تنشر جريدة «المساء» (طيلة شهر رمضان) بعض أقوى فقرات كتاب «عبد الرحمان اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض» للزميل الصحافي محمد الطائع. يكشف الكتاب تفاصيل جديدة عن تجربة «التناوب التوافقي» في تحضيرها وسياقها وصراعاتها الخفية ومآلها، كما يسلط «الكتاب» الضوء على بعض كواليسها. ولأن تجربة «التناوب التوافقي» التي تعتبر من العناوين الدالة وأحد المداخل البارزة للانتقال الديمقراطي بالمغرب، وارتباط اسمها بقائدها، الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الوزير الأول، الذي قاد التجربة، وبصفته أيضا كاتبا أول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، (أقوى أحزاب المعارضة آنذاك)، فإن ثنايا «الكتاب» اقتحمت كذلك بعض عوالم اليوسفي «الخاصة»، سواء باعتباره وزيرا أول أو باعتباره كاتبا أول لحزب الاتحاد الاشتراكي. التفاصيل الواردة بين دفتي هذا الكتاب مستقاة من شهادات ومعلومات وافادات وخلاصة عشرات الجلسات مع سياسيين وقيادات ومسؤولين عاشوا تجربة التناوب كما عايشوا اليوسفي عن قرب. بينما كانت الحكومة تستعد لعقد اجتماع وزاري تحت رئاسة الملك محمد السادس بمدينة مراكش، تلقى اليوسفي اتصالا من الملك بغاية مقابلته، وبينما كان اليوسفي ينتظر الدخول على الملك، وجد في قاعة الانتظار ادريس جطو وإلى جانبه المستشار الملكي الراحل محمد مزيان بالفقيه. استقبل محمد السادس عبد الرحمان اليوسفي أولا، ثم أخبره أنه سيعين ادريس جطو وزيرا أول مكانه. لم يخف اليوسفي اندهاشه، ودافع عن مبدأ أن العودة لتعيين التقنوقراط مضر بالمنهجية الديمقراطية وبالأشواط التي قطعها المغرب في مسار الانتقال الديمقراطي واستكمال بناء المؤسسات الديمقراطية، كما أن هذا التعيين ستكون له نتائج عكسية وسلبية على الرأي العام وعلى مستقبل السياسة والمؤسسات في البلاد. إثر الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2002، التي تصدرها حزب الاتحاد الاشتراكي، وبعد صدور بلاغ الديوان الملكي يوم 9 أكتوبر، الذي أعلن فيه عن تعيين ادريس جطو وزيرا اولا مكلفا بتشكيل الحكومة، أدرك اليوسفي أن التناوب الديمقراطي «تعطل» إلى أجل غير مسمى. لم يستسغ تعيين وزير أول تقنوقراطي والعودة إلى المربع الأول، خصوصا بعد تدشين مسلسل الانتقال الديمقراطي بتعيين الوزير الأول من الحزب الفائز بنتائج الانتخابات. كان قرار تعيين ادريس جطو، وزير الداخلية في حكومة اليوسفي، صادما للطبقة السياسية وللاتحاديين بشكل خاص. بدهاء كبير ومناورات متعددة، لعب عباس الفاسي نكاية في «السي عبد الرحمان»، دورا سلبيا في عرقلة تسمية الوزير الأول من حزب الاتحاد الاشتراكي. انطلقت سلسلة المشاورات داخل حزب عبد الرحمان اليوسفي، وكان اليوسفي مقتنعا بأن رد الحزب لن يكون أقل من عودته إلى صفوف المعارضة، «احتجاجا» على العودة إلى نهج تعيين التقنوقراط والقفز على تراكمات حكومة التناوب. سعى اليوسفي بحنكة كبيرة الى اتخاذ الحزب (القيادة تحديدا) موقفا واضحا من «الخروج عن المنهجية الديمقراطية»، وكان لا يخفي على الجميع رفضه المشاركة في حكومة ادريس جطو. فهم اليوسفي أن سلطته داخل الحزب ليست فاعلة، كما فهم أن قوة الحزب انكمشت كثيرا بعدما فقدت أذرعها القوية، وبات الحزب عاجزا عن إحداث رجة كبيرة، خصوصا أن «لعنة» الاستوزار والتهافت نحو الكراسي الوزارية أفقدت رفاق اليوسفي البصيرة والبوصلة. عاش «سي عبد الرحمان» مأزقا حقيقيا بين قرار المشاركة في حكومة «مطعون فيها» وبين قرار عدم المشاركة الذي لا تتحمس له إلاّ قلة قليلة جدا داخل الحزب. وعبر عملية جس النبض، خلص «سي عبد الرحمان» إلى أن مجرد التفكير في عدم المشاركة في حكومة جطو خط أحمر لا يجب الاقتراب منه. يأس اليوسفي سيتعمق أكثر حين علم أن مجموعة من أعضاء المكتب السياسي وغيرهم من الأطر الاتحادية فتحوا قنوات اتصالات سرية وعلنية بعيدا عن الكاتب الأول للحزب وأجهزة الحزب، بغاية الاستوزار أو الاستمرار في المنصب الوزاري. تكثفت خطوط الاتصالات هنا وهناك، وامتدت حتى مع الوزير الأول الجديد ادريس جطو، وبشكل مباشر، أملا في منصب حكومي. كانت شهية جزء كبير من النخبة الحزبية مفتوحة عن آخرها. فمن جهته، عارض محمد اليازغي بقوة أي قرار يروم عدم المشاركة والعودة للمعارضة وهو يعلم يقينا أنه قرار وموقف مسنود من غالبية قيادات الحزب، فيما عاد الحبيب المالكي، الذي أبعده اليوسفي في التعديل الحكومي لحكومة التناوب نظرا للمتاعب الكبيرة التي خلقها له، إلى كرسي الوزارة (وزارة التعليم) ضمن فريق ادريس جطو، إلى جانب كل من محمد الأشعري وفتح الله ولعلو ومحمد اليازغي وخالد عليوة، بينما رقيّ محمد بوزوبع، من وزير مكلف بالعلاقات مع البرلمان إلى وزير للعدل (وزارة سيادية). خاب أمل «سي عبد الرحمان» في قيادة حزبية كان يعتقد أنها ستلتف حوله وتنتصر لموقفه في عدم المشاركة في حكومة ادريس جطو، مما دفع اليوسفي ختاما إلى الاقتناع بأطروحة محيطه، الذي كان يرفع شعار «ضرورة استكمال الأوراش التي دشنتها حكومة التناوب». عرف الحزب نقاشات صاخبة أفضت إلى إصدار البيان الشهير حول «الخروج عن المنهجية الديمقراطية» ليوم 28 نونبر 2003، وهو البيان الذي أريد منه فقط تسجيل موقف ليس إلا، مع المشاركة في حكومة ادريس جطو، لتكون بذلك بداية العد العكسي للانهيارات والتراجعات المهولة، سواء داخل الحزب أو في المشهد السياسي بشكل عام. التقى ادريس جطو عبد الرحمان اليوسفي، وعبر الأول للثاني عن ضرورة وأهمية استمرار مشاركة حزب الاتحاد الاشتراكي في الحكومة التي يقودها. قبل اليوسفي على مضض مستسلما للأمر الواقع وتنفيذا لإرادات القيادة الحزبية. وكان الاتفاق يقضي بإبقاء كافة الوزراء الاتحاديين في مناصبهم، باستثناء محمد الكحص (كاتب الدولة في الشباب) الذي اقترحه ادريس جطو على اليوسفي ضمن الفريق الحكومي الاتحادي، ولم يكن اسمه مدرجا في اللائحة التي قدمها الحزب، ومن جهته، لم يعترض اليوسفي على اسم محمد الكحص، أما الشق الثاني من الاتفاق، فكان أساسه هو احترام ادريس جطو لصدارة الاتحاد في الانتخابات التشريعية اثناء تشكيل مكاتب ورئاسات الجماعات المحلية، وهو طبعا الاتفاق الذي لم يتم احترامه لاحقا. الواقع أن تعيين ادريس جطو لا يعني في جوهره إلا التراجع الصريح عن أسس التوافق التاريخي بين الحسن الثاني وحزب الاتحاد الاشتراكي في شخص زعيمه عبد الرحمان اليوسفي. لقاء اليوسفي مع الملك كان فرصة أيضا يوضح فيها اليوسفي للملك أنه زاهد في منصب الوزير الأول إذا كان وجوده (اليوسفي) يسبب بعض الإحراج بفعل ثقل شخصيته وضلال شرعيته. ولمح اليوسفي للملك أن يسمي وزيرا أولا غيره، على أساس أن يكون من الاتحاد الاشتراكي، احتراما لنتائج الانتخابات التشريعية، على الرغم من أن النص الحرفي لدستور 1996 يحرر الملك من تعيين الوزير الأول من الحزب الأول، وهذه واحدة من ثغرات تجربة التناوب. أنهى اليوسفي اجتماع مجلس الوزراء بالقصر الملكي بمراكش، وهو آخر اجتماع لحكومة التناوب التوافقي. تكتم اليوسفي على ما قاله له الملك ولم يخبر أحدا من أعضاء الحكومة أو رفاقه في الحزب بقرار الملك. التحق الفريق الحكومي بالطائرة المتوجهة من مطار مراكش المنارة إلى مطار الرباطسلا، وظل اليوسفي يحتفظ «بسره» يدبر الوقت بشكل عادي وهادئ، ولم يعط لفريقه الحكومي أي انطباع بأن حكومة التناوب «انتهت» ولم يخبر أحدا بما أخبره به الملك، وترك لفريقه الحكومي أن يعرف الخبر عبر وكالة المغرب العربي للأنباء والإذاعة والتلفزة. في مساء ذلك اليوم، كان اليوسفي على موعد فني وأدبي لحضور افتتاح مهرجان «بيت الشعر». تمسك اليوسفي بحضور النشاط، وبينما كان اليوسفي يستمتع بالفقرات الفنية للمهرجان، اشتعلت الحرارة في خطوط الهاتف بعد إذاعة بلاغ الديوان الملكي القاضي بتعيين ادريس جطو مكان «سي عبد الرحمان». هي إذن نهاية مرحلة وبداية أخرى. رغم صدور بيان المنهجية الديمقراطية، الذي اشترك في تحريره كل من خالد عليوة ومحمد الأشعري والنقاشات الصاخبة المتزامنة معه، لكنها سرعان ما ذابت وخفتت، فكان قرار المشاركة بحجة «استكمال الأوراش». بعملية حسابية بسيطة، كان اليوسفي مقتنعا أنه لا يستطيع مقاومة المد الجارف لطموحات النخبة الحزبية، التي لن تتردد في الانقلاب والتمرد عليه أو حتى شق الحزب مرة أخرى في حالة تمسكه بقرار عدم المشاركة. كما أن اليوسفي لم يكن مسيطرا سيطرة تامة على هياكل الحزب. فمنطق الحلقية الضيقة والزبونية المنتعشة بالريع الحزبي والوشاية الهدامة (وهو المنطق الذي ينبذه اليوسفي ويرفض بشدة الاشتغال به)، مكن غريمه محمد اليازغي من أن يبسط سيطرته على معظم التنظيمات الحزبية وروافدها. أزمة عمّقها بحدة بالغة انسحاب مجموعة نوبير الأموي من الحزب وجزء لا بأس به من شباب الحزب وأطره، وهي الكتلة التي كانت تخلق نوعا من التوازن داخل الحزب. أمام هذا الوضع، وجد اليوسفي نفسه وحيدا وفي مأزق لا يحسد عليه، تعيين الملك محمد السادس لوزير داخلية في حكومة التناوب وغير حزبي، وحزب أنهكته الانشقاقات وتدهورت صورته، وأطر حزبية وقيادية لا تتحدث إلا لغة الاستوزار والمناصب، ناهيك عن الهجوم المنظم حد التجريح وحد السب المباشر لليوسفي وفي وجهه من طرف بعض «قيادات» الحزب . ينضاف الى ما تقدم، تفنن الحليف الأساسي في الكتلة، حزب الاستقلال تحت قيادة أمينه العام الجديد عباس الفاسي، في وضع كافة العراقيل أمام اليوسفي، والذي كان يفضل حكومة بقيادة وزير تقنوقراطي على وزير أول اتحادي. أمام هذا الواقع/المأزق، ترك اليوسفي كل شيء وراءه وصفق الباب في وجه الجميع وعاد إلى بيته وفي نفسه شيء من حتى. وسط هذه الأجواء الموبوءة والفاسدة سياسيا وتنظيميا وأخلاقيا، غادر اليوسفي الحكومة بعد خمس سنوات من قيادتها، محافظا على مصداقيته ونظافته، بينما كان ما تبقى من مصداقية للحزب يتساقط ويتآكل تحت أنظار الجميع.