يعيد هذا النص السردي الذي يشق طريقه ليحتل موقعه الخاص في متواليات المتن الروائي المغربي المعاصر، يعيد إلى الواجهة جملة من القضايا والأسئلة بصدد مبناه ومعناه من حيث الشكل وهوية الكتابة وطبيعة الموضوعات والمتخيل، بقدر ما يعيد الى الواجهة أيضا وفي نفس الآن إشكال الملفوظ السردي - ا لروائي مرتبطا برؤية للعالم تنحو منحى إشكاليا بدوره، لأن «صوت» السارد - الشخصية، السي محمد وهو «يتحدث» عن طفولته وصباه ومراهقته وشبابه على امتداد إحدى وثلاثين ومئتي صفحة، لا يكتفي بالسرد والحكاية والإخبار عن «وقائع طفولة مغتصبة» العنوان الثاني للنص، بل يضمن ما «يقول» (ما يقوله) خطابات نقدية- انتقادية تجاه مجموعة من القيم والمؤسسات الاجتماعية والممارسات والمواقف في مغرب ماقبل الاستقلال وبعده أيضا: إن الأمر يتعلق بنص أطروحة مضادة لنصوص «تحدثت» وتحدث أصحابها بلسان اخر وفضلت (فضلوا) قناعة الكتمان أو مبايعة التقريظ، لكنه أيضا نص يلتقي مع نصوص جعلت وكدها بدورها أن لا تقبل الأمر وتجهر بالمكبوت والمنسي والمهمش ضمن معادلة صعبة داخل أغلب الثقافات والحضارات والمجتمعات هي معادلة المقدس والمدنس. من بين القضايا التي يطرحها هذا النص قضية العنوان باعتباره ميثاقا أوليا لبرنامج القراءة وقضية التجنس والنصوص الموازية والنصوص التي يحاورها في داخله: كيف نحد هذا النص باللغة العربية: سنوات المجاعة أم الجدب أم القحط أم المصل؟ كيف نتعامل مع نصوصه الموازية بدءا بالإهداء (ص5) والمقدمة (نص لجان جاك روسو من الاعترافات ص7) والتوطئة (ص9) وانتهاء بنصوص تتحرك في ثنايا الحكاية التي تروى مسندة إلى ضمير المتكلم لكنها تحاور الذات الجمعية؟ كيف نتعامل مع العنوان الثاني - الفرعي« وقائع طفولة مغتصبة من حيث بؤرة الدلالة فيه إذ يجمع بين الحقيقة والمجاز، مرفودا، العنوان، مع قرينة «سيرة ذاتية»؟ هذه أسئلة من ضمن أسئلة أخرى يمكن القول بأنها تنتظم داخل سيرورة ما قد نسميه «القراءة الجدولية» بحكم طبيعة تشكل النص، أما أسئلة الموضوعات والملفوظ فتنتظم داخل سيرورة ما قد نسميه «القراءة الاستكشافية، لأن النص «صامت» بالمعنى الحرفي والشكلي، لكنه «يتكلم»، أي يخترق سجلات الكتابة، بالمعنى اللغوي والتركيبي والدلالي والمرجعي، ويسعى الى خلخلة صرح المقدس، المقدس المجتمعي - الإجتماعي، المقدس الديني - الروحي، المقدس السياسي - الوطني، وبذلك يصبح الخطاب كتلة متراكبة من المؤشرات الرهيبة والشاهدة على وضع إنساني مهمش ومأزوم بالمعنى الوجودي إلى حد الشعور، أثناء القراءة وبعدها، بنوع من التيه اللانهائي في مدارات الميتافزيقا العارية الجرداء، الذات فيها مجرد مخلوق مجرد من إنسانيته وكيانه وكينونته، مجرد مخلوق منذور لليتم الروحي والتوحش والإتلاف، كما يمثل ذلك الطفل السي محمد في هذا النص قبل أن يستوي رجلا معتداً بنفسه ليواجه مصيراً آخر في مكان آخر، في أمكنة وأزمنة أخرى. أما قبل ذلك، وعلى امتداد النص بفقراته ومقاطعه ومن خلال كونه «الواقعي» و «المتخيل» بهذه النبرة أو تلك من نبرات التّسريد، فإنه، وهو «ينْمو»، في ظل إكراهات البيت والأسرة، يحس باختلافه حين نربط ما نقرأه بما تعلنه المقدمة على لسان جان جاك روسو: «أنا آخر» (ص 7)، معتمداً على نفسه وقوة شكيمته وذكائه وشطارته وصبره لمواجهة ومقاومة الجوع والعُري والفقر والفاقة والحرمان وسلطة الأب والموت و «المعلمين» وموت الأصدقاء، التهامي مثلا (ص 24) من فرط الضرب (الفلاقة) أو عبد العزيز (ص 52) بعد تعرضه للاغتصاب. من ثم: يكون أول شيء يدينه هذا النص المكتوب بجرأة نادرة هو فضاء المْسيدْ (الكُتّاب)، أو ما يسميه السّارد الشخصية «مدرسة المجانين (الحمقى)» (ص 25) مقترناً، فضاء المسيد دائماً، بالقمع والإهانة والموت. وليس هذا وحده ما يدينه هذا النص الوثيقة و الشهادة عن زمن ملتبس في مدينة فاس ومغرب الخمسينيات، بل «قيما» أخرى يتقاطع فيها بحدة المقدس والمدنس وكأن الكاتب محمد الغُرملي يريد من خلال سيرته الذاتية هاته أن يتخلص من تابوهات المحرم والمكبوت لصالح خطاب مفتوح على ممكنات رفض نمطية المجتمع الذي يعلن المحافظة ظاهرياً بينما يكرّس العبودية والإقطاعية والاستبداد وينغل بالمفارقات في العلائق المطلوبة بين الرجل والمرأة، بين الأم والإبن وبين الأب والإبن، بين الزوج والزوجة، بين الأفراد والجماعات حسب الحقوق والواجبات. وبهذا يعيدنا هذا النص الى البدايات الأولى للكتابة السردية في المغرب، يعيدنا الى أسئلة علاقة هذا النص أو ذاك، سواء كان مكتوباً بالعربية أو بالفرنسية، بالذات والمجتمع والتاريخ والثقافة والايديولوجيا بقدر ما يضعنا في لب رؤية إشكالية للعالم بالمنظور الگولدماني، إشكالية بطل شخصية كائن ذات يبحث تبحث عن «قيم أصيلة في مجتمع منحط»، في مجتمع سافل وينهار بالتدريج على إيقاع الدناءة والنذالة والمكر والخديعة والرذيلة، لكنه، البطل الشخصية، لا يقع في شرك هذا المجتمع، الكون المصغّر والمجهري، لمغرب ما بعد الاستقلال مسكوناً بمخلفات الماضي والموروث المعقدة، في الجنس والثقافة وفي غيرهما يقع البطل الشخصية غالبا، لكنه ينجو لأنه حافظ يحافظ على توازنه الداخلي ولا يسقط ضحية لما جناه عليه أبوه بالمعنى المادي والرمزي معاً، التوازن الذي يحميه ويجعله يكتشف رجولته منذ وعيه الممكن في أوج مراهقته بقدر اكتشافه ذلك مع النساء تاركاً وراءه أخطاءه وخطاياه، تاركاً خلف طفولته المغتصبة، تاركا وراءه كل شيئ يذكره بماضيه باستثناء اخته في النهاية، نهاية النص وفي بداية حياة اخرى، حياة جديدة ونموذجية، مما يقرب هذا النص، في بعض معالمه وسماته، من رواية التعلم (او رواية التلقين) بقدر ماهو، من حيث التجنس، نص اوتوبيوغرافي مواثيقه الكبرى على مستوى المحكي والملفوظ كما يلح على ذلك فيليب لوجون، كما يقربه مما يسمى في حقل نقد الرواية من رواية العائلة، ولعل هذا المؤشر هو ما يبرر اهداء المؤلف هذا النص الى ابنائه، و كذلك زوجته، وكأنه بهذا يعترف بما جرى له ولا يريد ان يظل نبسا منسيا بنوع من المثالية المحتسبة. وهكذا يصير بامكاننا ان نتحدث، بصدد تلقي النص، عن التخلل، اي تداخل الاشكال الروائية في صلب المحكي، بل يمكن الحديث، ضمن دائرة التخلل، عن الملمح الشطاري (البيكاربيسكي) على مستوى اقوال وافعال الشخصية الرئيسية في النص وعلى مستوى شخوص اخرى تسرق وتنهب وتكذب و تحتال وتسطو على ممتلكات الغير من أجل العيش ملمح ينحدر من صلب الفارود يا كنقيض للملحمة مقابل الكوميديا نقيضة التراجيديا كما اشار الي ذلك ارسطو و من تبعه من نقاد الشعرية ومنظري الاجناس الادبية، وينحدر من صلب ذاكرة الرواية الاوروبية من خلال نص لازاريودي تورميس سنة 1554 لمؤلف مجهول قبل ان يظهر نص دون كيخوتي، ذي لامانشا، كما انه الملمح الشطاري، يخترق عدة نصوص عربية تراثية وحديثة ومعاصرة بدءا بالمقامات وانتهاء بالخبز الحافي لمحمد شكري مرورا بالحرافيش لنجيب محفوظ او الزيني بركات لجمال الغيطاني او عرس الزين للطيب صالح وكذلك بعض نصوص محمد زفزاف وادريس الخوري. سؤال السيرة الذاتية في هذا النص يعود بنا الى هيمنة ملمح السير ذاتي في متوالية النص الروائي في المغرب وفي العالم العربي على مدى اكثر من قرن من الزمن الابداعي والثقافي، ولن الح عليه كثيرا لكثرة ما اثير بصدده، ولا يهم منه، في تقديري، سوى ذلك البعد الذي يقرن بين خطاب السيرة الذاتية وبين «قيمة» الذات وهي تروي اسرارها لاحساس ما بقيمة هذه الذات وهي تخوض مغامرتها وتخوض تجربتها لتجعلها نموذجية على غرار ما نجد في نص مثل الايام لطه حسين او الاعترافات لجان جاك روسو، اي تجربة تتجاوز البسيط والعادي لجعل السيرة الذاتية نصا مشتركا بين عدة افراد وان لم يكتبوا المدخل في هذا التصور هو الملفوظ الذي يأتي ملفعا بصوت المؤلف اذ يتماهى مع السارد ومع الشخصية متصلين او منفصلين ويطلق احكاما قيمية بصدد الاحداث والشخوص والافكار والقيم والمبادئ، فيتحول الملفوظ إلى عينة ادلوجية (ادلوجم) كما تقول جولياكرستيفا ضدا على ادلوجة اخرى ومدار نص سنوات المجاعة، في هذا السياق، هو التعرية والرفض وكشف المستور وتسفيه المسلم به في اركيولوجيا الثقافة المحافظة بمسلماتها واعلان المحظور كما تكشف عن ذلك جل مناهل النص، من بدايته الى نهايته، حول الجسد والبغاء والقتل والاغتصاب والسرقة واللصوصية، وحول الدين والمجتمع والاخلاق والعلائق المجتمعية، هذا النص الذي يكتفي بالانثيال كما هو، طيعا بين يدي صاحبه، مطلقا ديكتاتورية البناء التقليدي لصالح كتابة شذرية لا فاصل بين فقراتها ومقاطعها. من ثم: يمكن ان نجمل أطروحته الجمالية في ثنائية مركزية وإشكالية في آن واحد هي ثنائية جنيالوجيا النص / جنيالوجيا الكتابة. الاولى تحيل على شلالات متفرقة كما سعينا الى ابراز ذلك منذ البداية بحيث يمكن اعتبار نص سنوات المجاعة مثوى لعدة أشكال وأجناس وجنسيات أدبية تدور في فلك السيرة الذاتية كشكل مكرس في الكتابة الروائية الحديثة والمعاصرة، غير أنه يستمد شرعيته من كتابات سردية ضاربة في جذور الادب الحكائي القديم. اما جنيالوجيا الكتابة فهي اختيار لهوية وانتماء الى لغة كانت بمثابة قيد وعقبة، تحولت الى منفى وملاذ، ثم أقبلت على الهدم: أتحدث هنا عن الكتابة بالفرنسية وهي تصير، في نص مثل سنوات المجاعة، سلاحا للكشف عن مواطن الذلل في رحلة او تغريبة اكتساب هوية جامعة، هي هوية الكائن حين يفكر في إنسانيته ويستردها، بل يعتقها من أسرها وعبوديتها بدون مركب نقص او تهيب من بلاغة اللغة الفرنسية التي تظل في نصوص مغربية ومغاربية وعربية لغة نمطية مثقلة بالمحسنات البديعية الى حد السقوط في الرطانة والحشو والصفاقة والتقعير. لغة محمد الغرملي في هذا النص لغة بسيطة، راقية، قريبة من «المعنى المشترك» وقريبة من وجدان القارىء العادي الذي لايحتاج قواميس ومعاجم للشرح وملاحقة الالفاظ والكلمات والتعابير: انها لغة اليومي والمعتاد، لغة كتابة مشتركة وكأنها «دارجة» في حضن لغة فرنسية ام لاتوجد الا في الاذهان، او توجد في منطقة قصوى هي المتاهة والتيه في كل ما يمنح اللغة وجودها، أي النفي، ولعل المدخل في هذا كله هو سؤال: من يكتب من؟ وبالنسبة الى هذا النص: هل يكتبنا محمد الغرملي؟ سأترك هذا السؤال معلقا لأن النص الذي قرأته على امتداد أسبوعين نص قلق، نص بعيد الغور في الذاكرة والذات واللغة، نص يكسر ثقافة اليقين ويشق طريقه نحو مزيد من استعادة المغرب الخمسيني بكل حمولاته الثقافية والايديولوجية، مغرب نقلة متوترة نحو أفق الديموقراطية والحداثة. الرباط 2009/04/22 - حول رواية سنوات المجاعة لمحمد الغرملي، منشورات زاوية، الرباط ، 2007.