمة من يمسح حذاءه على ظهورهم ماذا قال؟ "أذن الحاقد الضعيف ولسانه يتحركان بين فم الشيطان و الجمر" يسمع كلمات ويصهرها اللسان ويرميها في بركة الماء فيحسبها الناس ذهبا فيرمون أنفسهم فيها ليغرقوا ويغرق من يكرهونه... قال سعيد: أنا لست من خيال...أنا أكره الأعيان وأبناء الأعيان..فهم يرون أنفسهم فقط ويتركون لنا الحق في أن نتخيل ونحلم ويرضون أن نمجدهم..قل لصاحبك صالح المرسي أن يقطع لسان الضعفاء و الماكرين. أجبته: في إمكانك أن تغلق أذنيك ولا تتحرك لسانك دون فائدة أو دون حاجة ضرورية واجبة- ذاك ما صنعه صالح المرسي!