ماذا أصابني كي أحشر تلك الطقطوقة الذائعة الصيت في الكتابة عنك يا عبد اللطيف؟ فأنا لست روائيا.. ولا قاصا.. ولا كاتبا... وأنا لست مغنيا... تائه في الحب والود ودّي...! خذ مني تقاسيم العود، أما الاغاني دعها تسري... فليلنا وراءه صبح.. تهت في المقاهي حتى الفجر.. ولم أتجرع نشوة الحلم.. هذه ابنتي »لينة« LINA شاهدة، زغرودة لا تنتهي. تسألني عن حلم بلدي... نشيد لا ينتهي! غني معي... يحيى شعبنا.. وأنت تحكي لي يا عبد اللطيف عن رحلاتك... جعلتني أفرغ اليوم ما في جعبتي من دون بناء وشموخ... أنت الذي كتبت ذات يوم من زنزانتك خطابا لرفاقك تشرح فيه شروط الفن والإبداع، قائلا: ... حتى في أقصى الظروف شراسة وقمعا والتي يصادرون فيها منك حتى قلما وورقة، يمكنك ان تكتب بأظافرك على الحائط، وحتى إذا خفت من مصادرتها يمكنك ان تقوم بجرح بسيط في جلدك وان تأخذ قطرات دم وتكتبها على جسدك أو على كارتون مهمل، أو على أي شيء غير مثير..«. كيف لا وأنت الذي عشقت الوطن من أقصاه الى أقصاه... فتحت لي صدرك لتحدثني طويلا عن خبايا لا تعد ولا تحصى! أنت الذي عايشت كل الاجيال، ومازلت شاهدا أمينا على كل أطوار «الحلم والغبار»!!! كيف لا وأنت الذي أطلعتني على إبداعك الرائع وهو يؤرخ لمحطات أساسية تكاد تغيب في مطاوي الذكريات... شرف عظيم لنا جميعا يا عبد اللطيف، أن نفتح اليوم بأمانة بعضا من جوانب مسيرتك الى عموم القراء ولكل الذين يحبونك. أما لوحاتك، فهي شيء آخر.. مهما كتبت عنها لن أفلح.. لكني أستطيع القول أنها ظلت ترافقني باستمرار طيلة صياغة هذه السطور.. كما انها تزين مكتبتي.. من أمجوط (حيث ضريح مولاي الطيب الدرقاوي)، أتيت الى مدينة فاس بعد حصولك على الشهادة الابتدائية بمدرسة تابودة، حاملا معك حقيبتك الدراسية... كانت قبلتك الاولى مدرسة بن عبد الله (بفاس) وبعد إلحاح الوالدة التحقت بجامعة القرويين... حيث تعلمت، على الحصير، حروف التاريخ وخرائط الجغرافية... من فاس الى الرباط مناضلا وقائدا طلابيا ثم مناضلا طبقيا.... يحلم بالثورة وينشد أناشيد الحرية وأحلام الشعوب... من فاس الى الرباط معتقلا سياسيا، ثم مختطفا مجهول المصير، ثم معتقلا سياسيا، ثم معتقلا في البيضاء. ثم قاطنا بالسجن المركزي بالقنيطرة لمدة فاقت 12 سنة... لا أنكر ان تلك الآثار حركت كل مفاعلي وجعلتني أفتح عيوني ذات صباح على هذا النص المتواضع والذي يسرني جدا أن أهديه لك يا عبد اللطيف متمنيا لك الشفاء العاجل لتعود أكثر حيوية ونشاط لعائلتك، لرفاقك وأصدقائك ولكل أحبائك الطيبين.. - -1 اقترب موعد لقائي بالصديق، ادريس اليزمي.. وحين كلمته أخبرني بوصول عبد اللطيف الدرقاوي وصابر عبد اللطيف الى باريس قصد العلاج. كنت ساعتها بمنزلي، حيث تركت الخبر يسري في أحاسيسي قليلا من الزمن.. لم أكتف بالدوران في غرفتي.. وكانت حولي زوجتي وبعيدا منا أطفالنا ومن دون أن يسألوني قلت لهم: عبد اللطيف الدرقاوي وصديق آخر اسمه صابر يوجدان هنا بباريس في أحد المستشفيات وسأذهب للقياهم... في صمت توجهت نحو مكتبتي.. تلفتت حولي ولم يكن إلا أن أخذت مفاتيح وأوراق السيارة.. تطلعت من النافذة الى شارع الجينيرال لوكلير.. كانت الشمس قد طلعت من غيوم شفيفة... أمسكت بحقيبتي الصغيرة مسرعا الى الباب، وبعدها ركبت سيارتي في اتجاه مستشفى لاصال بيتريير... كان المدخل مليئا بالسيارات لما اقتربت من المستشفى... إنها المرة الاولى التي أزور فيها هذه المدينة الطيبة... أما الساحة الكبيرة المحاذية للأجنحة، فكانت بيضاء من كثرة الاطباء والممرضين والممرضات والاعوان... وعلى جنبات الأرصفة بشر هائل يمشي بسرعة في كل الاتجاهات. انطلقت كالغريب أبحث عن الجناح الذي حط الرحال به عبد اللطيف الدرقاوي والصديق صابر... اقتربت من جناح، لاروش دفوكو،... سألت ممرضة كانت عند باب مكتب الاستقبالات، فقادتني الى غرف الدرقاوي والابتسامة تعلو على وجهها المكتنز... لم يصدق وهو يراني أعانقه... رغم المرض والعناء.. كان كعادته ممتلئا حياة وأملا... في كل مكان بغرفته، كانت الجرائد والكتب... أقلام الرصاص، فرشاة، أوراش الرسم، مذياع صغير... وبالقرب من النافذة المطلة على الساحة الخضراء، كانت لوحة رائعة تأخذ مكانها بين كل ما يؤثث غرفته. أما اللوحة، فحكى لي عنها كثيرا.. إنها هدية من أحد رفاقه واسمه حمزة أبو حنيفة... البوزيدي (وهو من قدماء حركة »عمال العرب«). كان لابد لي أن أتمم المشوار لزيارة الصديق صابر، لكن عبد اللطيف أصر على مرافقتي... بالمدخل الرئيسي للجناح المخصص لأمراض القلب والشرايين، وجدنا صابر وزوجته وابنته الجميلة في جلسة عائلية. بعد التحية، حكى لنا عن العملية الجراحية التي أجريت له والتي كللت بالنجاح... فهمت وقتها انه يستعد لمغادرة المستشفى بعد أيام قليلة للرجوع الى الدارالبيضاء لاستكمال العلاج... أما الدرقاوي فعلمت منه ان مشواره طويل... حتى يتمكن من إجراء العديد من الفحوصات والتحاليل وأن حالته الصحية تتطلب مرافقة طبية مستمرة وعناية فائقة... قلت مع نفسي: اه، كم كان ولازال باهظ ثمن الانتماء إليك يا وطني!!! آلام موشومة حتى العظم... جراح لم تندمل.. حروف منقوشة على جدران السجون والمعتقلات السرية والعلنية... دموع مازالت تسكن بيوت الشهداء وغرف المختطفين... في البوادي كما في المدن.. في المزارع كما في المصانع.. في المدارس كما في الجامعات... كان الأمل يكبر كل يوم.. لكن القمع شرد الآلاف.. حصد مئات المعتقلين.. رمى بالبعض منهم في غياب السجون... اختطف العشرات... وأودى بحياة العديد من المناضلين ومن أبناء الشعب الابرياء... شهداء ومعطوبين... وأنا أسترجع كل هذه الذكريات الحزينة... تذكرت قصيدة لتوفيق زياد اشتهر بها منذ سنة 1959: »يا شعبي يا عود الند يا أغلى من روحي عندي إنا باقون على العهد...«. > هامش 1- العنوان من اختيار الكاتب المغربي عبد القادر الشاوي الذي كان يعتزم نشر هذه المحاولة ضمن منشورات الموجة سنة 2005/2004. لكن المرض الذي عانى منه ذ.عبد القادر حال دون ذلك. 2 كتبنا هذا المشروع في فرنسا أثناء إقامتنا هناك... يتبع