ما زال مقترح الحكم الذاتي يلقى دعما دوليا كحل واقعي قابل للتطبيق وينسجم مع سيرورة حتمية قيام الاتحادات الإقليمية كمدخل لضمان مكان في النظام العالمي الجديد. وذلك بعد أن تم، بقوة الأمر الواقع، إقبار مخطط "بيكر 2" المرفوض من طرف المغرب، ومخطط "بيكر 1" المرفوض من طرف جبهة البوليساريو والجزائر، والاتفاق حاليا على اعتماد حل سياسي متوافق عليه بين أطراف النزاع. "" للتصدي لهذا المنحى العام تأكد الآن أن الموالين للبوليساريو بالداخل يحاولون جاهدين افتعال أحداث من شأنها إضعاف موقع المغرب في الجولة الثانية من المفاوضات، وربما الضغط لدفعه لتنازلات. لبلوغ هذا الهدف عملت جبهة البوليساريو، بواسطة الموالين لها في الداخل ضرب الاستقرار بالمغرب. وفي هذا الإطار، كانت البداية مع تسهيل اختراق عناصر تدعي انتماءها لأنصار الإسلام في الصحراء المسلمة، بلاد الملثمين بمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء، للحدود والتسلل إلى المغرب عبر المناطق الحدودية الفاصلة بين بلادنا وموريتانيا والجزائر، وذلك بعد أن أعلنوا عن استهدافهم للمغرب، إلا أن يقظة الجنود المغاربة المرابطين بالجدار الأمني أفشلت كل تلك المحاولات في صمت ودون "شوشرة". كما عملت عناصر البوليساريو بالداخل على محاولة اختراق الشبيبة المدرسية بالأقاليم الصحراوية لافتعال أحداث، بنية استغلالها للدعاية الخارجية وبغية استخدامها لفرض تنازلات على المغرب في المفاوضات، لاسيما وأنهم يعتبرون أن المغرب بدأها من موقع قوة بفعل واقعية مقترحه وقابليته للتطبيق فورا. في هذا الإطار وجب تناول الاعتداء الذي تعرضت له سيارات الأمن بمدينة العيون، ومحاولة استغلال أي تجمع أو تظاهرة لرفع شعارات مناهضة للوحدة الترابية، وافتعال بعض القلاقل انطلاقا من أحداث بسيطة، غير أن العناصر الموالية للبوليساريو في الداخل فشلت في تضخيمها. يعتبر المجال الحقوقي من الفضاءات التي يتحرك فيها هؤلاء، ومن التنظيمات النشيطة في هذا المجال ما يسمى تجمع المدافعين الصحراويين عن حقوق الإنسان (علي سالم التامك، رئيس اللجنة التحضيرية لمؤتمره)، الذي ظل يسعى إلى تجميع شروط التأسيس منذ سنة 2000، وقد نشط أعضاء هذا التجمع، الذي أخذ على نفسه السيطرة على الحركة الحقوقية بالأقاليم الصحراوية بعد أحداث 21 مايو 2005 كالاعتقالات وسلسلة المحاكمات التي تلتها، علما أن الموالين للبوليساريو في الداخل ينشطون بالأساس في صفوف الشبيبة المدرسية والجامعية وانطلاقا منها، كما كان الشأن في سبعينيات القرن الماضي بالنسبة للحركة الماركسية اللينينية المغربية. حسب أكثر من مصدر جيد الإطلاع، يشكل بعض عناصر تجمع المدافعين الصحراويين عن حقوق الإنسان، المعروفين على المستوى الدولي، قيادة البوليساريو بالداخل، وهي المؤطرة لمختلف تحركات المناصرين لجبهة البوليساريو بالمغرب، لاسيما في الأقاليم الصحراوية وبعض المدن الكبرى. استغلت البوليساريو أحداث الجامعات، التي كان بعضها داميا، للترويج لأطروحاتها كسبيل لمحاولة تجميع الشروط للتمكن من الضغط على المغرب ظانة أنه سيتنازل، هذا في وقت غاب عن قادة الجبهة أن تلك الأحداث، التي أرادوا الركوب عليها، تبين أن الطلبة الصحراويين المتعاطفين معها في الداخل يتمتعون بالمغرب بحريات واسعة بالرغم من أنهم موالون لأعداء الوحدة الترابية، وهذا أمر، على عكس ما تظنه قيادة البوليساريو، يدعم ويقوي موقع الوفد المغربي في المفاوضات، باعتبار أنه أحد مؤشرات صلابة الاستقرار بالمغرب. لقد سعت البوليساريو إلى استغلال الأحداث التي افتعلها الموالون والمتعاطفون معها، غير أن النتيجة جاءت عكس المنتظر. يوجد مجموعة من الطلبة الصحراويين الموالين للبوليساريو والمتعاطفين معها بالجامعات المغربية، وبمناسبة انطلاقة المفاوضات، حاول هؤلاء توظيف أي تحرك طلابي مهما كان، للدفاع عن مواقف الجبهة، في وقت يبدو فيه أن الفصيلين، الصحراوي والأمازيغي، يجمعهما نفس الطموح بشأن تقرير المصير، لكن بتصورات مختلفة، الأمازيغيون خاصة الريفيون، بدأت أصوات من داخلهم تطالب بحكم ذاتي تحت السيادة المغربية، في حين يروج الطلبة الموالون للبوليساريو لأطروحة الانفصال عن المغرب، وقد تأكد هذا الأمر بجلاء بالمغرب الشرقي مع الصراع الحاد الذي نشب بين، الطلبة الأمازيغ من جهة، ومن جهة أخرى الصحراويين بمساندة بعض القاعديين. وفي هذا المضمار نشطت مواقع شبكة الانترنيت في الدفاع على مختلف الأطروحات المتناحرة، وفي هذا الصدد، وتزامنا مع المفاوضات نشطت تلك المواقع، في نشر الصور والأشرطة، ومنها موقع "ماروك أكشن" www.marocaction.com واعتبارا لما حققته الدبلوماسية المغربية مؤخرا حاولت البوليساريو القيام بالمثل، ويبدو أن الجبهة عملت على ربح ورقات خارجية جديدة، وقد تجلت الصورة أكثر عندما كذبت الحكومة التشادية مزاعم ترويج إعادة اعترافها بالجمهورية الصحراوية، لكن، في الاتجاه المعاكس، طالب عدد من أعضاء مجلس النواب الإيطالي بشكل مفاجئ وغير منتظم، من البرلمان الإيطالي المصادقة على وثيقة تطالب الحكومة الإيطالية من خلالها منح جبهة البوليساريو تمثيلية دبلوماسية بروما على غرار الدول الأخرى المعترف بها من طرف الأممالمتحدة، إلا أن الحكومة لم تستجب لهذا الأمر. أحدثت الجولة الأولى من المفاوضات صراعا بارزا في صفوف قيادة جبهة البوليساريو بين أقوى الموالين لجنرالات الجزائر من جهة، ومن جهة أخرى الجناح المعتدل الهادف إلى استغلال الظرف الدولي للتوصل إلى حل نهائي للنزاع لحفظ دم الوجه، وفي هذا الصدد برز ولد البوهالي الذي يدافع على منحى التصعيد، علما أن البوهالي ظل يسعى جاهدا لقيادة وفد الجبهة في المفاوضات، إلا أن أصله الصحراوي ظل مشكوكا فيه، ولذلك اختار تأجيج الصراع الداخلي وسط الجبهة قصد التوصل إلى تغيير رئاسة الوفد، وقد سبق أن راجت كذلك أخبار، مصدرها جهات جيدة الإطلاع، أن العناصر الموالية لجنرالات الجزائر عملت على محاولة إسقاط محمد عبد العزيز من رئاسة الجبهة، ومازال هذا الاحتمال قائما بقوة حتى الآن. كما أنه، بمناسبة الإعداد لمؤتمر جبهة البوليساريو، اتسعت دائرة الخلافات داخل قيادتها. وبدا أن أقطابها متعددة، كل واحد منها يتحرك في سرية تامة عن القادة وعن الجزائريين. ومن الأقطاب التي نشطت بشكل جلي، القطب الذي تربطه علاقات وثيقة مع العناصر الموالية للبوليساريو في الداخل، لاسيما بالأقاليم الصحراوية وعلى وجه الخصوص بالشبيبة المدرسية والجامعية. من المؤشرات القوية في هذا المضمار، جملة من اللقاءات بين بعض قياديي الجبهة وعناصر موالية لها، أقيمت في بعض المدن الإسبانية. في هذا الخضم حاول الجناح الموالي لجنرالات الجزائر التصعيد والتلويح بالرجوع إلى حمل السلاح من جديد، وهذا ما صرح به ممثل الجبهة في هيئة الأممالمتحدة، إلا أنه سرعان ما تبين أن هذا التهديد ظل مجرد مزايدة ليس إلا. عموما، يبدو أن جبهة البوليساريو لم يكن أمامها بد من تفعيل عناصرها في الداخل قصد التشويش على المفاوضات ما دام أن المغرب قوبل مشروعه، بمنح الصحراويين حكما ذاتيا تحت السيادة المغربية، بارتياح أكثر من جهة لكونه يضمن التعامل مع مبدأ حق تقرير المصير للصحراويين، في حين اعتبرته البوليساريو مصادرة لهذا الحق. وباعتبار أن جبهة البوليساريو لا يمكنها أن ترفض المفاوضات، وليس في جعبتها الآن أي اقتراح جديد، غير متجاوز بفعل التطورات على المستوى العالمي والإقليمي، وقابل للتطبيق، فإنه من الطبيعي أن تسعى إلى محاولة فرض تنازلات على المغرب، وقد اختارت في المرحلة الحالية الاعتماد على الموالين لها من داخل المغرب لافتعال جملة من القلاقل من شأنها التأثير على مسار المفاوضات، علما أن البوليساريو مازالت تتعامل مع المفاوضات، ليس من منطلق الرغبة في التوصل إلى حل نهائي، وإنما من منطلق تحسين تموقعها فيها والبحث على أوراق ضغط جديدة. إنها، في واقع الأمر، تسعى الآن إلى محاولة ممارسة ضغوط دولية على المغرب تكون كافية لخلق ظرفية جديدة وضغوط داخلية عبر تحريك الموالين لها في المغرب بجميع الوسائل، في هذا المضمار وجب فهم افتعال جملة من المواجهات مع قوات الأمن بالأقاليم الصحراوية وفي بعض الجامعات، وهذا بهدف تطوير الوضع إلى قيام أحداث دموية من شأنها أن تضع المنطقة تحت وصاية الأممالمتحدة لحين حل النزاع نهائيا. علما أن القوى الكبرى لم ولن تسمح بإعادة انفجار وضع المنطقة مهما كان مآل المفاوضات الجارية. في انتظار الجولة الثانية للمفاوضات، المقرر اجراؤها في غضون الشهر الجاري، كل طرف يقدم تأويله بخصوص قرار مجلس الأمن 1754، إذ هناك تأويل وتأويل مضاد. وفي هذا الإطار حاولت البوليساريو توظيف تصريحات السفير الأمريكي بالرباط إلى أقصى حد ممكن، إذ أن هذا الأخير وضح جانبا من هذا القرار مع التأكيد (وهذا ما انقضت عليه البوليساريو بكل ما أوتيت من قوة) على أن المفاوضات هي بين طرفي النزاع، المغرب وجبهة البوليساريو، كما ربطت هذا التصريح بإخراج مناطق الصحراء من اتفاقية التبادل الحر بين المغرب والولاياتالمتحدةالأمريكية سنة 2004. لكن انطلاق المفاوضات والدعم الدولي الذي حظي به المقترح المغربي والكشف عن الحل الأمريكي المقرر في حالة فشل المفاوضات، كل هذا ساهم في إسقاط أقنعة جنرالات الجزائر بخصوص علاقتهم الوثيقة بنزاع الصحراء، علما أن ما يخيفهم، أكثر من أي شيء آخر، هو انطلاق المغرب في اهتمامه بسيرورة تنميته الداخلية، باعتبار أن تنميته ستعري عوراتهم في نهج الحكم وتدبير الأمور، كما يتخوفون أيضا من ريادة المغرب في المنطقة، لذلك سيظلوا يقامرون بورقة جبهة البوليساريو ومبدأ تقرير المصير إلى آخر رمق. هذا في وقت تعيش فيه مخيمات تندوف أوضاعا صعبة، إذ أضحت الآن تعتمد على المساعدات الأمريكية أكثر من غيرها، وآخرها مليون دولار (10 ملايين درهم) وجهتها الحكومة الأمريكية في نفس الوقت الذي انطلقت فيه المفاوضات في "مانهاسيت" قرب نيويورك، تحت مظلة هيئة الأممالمتحدة لإيجاد حل نهائي للنزاع حول الصحراء. منذ البداية ظل الموقف المغربي ثابتا، باعتبار أن الحكم الذاتي عرض شامل، غير قابل للانتقاء، وهو الإطار الوحيد الممكن للمفاوضات، علما أن بلادنا بقيت تنطلق من كون نزاع الصحراء نزاعا مغربيا جزائريا، وهي المقاربة التي لم يسبق أن أخذها مجلس الأمن بعين الاعتبار، وقد تأكد هذا المنحى بصدور القرار 1754 والذي نص على حضور الجزائر وموريتانيا كطرفين معنيين بالنزاع بحكم الجوار الجغرافي. رغم أن الجولة الثانية من المفاوضات تقرر إجراؤها قبل انتخابات 2007، فإن النقاش بخصوص حملتها بالأقاليم الصحراوية لن تقتصر على تقديم البرامج الاجتماعية وإنما ستشكل مناسبة للتعبئة من أجل المشاركة الواسعة في الانتخابات لتكون مناسبة تتخذ شكل استفتاء شعبي حول الحكم الذاتي، وهذا ما يقلق جبهة البوليساريو التي ستعمل جاهدة على استخدام الموالين لها في الداخل لخلق القلاقل للتشويش على هذا الهدف، لأن المشاركة السياسية الواسعة في الاستحقاقات القادمة بالأقاليم الصحراوية ستكون بمثابة ضربة قوية للبوليساريو. لقد حاول الموالون لها في الداخل اختراق مخيمات الوحدة بالأقاليم الصحراوية، محاولين استغلال تردي ظروف العيش بها لإثارة القلاقل وتأليب ساكنتها ضد السلطة، إلا أنهم فشلوا في تحقيق هذا المبتغى. بموازاة مع ذلك عملت السلطات على إعداد برامج خاصة بهذه المخيمات، لاسيما وأنها أضحت تشكل تجمعات سكنية دائمة، ولعل أهمها البرنامج الخاص بإعادة إسكان قاطنيها وذلك في إطار برنامج التعمير والإسكان الخاص بالأقاليم الجنوبية ضمن الاستراتيجية العامة لمحاربة السكن غير اللائق. علما أن سكان مخيمات الوحدة هم الذين استجابوا لنداء الملك الحسن الثاني وقرروا الاستقرار بالأقاليم الصحراوية للمشاركة مع أبناء عمومتهم في عملية تحديد الهوية منذ منتصف التسعينيات. أضحى الموقف الأمريكي واضحا الآن، بعد أن ظل على امتداد سنوات يكتنفه الغموض، وهو الرامي إلى فرض حل بالنسبة للطرفين في حالة فشل المفاوضات في التوصل إلى حل متوافق عليه، وينص الحل الأمريكي على اعتماد حكم فيدرالي، حسب النموذج الأمريكي، يمنح أكثر من صلاحيات مقترح الحكم الذاتي، لكن دون أن يتجاوز حدود السيادة. هذا باعتبار أن حل الاستفتاء أمر غير ممكن بأي حال من الأحوال، وأن قيام دويلة مرفوض من طرف المنتظم الدولي ولا يتماشى إطلاقا مع مقتضيات الاستراتيجية الأمريكية للتصدي للإرهاب في المنطقة. إن المنحى السائد الآن بخصوص الفض النهائي لنزاع الصحراء، في عيون الكثير من المحللين والملاحظين الدوليين، يسير في اتجاه اعتبار استقلال الصحراء غير ممكن، فالواقع الجيوسياسي للمنطقة والتطورات التي تعرفها شمال إفريقيا وبروز جملة من الشروط المفروضة من أجل الاندماج في النظام العالمي الحالي، كلها تفيد أن الحل وجب أن يسعى في اتجاه توحيد البنيات على صعيد المغرب العربي وليس تشتيتها مع احترام مختلف الخصوصيات. مهما يكن من أمر، إن حل نزاع الصحراء أضحى ضروريا باعتبار أن الاندماج في المنظومة الدولية عبر تفعيل مقتضيات الشراكة سواء مع أوروبا أو الولاياتالمتحدةالأمريكية، كخيار استراتيجي، يستوجب درجة متقدمة من الاستقرار بالمنطقة واستعادة العلاقات بين دولها على أسس غير عدائية، ولن يتأتى هذا إلا بالتوصل إلى حل نهائي لنزاع الصحراء، أراد من أراد وكره من كره. وعليه، فإن قادة البوليساريو ومسانديهم الجزائريين، عليهم أن يتذكروا آخر ما قاله مؤسس الجبهة قبل وفاته: "لقد أجرمنا في حق شعبنا"، لأنه لم يعد من المقبول الآن الاستمرار في تكريس الإجرام في حق شعوب المنطقة قاطبة وأجيالها. أنقر هنا لمطالعة الحوار الذي أجراه إدريس ولد القابلة مع علي سالم التامك