هكذا قدم لنا نفسه... "أحمد عبد الله البشير" ضابط مسؤول بجبهة البوليساريو أتى إلى المغرب للقيام بمهمة خاصة بتكليف من طرف قادته وأنجزها دون أن تشعر به المخابرات المغربية.. تسلل إلى المغرب من الشمال بجواز سفر إسباني في عز حالة الاستنفار وأحداث الجامعات، وعبر البلاد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، اتصل بمن يهمهم أمرهم في الرباطوالدارالبيضاءوأكاديروكلميموالعيونوالسمارة، وبعد إنجاز مهمته السرية عبر الحدود متوجها من حيث أتى، لكن رغم كل هذا فرحلته هاته مكنته من إعادة النظر في جملة من القضايا بعد أن عاين ما تحقق في الأقاليم الصحراوية. "" بداية الرحلة سارت الباخرة متجهة نحو طنجة، صدري مملوء خوفا وكل التوقعات والهواجس ترتطم بذاكرتي، ولما أعلن طاقم الباخرة الانطلاق قائلا: تفصلنا عن طنجة ساعتان من الخزيرات، ارتعش جسمي كله من أخمص القدمين إلى أعلى شعرة من رأسي، حيث شعرت بأنني سأكون بين أحضان أمة قاتلتها سنوات عديدة. بينما أنا جالس يراودني "التخمام" والندم أحيانا، فإذا برجل شرطة يخاطبني: هل طبعت تأشيرة الدخول؟ لا.. اذهب إلى تلك النافذة.. تقدمت نحو النافذة فإذا بضابط متوسط الرتبة، عرفت أنه من شرطة الحدود. - تفضل، جواز سفرك وبطاقتك. مددت له جواز السفر الإسباني. تأمله مليا فرد قائلا: أنت صحراوي؟ لأن الجواز مكتوب عليه في مكان الازدياد: العيون – الصحراء. - أنا إسباني.. - هات البطاقة الوطنية.. شعرت أن الباخرة سوف تكون أول جلسة محاكمة لي، فتمالكت أعصابي.. وقلت: ليس لدي بطاقة. - رَيَّحْ في الصالة حتى أناديك.. آخذا معه الجواز! جبت الباخرة أتجول لكي أتأكد من جنسية طاقمها، فإذا كانت إسبانية سأقرر عدم الهبوط والرجوع إلى نقطة الانطلاقة حفاظا على سلامتي، لأن الأمور بدأت تتعقد. سارت السفينة تقترب من شاطئ الوصول والركاب جميعهم أنهوا ترتيبات الدخول إلا أنا؟ بينما أنا غارق في التفكير، فإذا برجل خلفي ينادي عليّ أصحراوي، أصحراوي.. لم أعره اهتماما لكي يتأكد أنني لست صحراويا، فضربني على كتفي الأيمن ضربة خفيفة قائلا: لماذا لم تلتفت إليّ وأنا أناديك؟ - كيف تنادي وأنا لم أسمع اسمي؟ - أنت صحراوي مهما فعلت.. - أنا عربي الأصل ومن أصول صحراوية.. - وكيف حصلت على الجنسية الإسبانية؟ بدا لي من خلال تلك الدردشة التي دارت بيننا أن الشرطي من جهة الشمال، وهم لا يعرفون الكثير عن الساكنة الصحراوية بالجنوب، فقررت أن أختصر الأمر بأية طريقة كانت، فقلت له: أبي كان سابقا من ساكنة الصحراء لما كانت حينها مستعمرة إسبانية، لهذا كتبوا لنا جميعا في الأوراق كذا وكذا.. - هل تنوي زيارة أحد بالمغرب؟ - لقد تعرفت على فتاة أعجبتني كثيرا في الانترنيت وقررت زيارتها.. فلاحظت أنه بدأ يصغي لكلامي قليلا، فعرضت عليه قهوة. - لم يعد هناك متسع للوقت، لكن أعطيني ثمنها.. دفعت له ثمن القهوة وطلبت منه أن يذهب وحده لإحضار جواز سفري خوفا من مقابلة ضابط الشرطة مرة ثانية، تلافيا لأي توقع. في انتظار عودة الشرطي، إذا برجل إسباني يسألني، هل أنت إسباني.. لقد سألوني عنك كثيرا ولم أفهم لماذا؟ قدم الشرطي وهو لا يحمل معه الجواز وقال: تفضل نريد إتمام معلومات فقط.. تقدمنا نحو نافذة المكتب فأمطروني بأسئلة كثيرة، فهمت بعدها أن الشرطي الآخر يريد كذلك قهوة.. وصلنا طنجة، أتممت إجراءات الجمارك لأن بحوزتي سيارة، لكن لا يوجد بها أي شيء، وهذا ما يثير الشكوك. دخلت بلدا لم تطأه قدماي من قبل، بلد قاتلته وقاتلني، أول فكرة خطرت ببالي ماذا سيكون لو قابلت أحد الأسرى الذين كانوا محجزين لدينا فعرفني؟ أو أحد الذين عادوا إلى المغرب، بالرغم من أنه خلال السنوات الأخيرة أصبحت الحركة عادية من وإلى؟ حولت مبلغا من عملة اليورو إلى الدرهم المغربي الذي يحمل صورة ملك المغرب. اشتريت رقما هاتفيا وأجريت أول مكالمة لي مع أول عميل، لأخبر رئيسي أنني دخلت بجملة من الخسارات لكي يفهم أن الدخول لم يكن سهلا. وكان برنامجي عبور 5 محطات أساسية لا تملك أي منها معلومات عن الأخرى (الرباط – الدارالبيضاء – كلميم – العيون – السمارة). تجولت بالسيارة في مدينة طنجة، فوجدتها عكس ما كنت أتصوره تماما، مدينة الأعلام التي ترفرف في كل شارع، فحسبت أن المدينة تحضر لمناسبة أو لاحتفال كبير، وكنت أعلم أن مدينة طنجة من المدن المغربية السياحية. أخذت استراحة قصيرة تناولت خلالها عصيرا وكأس شاي يختلف تماما عن الشاي الصحراوي، وكان الخادم الذي يقدم لي الخدمات أبيض الهيأة أكثر كلامه نعم يا سيدي وهي من العبارات المنبوذة عندنا نحن الصحراويين! أخذت الطريق السريع إلى الرباط مرورا بالعرائش التي مكث فيها ليلة واحدة في فندق جد متواضع لكنه لم يكن عديم الخدمات، وعند العاشرة صباحا وصلت إلى الرباط، فاتصلت بمن يعنيه أمري أي المحطة الأولى عن طريق نقطة هاتفية في الشارع فتبادلت معه التحية وكانت "إياك الخير" (3 مرات) هي كلمة السر بيننا، فتعارفنا. تركنا السيارة بأحد المخافر المحروسة parking لكي نتفادى الشكوك حول مكان إقامة صاحبي، وقضيت هناك يومين كاملين، أخذ ما أخذه مني وأخذت ما أخذت منه، وكنت معجبا تماما به لنضجه السياسي والثقافي والتاريخي وبعد نظره في التحليل والإبداع، لم يكن يعلم أبدا أنه مازال في برنامجي 4 محطات بعده، فاقترح علي قبل مغادرة الرباط زيارتها لأتعرف عليها، ففعلت ذلك، وعند دخولنا قلب المدينة حيث شارع محمد الخامس، الذي ينتهي بفندق "ترمينوس" الذي استنطق به أغلبية العائدين، فمازحني صاحبي، قائلا: كيف ترى نفسك إذا أبلغتهم أنك عائد وأدخلوك هذا الفندق وأعلنوا أنك عائد إلى أرض الوطن؟.. فقاطعته قائلا: أين يقيم "العائدون"؟.. لأن مزاحه لم يعجبني ولا أريد الاستمرار في لعبة السؤال والجواب، فرد علي قائلا: هم ليسوا بالعائدين، هم متراجعين، بعضهم مثل حكيم وآخرين معه يعيشون في حي أكدال، ثم بأية مناسبة عودة هؤلاء إلى المغرب، لقد رجعوا من منتصف الطريق؟ فقلت له: يختلف كل واحد منهم عن الآخر، والحسن الثاني كان ذكيا جدا محنكا بالعبر والتجارب وخبيرا في السياسة ولم يكن مخطئا لما قال حينها إن الصحراويين مرتزقة وختمها فاتحا الباب على مصراعيه إن الوطن "غفور رحيم"، عبارة لم ترد إلا في الخطاب الإسلامي، مع أن حركات التحرر مليئة بالعثرات والتوترات وأي إنسان التحق بها عن طريق نية غير الجهاد، يمكن أن يصير كل شيء محتملا في حياته، وأغلب هؤلاء من الصنف الأخير، وكل سياسي اعتنق السياسة من الباب الضيق فإن وطنيته تكمن في مصلحته الخاصة وليس في وطنه.. ثم أردف قائلا: حتى في الأقاليم الصحراوية بدا لنا واضحا جدا أن هناك انشقاقا كبيرا وخطيرا في جبهة البوليساريو، والمغرب أصبح يراهن على ذلك وعدد العائدين بلغ حوالي 8000 عائد منهم، 30 بالمائة من الأطر العليا والمتوسطة عادت إلى المغرب وجبهة البوليساريو لم تهتم بمعالجة هذه الظاهرة للحد من هذه الانطلاقة المعاكسة، فنحن قللنا من إعطائها أهمية أمام الناس وفي الإعلام، ولكن هذا مرض سرطاني، عليك إبلاغ الأخوة هناك ب "شرك" (وهو يعني بهذه الكلمة أهل المخيمات الشرقية)، لتوقيف هذه الظاهرة بالوسيلة والمال أو... كذا... كذا... فحاولت إقناع صاحبي بإعطائه المثال بالمرتدين عن الإسلام زمن الرسالة الإسلامية، فلم يقتنع بالمقارنة وأرجع ذلك إلى ضعف ما. ومن ضمن التوجيهات المعطاة لي مسبقا أن صاحب المحطة الأولى، أي صاحب الرباط، شخص مهم جدا وفعال، ويعني ذلك أنه من ضمن أعضاء الأمانة الوطنية الصحراوية السريين الموجودين بالضفة الأخرى، فقررت أن أتعامل معه وأن أعطيه جميع ما يريد. فقلت: اسأل عما تشاء..، فسألني عن أسباب عودة عمر الحضرمي، وطبعا سيسأل عنهم حسب أهمية كل واحد منهم وهو يعلم أنني مقرب جدا من الإدارة وأماكن الإطلاع. فقلت له: عمر العظمي أو عمر الحضرامي، هذا شخص يطول الكلام عنه وجبهة البوليساريو اعتبرته ميتا، هو من مؤسسي الحركة سنة 1972 وكان له خلاف حاد جدا مع زعيم الحركة الولي مصطفى السيد آنذاك، فعمر الحضرامي ينطلق من فكرة أنه من قبيلة كبيرة حجما ومن أكثر القبائل في الصحراء عددا، مثقف وأولى بزعامة الحركة من الولي مصطفى الذي ينحدر من قبيلة صغيرة جدا لا تساوي 1 على 100 (1 في المائة) من عائلة عمر الحضرمي. والولي مصطفى السيد ظل يشك في عمر الحضرامي ولا يثق به كثيرا، وكذلك الأمر بالنسبة لشقيق الولي، البشير مصطفى الذي شغل منصب الرجل الثاني في الحركة بعد رحيل شقيقه، إلى أن جُمِدّت عضويته في الهيئة العليا للحركة سنة 1980 حتى مؤتمر الحركة في سنة 1982، حيث عَيَّنه في الهيئة الثانية (المكتب السياسي) وكلّفه بالأمن، وظل يناضل في جهاز الأمن وضمن الهيئة الثانية من أجل الإطاحة بالرجل الثاني في الحركة لأنه كان مسيطرا على جميع الأمور ومحاصرا لكل نفوذ الهيئة الثانية وعلى رأسها عمر العظمي إلى أن أتت أحداث 1988 التي ترأسها عمر الحضرامي ضد نفوذ الرجل الثاني، البشير مصطفى السيد، ثم تغلب نفوذ هذا الأخير بالاستعانة بالجيش على عمر الحضرامي وأصحابه ورموه سجينا في معتقل كان بالأمس القريب مسؤولا عنه، فكان ضغط عائلة الحضرامي كبيرا جدا على الحركة مما اضطرها للإفراج عنه وتعيينه ممثلا لها في أمريكا، ومن هناك عاد عمر الخضرامي إلى المغرب، وكان حقيقة خسارة كبيرة للحركة حيث قد أثر ذلك على مسيرتها، فكانت عودته فاتحة الأبواب لآخرين كثيرين. ثم تابعت رفقة صاحبي.. بعد عودة عمر الحضرامي للمغرب بيوم واحد قرر رئيس الدولة أو الحركة، محمد عبد العزيز، محاصرة جميع أركان الجيش الصحراوي والإطارات العليا بالحركة بمنطقة "امهيريز"، أي قطاع الناحية العسكرية الرابعة، وكنت شخصيا من ضمن الذين كتبوا المحضر، حيث قال رئيس الدولة بالحرف الواحد: نحن في الحركة منذ سنة 1972 لم ينل عمر الحضرامي ثقتنا وكنا نشك به كثيرا وكلما أسندنا له مهمة عسكرية يقول لنا أنتم تريدون تصفيتي عسكريا، ثم إنه القائد الوحيد الذي لم يشتم ملك المغرب كتابيا ولا لفظيا، وفراره إلى العدو لم يكن مفاجأة بالنسبة لنا... فقال صاحبي: كيف يقول هذا رئيس الحركة وهو يعلم بما في نية هذا الرجل ويكلفه بالأمن الصحراوي وبينهم الذين ذاقوا التعذيب على يده، فهذا غير طبيعي... فقلت له زدْ على ذلك أنه حدثني مسؤول سام جدا في الهيئة العليا سابقا في الحركة أنهم اقترحوا على الولي مصطفى سيد سنة 1974 تصفية عمر الحضرامي فامتنع الولي عن ذلك. وبهذا يكون عمر الحضرامي، إما قد أنهى مهمته في الحركة وعاد، وإما أن يكون قد انتقم منهم ورجع إلى المغرب في ظرف يحتاج فيه هذا البلد إلى مثله. وعن المدعو إبراهيم حكيم فهو عدو لعمر الحضرامي ولم يسبق لهما أن تصافحا باليد طيلة تاريخهما في الحركة إلا في المغرب ولم يلتحق بالحركة إلا في ختام سنة 1975، وكان سفيرا للدولة في الجزائر أيام الأحداث التي اجتاحتها ونزع منه محمد بوضياف، رئيس المجلس الأعلى للدولة الجزائرية، صفة سفير وعوضها بمندوب، وكان من ضمن الوفد الذي التقى العربي بلخير، وزير الداخلية في عهد الشاذلي بن جديد، الذي اقترح عليهم أن يكونوا مغاربة من الدرجة الثانية، ثم قرر وزير الدفاع الجزائري وعضو المجلس الأعلى للدولة الجزائرية، خالد نزار إجبار الحركة على التفاوض مع المغرب من أجل حل المشكل لأن الجزائر غارقة في همومها، فزاد ذلك من تخويف إبراهيم حكيم وترهيبه، فاصطادته المخابرات المغربية عن طريق مقربين منه في موريتانيا في نفس الوقت الذي علم فيه أن قيادة الحركة قد غيرته من سفير بالجزائر إلى مدير بوزارة الإعلام بالرابوني، المكان الذي يكره حكيم العمل به، وهو رجل غير ناضج سياسيا يحب حياة البذخ والترف.. وقد شاهدتُ التلفزة المغربية وهي تظهر صورا له يقبل يد الحسن الثاني، الذي قال له عيناك سفيرا لجلالتنا لخبرتك الدبلوماسية ووطنيتك.. فتساءلنا جميعا ماذا يعني الملك ب "وطنيتك"، في الوقت الذي حمل فيه الرجل 3 جنسيات (موريتانيا – صحراويا – مغربيا) أم أن ذلك إشارة إلى جنسيته الأخيرة؟ وبينما أُحَدِّث صاحبي ونحن نجوب شوارع الرباط، كلما مررنا على مكان أو بناية يستحق التعرف، يقاطعني قائلا: هذا كذا... وماذا عن أيوب لحبيب؟ قلت له أيوب لحبيب كان رجلا يقود جهة عسكرية بالجيش الصحراوي، وقد ساعده الحظ على إحراز الكثير من الانتصارات بفضل رجال تلك الناحية، نظره السباسي ضعيف، صار له خلاف كبير مع محمد عبد العزيز فعزلوه عن الجيش ولم يكن راض بقرار العزل، وقد حضرت عددا من محاضراته في مركز "بوكرفة" التابع للناحية الثالثة التي كان يقودها، وكان يتهم الأخ محمد عبد العزيز بالخيانة ويقول إن والده ضابط في الجيش الملكي المغربي .. وسبق أن رفض الذهاب مع الوفد الذي أرسله الحسن الثاني سنة 1996 بحجة وجود خائن ضمن تشكيلة الوفد، وكل الناس استبعدوا تماما عودته إلى المغرب.. أما الباقون، لم يعد أي واحد منهم إلى المغرب إلا بعد عزله تماما من مهامه داخل الحركة، كل هؤلاء وغيرهم أعطوا للحسن الثاني الحق في الكلمة البليغة حين نعتهم بالمرتزقة، فأين ترك هؤلاء الأهداف التي انطلقوا من أجلها؟ فلاحظت على ملامح صاحبي التأثر والندم على هؤلاء وغيرهم، فودعته تاركا مدينة الرباط التي تغص بسيارات مرسيدس 240 متجها نحو المحطة الثانية. الرحلة إلى الدارالبيضاء تابعت طريقي نحو مدينة الدارالبيضاء وانشغالي بإتمام رحلتي وعودتي من حيث أتيت بسلامة. بينما أنا على هذا الحال، رن هاتفي لأول مرة منذ أن اشتريته، فعرفت أنه رئيسي، تبادلنا السلام وأخبرته أن بداية الطريق كانت جيدة جدا، ولم يطلني أي عطل، وذلك لكي يفهم أن المحطة الأولى أنجزت بنجاح تام، فقال لي إن الميكانيكي الموجود بالدارالبيضاء في عطلة وورشته مقفلة، لكن يمكن أن أبحث عن ورشة أخرى في الطريق إذا ما تعطلت السيارة، فعرفت أن تغييرا ما طرأ على البرنامج الأصلي ولم يكن ميسرا لقاء صاحب المحطة الثانية لظروف ما، ثم قال :" إذ اقتربت من أكادير ابعث لي برقية (Message)"، وعند الكيلومتر 75 من المدينة أرسلت برقية كما تم الاتفاق عليه، فرد علي المسؤول قائلا: "عليك التوقف عند أول محطة لتوزيع البنزين، والشخص الذي يحمل ساعته حول معصمه الأيمن هو الميكانيكي الذي كان من المفروض الالتقاء به في الدارالبيضاء". بعد مضي أقل من 10 دقائق، ظهر أمامي شاب بادرني بالتحية المعروفة عندنا نحن الصحراويين وبنفس الوصف السابق، تبادلنا التحية باحترام، وعرفت منه أنه الشخص الذي كان في انتظاري بالدارالبيضاء، وعلمت كذلك أنه لم يكن باستطاعته ملاقاتي هناك نظرا لإجراءات أمنية خصتنا معا، لكون المدينة شهدت أحداثا دعت إلى تشديد الإجراءات الأمنية بها. قلت من اللازم أن نتجنب الفنادق لأنها تطلب المعلومات الخاصة بالزبائن وتحتفظ بها من أجل تسليمها لمصالح الأمن، لذلك أخذني إلى شقة صديق له سافر خلال عطلة نهاية الأسبوع. فأبلغته ما على الطالب الصحراوي عمله وما هو المطلوب منه وكيف وجب أن تكون مشاركة الطلبة الصحراويين في المسيرة لكونهم الذخيرة الحية للأمة ونواة المستقبل، وهو أهل لهذه القضية في المستقبل القريب، وكيف يمكن توسيع المقاومة في هذه المرحلة اللاسلم واللاحرب والعراقيل والعثرات التي تعترض طريقهم. وجدت شابا يجري كره المغرب في دمه، وقد ذاق مختلف أساليب التعذيب، وفي ذات الوقت يشعر بعدم الرضا على جبهة البوليساريو لكونها لم تهتم بهم رغم كثرة معاناتهم، موضحا في كلامه أنهم ضحية لدى الجانبين وكأن كل ما يقومون به يذهب أدراج الرياح. وبينما أنا أجاذبه أطراف الكلام محاولا التقليل من همومه وشارحا له بعض والتجارب محاولا إقناعه بأن عليه ألا ينتظر مكافأة من أي كان على اعتبار أن ما يقوم به واجب وطني يحمله كل منا على عاتقه.. لحظتئذ رن هاتفه فأشار إلي بالسكوت، فإذا به يدخل في حديث مع شخص بالدارجة المغربية، ويبدو أن محدثه شخص مسؤول، إذ تحاورا حول السياسة والانتخابات التشريعية المغربية. بدأت أستغرب حديث هذا الشاب الذي كنت أحسبه مناضلا صحراويا، وهو في نفس الوقت مندمج في الحياة السياسية المغربية، فراودني الشك والحذر منه. وما أن أنهى حديثه حتى التفت إليه مبتسما، فقال: "من حقك التساؤل عن هذه الازدواجية، ولكننا مجبرون على الاندماج في المجتمع لإبعاد الشكوك والتهم عنا". وقد فهمت منه ونحن نستعد للنوم أن النشاط الطلابي الصحراوي أصبح محدودا جدا، وأنه يائس تماما من أي حل في الوقت القريب لهذه القضية التي أصبحت عميدة النزاعات في إفريقيا وأن كل الذين خلقوها رحلوا عن الوجود (الوالي مصطفى السيد، الحسن الثاني، بومدين، ولد دادة) وربما رحل معهم الحل! ودعت صاحبي وأنا أحمل سؤالا لم أجد في نفسي الجرأة لطرحه عليه، وذلك لوجود ملصقات جدرانية على ممرات الشقة الداخلية لصور الملك محمد السادس والحسن الثاني، هل تعليقها على الجدران هو كذلك بغرض إبعاد الشك والتهم عنهم أم أنه تعبير عن البيعة في وقت يقترب فيه عيد العرش؟ الله وحده يعلم ما في القلوب؟ الرحلة إلى الجنوب وصلت مدينة كلميم التي تعتبر باب الصحراء، وساكنة الإقليم، بمثابة خط الصفر، إذ كلما انحدرنا نحو الجنوب وضعنا أقدامنا على نقطة تماس مع الصحراويين، وكلما توجهنا إلى الشمال ابتعدنا عن تلك النقطة. ونظرا لتعارف الصحراويين فيما بينهم اضطررت لعدم ذكر من التقيتهم حفاظا على عدم كشف أي مسلك يؤدي إليهم. فساكنة إقليمكلميم صحراويو الأصل منذ حصول المغرب على الاستقلال في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وهم الآن محل استفهام، بالرغم من وجود الإقليم خارج خريطة النزاع، فما مصيرهم إذا استفادت الأقاليم الصحراوية من أي حل متفاوض عليه؟ دخلت بيوتا عدة على اعتبار أنني قادم من الأقاليم الجنوبية فحاولت التقليل من الكلام قدر الإمكان، وخلال إحدى المرات، ضمن إحدى الجلسات في بيت من تلك البيوت، سأل عني شيخ يتجاوز سنه الثمانين بعد أن بلغ إلى علمه وصولي للمدينة، وعلمت أنه كان في جيش التحرير، ومما قال لي، إنه من أهل "الشرك"(يعني الشرق بالنطق الحساني)، ودار حديث طويل بيننا، وقد نبهني هذا الحديث إلى أن أغلب البيوت التي دخلتها كانت جدرانها مزينة بصور الملك، كما لاحظت أن الساكنة التي يفوق عمرها الخمسين تكره جبهة البوليساريو، وقد فهمت أن ذلك كان نتيجة تاريخ قبلي وصراع يطول الكلام عنه، أما من كان عمره 40 سنة فما تحت فيؤمن بنظام آخر في الصحراء غير جبهة البوليساريو ويعتبرون أنفسهم نواة الانتفاضة.. وصلت مدينة العيون التي تعتبر عاصمة الأقاليم الجنوبية من منظور المغرب وعاصمة (الصحراء الغربية) في مفهوم البوليساريو، ففي كلتي الحالتين فهي عاصمة. تأملتها كثيرا مقارنا تطورها الهائل، بين الحالة التي تركتها عليها في سنة 1975 والوضع الذي هي عليه الآن. فلا مجال للمقارنة تماما، حاولت التعرف على الشارع الذي كان يؤدي إلى المنزل الذي ترعرعت فيه زمن الاحتلال الإسباني ولم أفلح بسبب التغييرات الكثيرة التي طرأت على الحي مما أثار انتباه شرطي المرور الذي سألني: هل أنت غريب عن المنطقة؟ فأجبته بأنني إسباني أعبر المغرب متوجها إلى موريتانيا (ترانزيت)، وأبحث عن فندق قصد الاستراحة لبعض الوقت.. سؤال واحد حيرني وأنا أتجول في أطراف المدينة: هل المغرب فكر يوما من الأيام، في إمكانية مغادرة هذه المدينة بعد أن صرف عليها أموالا طائلة، أم أن الأمر مرتبط بالسياسة حيث كل شيء ممكن؟ في مدينة العيون دخلت بيوتا قليلة، عملا بتوجيهات من كان يعنيه أمري ولاحظت تغييرا مقارنة بما لاحظته بمدينة كلميم وضاحيتها. سمعت أطفالا في أحد الشوارع يرددون بصوت مرتفع "لا بديل لا بديل عن تقرير المصير"، فقلت في نفسي إنه جبن من طرف الكبار، الذين لقنوا هؤلاء الصغار ما يدور في قلوب الكبار، كما أن كل من جالستهم، كانوا يرددون دائما عبارة "اللهم اجمع الشمل"، ولم أفهم تصورهم لكيفية جمع هذا الشمل، وعاينت في بعض الشوارع شعارات موالية لجبهة البوليساريو مكتوبة على بعض الجدران. وما أثارني حقا هو أن أغلب البنات الصحراويات عانسات، وقد قيل لي إنهن يرفضن الزواج من غير الصحراويين، علما أن نساء الصحراء يفقن رجالها عددا. ومهما كان الأمر، فإن الصراع الموجود عميق، وقد اتخذت قضية الصحراء مصدر رزق وانتفاع، كل حسب موقعه وتموقعه فيها، والأكيد أن هناك من يتظاهرون بموالاتهم للنظام المغربي ويعتبرون أن مصالحهم مرتبطة بتأبيد النزاع، وتدعم كل من يسعى لاستمراره بطرق سرية حتى أصبحت هذه القضية مصدر استرزاق للجميع (ضباط، مسؤولون بالقطاع المدني..) بل وحتى جهات من الجوار الإقليمي للمغرب أصبحت فاعلة في هذه اللعبة. لكل هذه الأسباب قررت أن أكتب كصحراوي بعيدا عن الميول السياسي أو المسار المهني كإطار عسكري عاش المشكل منذ بدايته، عبر سنوات قضيتها في الطرف الآخر، وكلي اشتياق لحل بعد العناء الطويل جدا، والذي مازال مجهول العاقبة ونحن جميعا ندفع ثمن ذلك. وجدت أحد المقربين مني يداعب ابنه الصغير الذي لا يتجاوز عمره ثلاث سنوات وهو نفس السن الذي تركت فيه الأب سنة 1975، حاولت تمالك أعصابي لأن الأب كانت عيناه تجريان دموعا... تركت سيارتي بمدينة العيون متوجها إلى محطتي الأخيرة، مدينة السمارة، على متن سيارة أجرة حملت ركابا جميعهم صحراويين، ومن حسن حظي لم يكن ضمنهم أحد من العائدين، كانوا يتعارفون فيما بينهم إلا أنا فقد كنت غريبا عنهم. سألني أحدهم، فقلت له إنني من منطقة طانطان من عائلة كذا وقبيلة كذا إلى أن تأكدوا أنني صحراوي، فافتتح رجل يجلس قرب السائق دردشة حول الوضع بالمنطقة، فقال أحد الركاب: "لو أن المغرب تموقف مع الصحراويين مثل موقف الجزائر سنة 1975، لما كان المشكل قائما حاليا..."، أثرت فِيٌ هذه الفكرة كثيرا ولازلت حتى اليوم متأثرا بها، وبالرغم من سيادة التحفظ حاولت التقرب من الرجل المتحدث مستدرجا إياه نحو الحلول الممكنة حاليا والمنتظرة، وكانت آنذاك الجولة الأولى للمفاوضات في الأفق القريب، وقد فهمت من كلامه أن الحرب تركت جرحا عميقا في نفس الساكنة هنا وهناك، وأظهرت أن هناك أناسا "متمصلحون" (يقال لهم أغنياء الحرب) ولازالوا يجتهدون في خلط الحابل بالنابل. وبعد صمت أضاف المتكلم قائلا: "كنا ننتظر من الملك محمد السادس أن يقوم بنفس التجديد الذي قام به في المغرب وأن يأتي شباب صحراوي متجدد يتطلع للغد بعيدا عن الذين شاخوا وشاخت أفكارهم "الاسترزاقية"..."، مشيرا إلى هؤلاء بمسامير جحا إدريس البصري. نال هذا الحديث إعجابي وتمنيت أن تطول المسافة كي أتعرف على المتكلم.. طلبت منه رقم هاتفه، وقد عرفت ممن كان يعنيه أمري بمدينة السمارة أن المتحدث عضو في المجلس الاستشاري الصحراوي. وجدت المدينة هادئة بالرغم من قولهم إنها قلعة الانتفاضة والمقاومة. وبينما نحن بمنزل الشخص الذي قصدته، نتبادل أطراف الحديث ونحلل المعطيات، سمعنا أحدا يطرق الباب، فأشار إلي صديقي بالتزام الصمت والاختفاء في غرف مجاورة عن التي كنا نجلس فيها، انتابني خوف شديد آنذاك، وكان الطارق أحد العائدين إلى المغرب وظل 3 ساعات صحبة رفيقي، وكانت المرة الأولى التي أشعر فيها بإحراج كبير منذ بدأت مهمتي انطلاقا من أقصى شمال المغرب. أبلغني رفيقي، بعد ذهاب الزائر، بتذمره الشديد وتأثره العميق، بأن العائلات والأفراد الذين يوليهم المغرب اهتماما وعناية هم نفس الأفراد والعائلات الذين تعطيهم البوليساريو العناية والاهتمام، أما الغالبية الصامدة في وجه الحرمان فتظل هي الضحية هنا وهناك. كانت في نيتي الإقامة بمدينة السمارة يوما كاملا لولا أنني تلقيت مكالمة هاتفية جاء فيها: "رحم الله من زار وخفف"، فأدركت حينها أن خطرا ما يحف بي أو بالمنطقة، فاضطررت التوجه إلى الحدود لمغادرة المغرب. بمجرد أن عبرت الحدود أدركت حق الإدراك أننا جميعا، عرب ومسلمون، نتكلم نفس اللغة ونعتنق نفس الدين، في حاجة ماسة للتنمية والوحدة والتقدم والازدهار كباقي الشعوب بعيدا عن رسم الحدود. هكذا ختم الضابط الصحراوي كلامه، بعد أن نجح في أداء مهمته.