صادف تولي الملك محمد السادس العرش وجود حكومة يقودها متزعم التيار الذي ظلّ أفراده يناصبون العداء للملكية ويحاربونها على مدى عقود. بدت حينها علاقة الرجلين علاقة دعم من شيخ اليساريين الذي وصفه الملك الراحل ذات يوم بتاجر السلاح الأول بالمملكة، لملك شاب ورث حكما مثقلا بالديون السياسية والحقوقية، ومحاطا برجالات بعضهم لا يكنّ له كثير ودّ يتقدمهم وزير الداخلية الراحل إدريس البصري. "هذه الحكومة التي اصطلح على تسميتها في التسعينيات باسم حكومة التناوب التوافقي، وجدها بالصدف التاريخية الملك محمد السادس، أمامه قائمة الذات باعتبار ما سبقها وطيلة حقبة التسعينيات من وجوب قيام حكومة لها سند شعبي وتتمتع بالأغلبية الساحقة في الرأي العام، وبالتالي فمحمد السادس ليس مسؤولا لا عن تشكيلتها، ولا عن وجودها ولا عن برنامجها"، يقول وزير الوظيفة العمومية في حكومة اليوسفي، الاستقلالي امحمد الخليفة. هذا الأخير أضاف أن محمد السادس، تعامل مع هذه الحكومة "تعاملا جديا وسياسيا في المستوى الرفيع أخلاقيا، لتكون نقلة نوعية في تاريخ المغرب، ولكن بكل أسف نهايتها كانت تقضي على كل الآمال التي بذرها محمد السادس، ففي عهدها تكلم عن المفهوم الجديد للسلطة ومحاربة الفقر والمساواة وسياسة القرب وكلها كانت من أهداف وجود حكومة التناوب". الخليفة قال إن من انتصر في النهاية هو "إرادة من لا يظهرون في الصورة وإرادة ما يُسمى بالمخزن العميق وسياسة المتحكمين، وتوقفت المنهجية الديمقراطية على حد تعبير الإخوة في الاتحاد الاشتراكي، والأمر لا يحتاج إلى كثير تعليق، فخطاب بروكسيل يوضح إلى أي حد كان جلالة الملك يريد لهذه الحكومة أن تكون نقلة نوعية في التاريخ السياسي للمغرب، ولكن إرادة قوى التحكم صنعت ما صنعت وعدنا إلى التكنوقراط". منعرج علاقة القصر بالحكومة العنوان البارز الذي يضعه الجميع لمرحلة عبد الرحمان اليوسفي في قيادة حكومة الانتقال من عرش الحسن الثاني إلى عرش محمد السادس، هو القسم القرآني الذي أداه شيخ الاشتراكيين أمام الملك الراحل قبل شروعه في تشكيل الحكومة. العارفون بأسرار وكواليس تلك المرحلة، يميّزون منذ الوهلة الأولى، بين فصلين اثنين، الأول هو فترة حكومة اليوسفي خلال حياة الملك الحسن الثاني، والثانية في عهد خليفته محمد السادس. "المرحوم الحسن الثاني كان شديد القرب من اليوسفي، ومستشاروه على اتصال دائم بالوزير الأول ويُطلعونه على جميع الأسرار والتفاصيل والملفات الكبرى للمملكة"، يقول مصدر اشتغل بالقرب من اليوسفي حينها، رفض الكشف عن هويته. مصدر آخر، اختار هو، أيضا، عدم الكشف عن هويته، يقول إن عبدالرحمان اليوسفي "حظي بالثقة الكاملة من لدن الملك الراحل، وتسلّم جميع مفاتيح المملكة، وكانت له قنوات مباشرة للاتصال بالملك والحديث إليه". المرحلة الثانية بدأت بوفاة الملك الحسن الثاني، وتولي محمد السادس ورفاقه سلطة الحكم. "كنا أمام ملك جديد ومعه جيل جديد من المسؤولين الطموحين والراغبين في رسم حدود البيت الملكي وإعادة ترتيبه، فعرفت البدايات انفتاحا حذرا من الحكام الجدد على الوزير الأول وحكومته، وتدريجيا أخذ الحذر يتزايد ويشدد الخناق على عبدالرحمان اليوسفي"، يقول مقرّب من زعيم تجربة التناول التوافقي. مصادر أخرى قالت إن ما صعّب مهمة اليوسفي "وجعله يفقد الكثير من الملفات التي كانت بين يديه، ويجد صعوبة حتى في الاتصال بالملك والحديث إليه مباشرة، حيث كان في بعض المرات ينتظر شهرا أو شهرين لكي يحصل على موعد؛ هو ظهور لوبيات جديدة قوية لها مصالحها وأطماعها". القسم الذي قبل عبدالرحمان اليوسفي أداءه سرا مع الملك الراحل الحسن الثاني، كان تعبيرا عن دخول زعيم الاشتراكيين تجربة "التناوب" بناءً على الأعراف المرعية للبلاط العلوي، وليس النصوص والوثائق والدساتير التي تحكم وتنظم الدول الحديثة. وكانت امتدادات هذا الانخراط في أعراف البلاد والأعراف التقليدية، احتفاظ الدولة المغربية بطقوسها وقواعدها المنحدرة من هذا الموروث التقليداني، وبالتالي عدم تحقيق حكومة "التناوب التوافقي"، أي تغيير في هذا الوجه القديم للدولة المغربية. وتكرّس هذا البُعد لدى وفاة الملك الراحل الحسن الثاني، واللجوء إلى أسلوب البيعة التقليدية، وتقدّم الوزير الأول حينها، عبدالرحمان اليوسفي لائحة الموقعين عليها. الأعراف ليست ضمانة "الحق في المطالبة بالكشف عن مضمون الاتفاق قد لا يضمن الوصول إلى معرفة ما التزم به عبدالرحمان اليوسفي مع الملك الراحل الحسن الثاني. ومن هنا تبدأ المشكلة المحيرة لفك لغز القسم الذي أداه وعمل على تنفيذه اليوسفي"، تقول وثيقة شهيرة تم تداولها على نطاق واسع داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعد خروجه من قيادة الحكومة. ومن أبرز الإشكالات التي تناولتها تلك الوثيقة، هو أن الطريقة التي اعتمدها اليوسفي للتفاهم مع الملك الراحل، ضاعت معها الحقيقة نهائيا "ولم نعد نتوفر على عنصر مراقبة صحة التصريح والجهر بالحقيقة للمواطنين. لأن الاتفاق في الأصل ثنائي، فإذا غاب طرف واحد تضيع معه الحقيقة نهائيا. والثانية وهي نتيجة حتمية للمسألة الأولى وهي أن الطرف الثاني الذي لازال على قيد الحياة يمكن له أن يختلق ما شاء من سيناريوهات وأن يركب ما شاء من مضامين خيالية للاتفاق المذكور". فيما يوضّح حسن طارق، أستاذ العلوم السياسية والنائب البرلماني حاليا، أن حزب الاتحاد الاشتراكي عندما كان مقبلا على تجربة التناوب، كان منقسما بين طرحين، الأول يقول بأسبقية الوثيقة الدستورية على أي مشاركة سياسية، لجعل العملية مبنية على تعاقد سياسي وقانوني واضح؛ وطرح آخر يقول بإمكانية الاعتماد على الثقة وبنائها وإن كان ذلك بأساليب عتيقة. وهو الطرح الذي ناصره اليوسفي ودافع عنه، قبل أن يعود ويعترف بفشله في محاضرة بروكسيل الشهيرة، التي ألقاها بعد إبعاده من رئاسة الحكومة رغم فوز حزبه بالمرتبة الأولى في 2002. "لقد اخترنا إذن، الاختيار الوطني وفضلناه على الحسابات السياسية، يشجعنا على قبول الملك لمطالبنا التي كررتها مرارا في تصريحاتي الصحفية والمتمثلة في الثقة الملكية والأغلبية البرلمانية المريحة والسند الشعبي وهي المطالب التي عززها الأداء المشترك لليمين والعهد"، يقول اليوسفي في محاضرته، مضيفا أنه "في الوقت الذي كنا ننتظر الانتقال من "التناوب التوافقي" إلى "التناوب الديمقراطي" أعلن بلاغ صادر عن الديوان الملكي يوم 9 أكتوبر 2002 أن السيد إدريس جطو، وزير الداخلية في الحكومة السابقة، قد عُيّن من طرف جلالة الملك وزيرا أول". هاجس بناء الثقة مع القصر الهاجس الأساسي الذي ميّز قيادة عبدالرحمان اليوسفي لتجربة "التناوب التوافقي"، هو الرغبة في بناء الثقة مع القصر الملكي، والتضحية بالباقي من أجل هذا الهدف. "لقد وجدنا أنفسنا أمام خيارين لا ثالث لهما: الأول تُمليه المصلحة الوطنية، والثاني يميل إلى الاعتبارات السياسية والحزبية، فكان علينا إذن، أن نختار بين المشاركة في الحكومة، في الوقت الذي كنا نعرف فيه أن الحالة الصحية لعاهلنا مثيرة للقلق وأن المغرب من جراء ذلك سيواجه موعدا عصيبا أو ننتظر تولي عاهلنا الجديد العرش من أجل التفاوض معه حول إجراءات وطرائق مشاركتنا، فاخترنا تحمل مسؤوليتنا الوطنية وفضلنا مصلحة البلاد من أجل المشاركة في انتقال هادئ والتجاوب في نهاية الأمر مع نداء ملكنا الذي كان يدعونا – نحن المغاربة قاطبة – إلى إنقاذ البلاد من السكتة القلبية التي تتهددها بالنظر إلى الوضعية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة"، يقول شيخ الاشتراكيين المغاربة، عبدالرحمان اليوسفي. كان قائد تجربة التناوب التوافقي، عبدالرحمان اليوسفي، حريصا منذ البداية على فعل كل ما يمكن أن يساعده في إقناع الملك بضرورة تجديد تعيينه بعد انتخابات 2002، وهو ما دفعه إلى اتخاذ قرارات من قبيل منع مجلة "لوجورنال" بعد إقدامها على نشر رسالة الفقيه البصري الشهيرة. الكتاب الذي أصدره الصحافي عمر بروكسي مؤخرا، توقف كثيرا عند طريقة تدبير المستشار الملكي أندري أزولاي للموقف بعد نشر "لوجورنال" رسالة الفقيه البصري إلى قياديي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حيث قرر المحيطون بالملك وفي مقدّمتهم أزولاي، استثمار الوقع القوي للوثيقة، "للقول إنه إذا كان الحسن الثاني مسؤولا عن سنوات الرصاص ومعتقلا مثل تازمامارت وأماكن الاحتجاز السري، فإن معارضيه لم يكونوا ملائكة، بل لديهم أيضا ماضيهم ومناطق ظل خاصة بهم". بعد إجراء أول استحقاق انتخابي في عهد الملك الشاب، يروي كتاب "ابن صديقنا الملك" لصاحبه عمر بروكسي، كيف تلقى اليوسفي استدعاء من القصر الملكي، يوم 2 أكتوبر 2002، انتقل على إثره إلى مراكش، حيث تقرر أن يجري الاستقبال. قياديو حزب "الوردة" كانوا حسب مؤلف الكتاب واثقين من تجديد الثقة في كاتبهم الأول، خاصة أنهم احتلوا المرتبة الأولى في الانتخابات. "مرتديا لباسه التقليدي الرسمي، انتقل اليوسفي بعد زوال تلك الجمعة إلى المدينة الحمراء، ليتلقى الصدمة القوية منذ الوهلة الأولى للقائه بالملك. مقرّب من الزعيم الاتحادي السابق، قال إن اللقاء لم يدم أكثر من 10 دقائق، ودشّنه الملك بإخبار اليوسفي مباشرة بقراره تعيين إدريس جطو وزيرا أول". المصدر الذي تحدث إلى صاحب الكتاب وصف شدة الصدمة التي تلقاها اليوسفي بالقول إن قدميه لم تعودا قادرتين على حمله، لكنه رد رغم ذلك وقال: "لكن جلالة الملك هذا القرار مخالف للمنهجية الديمقراطية"، ليجيب الملك بالقول إنه علم بكون اليوسفي لم يعد مهتمها بمنصب الوزير الأول. فرصة ضائعة لاقتسام السلطة المؤرّخ والحقوقي المعطي منجب، يدرج تجربة حكومة التناوب ضمن الفرص النادرة التي ضيعها المغرب لإقامة توزيع فعلي للسلطة. والمرحلة الوحيدة التي قال منجب إنها شهدت اقتساما فعليا للسلطة مع المؤسسة الملكية، حصرها بين سنتي 1955 و1961، وفسّر ذلك بميزان القوى الذي لم يكن في صالح الملكية، بل لفائدة حزب الاستقلال، لدرجة أن محمد الخامس كان في مراحل معينة قد اعتبر نفسه عضوا في حزب الاستقلال. أما محاولة اقتسام السلطة في مرحلة حكومة التناوب، فحدّدها منجب في سنة ونصف بعد تشكيل حكومة التناوب، وبينما أرجع بدايات هذه التجربة إلى منتصف التسعينيات، اعتبر أن نهايتها كانت مع إزاحة إدريس البصري من السلطة. مفارقة قال منجب إنها تمثلت في فقدان عبدالرحمان اليوسفي للقدرة على اتخاذ القرار الفعلي ابتداء من هذا التاريخ، علما أن البصري كان يمثل الحسن الثاني في التوافق الذي سمح باقتسام السلطة وانتقال العرش بشكل سلس وآمن. ضياع الفرصة يفسّره رهان الزعيم الاتحادي عبدالرحمان اليوسفي بشكل كبير على المستقبل، حيث جعل ولاية حكومته، طيلة سنواتها الخمس، فترة لبناء الثقة مع القصر، وضمان انتقال سلس للعرش بين الملك الراحل الحسن الثاني وخليفته محمد السادس. وكانت بذلك جلّ الإصلاحات والقرارات المنتظرة من حكومة المعارضين السابقين، مؤجلة إلى ولاية ثانية، كان اليوسفي واثقا من الحصول عليها، من أجل مباشرة الإصلاحات الكبرى. لهذا تردد اليوسفي، حسب بعض المقربين منه، في مصارحة الملك الجديد بحقيقة حاجة البلاد إلى ثورة إصلاحية سياسية ومؤسساتية. فاليوسفي كان يتهيب من تهمة السعي إلى استغلال موقعه في قيادة الحكومة لفرض توجهاته على الملك الجديد، ولهذا تريث وهو يدير شؤون الوزارة على عهد الملك الجديد. أما السبب الثاني لتردد اليوسفي في مصارحة الملك بضرورة الإقدام على مشروع كبير للإصلاح السياسي، فكان هو رهان اليوسفي على تمديد ولايته في الحكومة للخمس سنوات أخرى بعد الانتخابات، مفضلا تكريس الولاية الأولى لكسب ثقة الملك التي ستكون هي مفتاح الإصلاحات المقبلة. ويحكي أحد الذين عايشوا لحظات انتهاء ولاية اليوسفي وبداية ولاية جطو سنة 2002، أن الرجلين معا كانا جالسين في قاعة الانتظار بالقصر الملكي في مراكش، في انتظار استقبال الملك للحكومة لوداعها أولا، ولتعيين وزير أول جديد يكلف بتشكيل الحكومة. وبعد مدة قصيرة، تمت المناداة على إدريس جطو أولا، وكان آنذاك وزيرا للداخلية، ما يعني أن هناك حدثا كبيرا يستدعي تجاوز البرتوكول الذي يقضي باستقبال الوزير الأول أولا… في تلك اللحظات، تغيرت ملامح اليوسفي، وفهم بخبرته أن جطو سيُعين وزيرا أول، وكذلك كان. خرج غاضبا وبقي معززا خرج الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي غاضبا من القصر، وحاول دفع حزبه إلى مقاطعة المشاركة في حكومة لم تحترم المنهجية الديمقراطية، ولما عجز عن ذلك، استقال من الحزب ومن السياسة احتجاجا على القصر وعلى الحزب… وما لم يضرب اليوسفي حسابه، هو أنه لم يكن وحده في الساحة، وأن بقايا المخزن القديم وعناصر المخزن الجديد كانت تتحرك لملء الفراغ الذي تركه اليوسفي وملأه غيره بتصور تنفيذي عن الملكية، ومعزز بشعبية الملك وحب الناس له. وبعدما أخطأ اليوسفي عندما لم يصارح الملك الجديد بضرورة تجديد التعاقد، أخطأ اليازغي، ومعه أعضاء المكتب السياسي من بعده، عندما قبلوا مشاركة الحزب في حكومة لم تخرج من رحم المنهجية الديمقراطية. خرج اليوسفي مجروح المشاعر من قيادة تجربة انتقال سياسي لم تكتمل في مغرب محمد السادس، وقضى فترة من الغضب والعزلة في الخارج، لكن العلاقة الشخصية مع الجالس على العرش لم تتغيّر، بل استمرّت وثيقة وقائمة على تقدير متبادل بين الملك والزعيم المعزول بفعل ضغوط التوازنات الداخلية لبيت المخزن. أقرّ الملك سريعا قرارا يقضي بتمتيع وزيره الأول السابق بتقاعد استثنائي، وبقي الاتصال قائما لدرجة أن اليوسفي كشف مؤخرا أنه كان محط استشارة ملكية خلال مرحلة تشكيل حكومة عبدالإله بنكيران. وعندما كان الملك يستقبل الرئيس الفرنسي الصيف الماضي بمدينة طنجة، كان شيخ الاشتراكيين المغاربة أول الجالسين حول مائدة الضيوف الكبار في هذه القمة.