حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي يعقد مؤتمره الوطني الثامن على مدى ثلاثة أيام ابتداء من أمس الجمعة، ليس حزبا عاديا كسائر الأحزاب، إنه من أعرق الأحزاب المغربية التي برزت منذ استقلال المغرب، حيث خاض معارك كبيرة منذ الاستقلال من داخل المؤسسات ومن خارجها، انتصر في بعضها وسقط في أخرى، وساهم قادته التاريخيون: المهدي بن بركة،عمر بن جلون عبد الرحيم بوعبيد، وعبد الرحمان اليوسفي ومحمد اليازغي، في صنع جزء مهم من تاريخ المغرب. التأسيس والقمع تعود جذور هذا الحزب إلى سنة 1959، حين تم تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي خرج من رحم حزب الاستقلال، بعد احتدام الصراع بين التيارين الاشتراكي والمحافظ، وقد ترأس مؤتمره التأسيسي شيخ الإسلام بن العربي العلوي. ومباشرة بد تشكيله، ساهم الحزب في تشكيل الحكومة التي ترأسها عبد الله إبراهيم عضو الكتابة الوطنية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهي الحكومة التي تولى فيها الراحل عبد الرحيم بوعبيد وزارة الاقتصاد والمالية، لكن هذه التجربة الحكومية لم تعمر أكثر من 9 أشهر، حيث اضطرت إلى الاستقالة بسبب خلافات حول توجهاتها مع الراحل الحسن الثاني ومباشرة بعد تنظيم الانتخابات الجماعية 1962 التي حصل فيها الاتحاد على نتائج إيجابية، بدأت مرحلة القمع السياسي التي تعرض لها الاتحاد، وجاء تنظيم المؤتمر الثاني الذي تميز بطرح المهدي بنبركة وثيقة الاختيار الثوري، والتي رفضها كل من المحجوب بن الصديق وعبد الرحيم بوعبيد، وفي نفس السنة قرر الحزب مقاطعة الاستفتاء على الدستور، ولكنه شارك في أول انتخابات برلمانية في المغرب سنة 1963، وفاز فيها عدد من قيادات الحزب منهم عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بنبركة، لكن مباشرة بعد إعلان الخيار الثوري، ستبدأ حملة الاعتقالات في صفوف قيادات الحزب بدعوى أنهم يخططون لمؤامرة لقلب نظام الحكم، وكان المهدي بنبركة قد وجه نداء من القاهرة أياما قليلة قبل الاعتقالات، يدعو فيه الشعب المغربي إلى انتهاج الخيار الثوري. إثر ذلك بدأ الحزب في التفكك، وتم اعتقال الفقيه البصري وعمر بن جلون (حكم عليهما بالإعدام قبل العفو عنهما)، أما بنبركة فبقي في الخارج (حكم عليه بالإعدام غيابيا)، كما تم الحكم على عبد الرحمان اليوسفي بالإعدام، وتم إغلاق عدد من مكاتب الاتحاد، الذي بقيت له واجهة واحدة للعمل هي الواجهة البرلمانية. وفي سنة 1965، تم اختطاف واغتيال المهدي بنبركة بباريس في ظروف مازالت غامضة إلى اليوم. وابتداء من سنة 1970، بدأ الاتحاد ينسق مواقفه مع حزب الاستقلال، وكانت البداية بدعوة الحزبين إلى التصويت ب«لا» على الدستور وتأسيسهما «الكتلة الوطنية». التناقضات الحزبية داخل الاتحاد بدأت مبكرا وليست وليدة اليوم، منذ سنة 1972، برزت الخلافات على الخصوص بين اتجاهين، الأول ممثلا في اللجنة الإدارية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والثاني الجناح النقابي ممثلا في الاتحاد المغربي للشغل، حيث اتهم المحجوب بن الصديق بأنه يريد خوض نضال خبزي وليس سياسيا، مما دفع اللجنة الإدارية إلى اتخاذ قرار آنذاك يتبنى اختيار العمل السياسي الديمقراطي، وقاد هذه العملية كان كل من محمد اليازغي وعمر بن جلون، اللذين اعتبرا مهندسي القطيعة مع النقابة التي ظلت إلى اليوم مجالا لعدد من التيارات السياسية. وفي سنة 1973، تزايدت الحملات ضد الحزب من خلال محاكمة العديد من مناضليه أمام المحكمة العسكرية بالقنيطرة، حيث وجهت إليهم تهمة المس بالنظام العام، وفي نفس السنة تعرض كل من قياديي الحزب محمد اليازغي وعمر بنجلون لمحاولة اغتيال بعدما توصلا بطردين ملغومين. المؤتمر الاستثنائي يمكن اعتبار سنة 1975، سنة حاسمة في تاريخ الحزب الذي عقد مؤتمره الاستثنائي وغير اسمه إلى «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، حيث اختار الحزب بوضوح «الاختيار الديمقراطي»، من خلال المشاركة في المؤسسات المنتخبة، وتم اختيار عبد الرحيم بوعبيد كاتبا أول للحزب. خلال هذا المؤتمر طرحت إشكالية ازدواجية القيادية بين الداخل والخارج، فقرر المؤتمر القطيعة مع الازدواجية، حيث كان كل من الفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي في المنفى ويتوليان تسيير الحزب. وتميز المؤتمر برسالة صوتية مسجلة على كاسيت بعثها اليوسفي إلى المؤتمرين، قال فيها إنه يضع نفسه رهن إشارة الداخل، في إشارة إلى موافقته على قرار المؤتمر تفادي ثنائية القيادة. وبعد هذا المؤتمر شارك الحزب في انتخابات 1976 و1977، وتم تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وتمت إعادة الشرعية إلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ليبدأ عهد السلم مع السلطة، لكن ذلك لم يكن يخلو من تداعيات داخلية، كان أبرزها اغتيال عمر بنجلون بمدينة الدارالبيضاء نهاية سنة 1975، وقد كان أحد القادة المؤسسين للحزب ولصحافته، وأحد أبرز المناضلين النقابيين الذين ناهضوا البيروقراطية داخل المركزية النقابية الاتحاد المغربي للشغل. كما احتدم الجدل داخل الحزب بخصوص تقييم المشاركة في الانتخابات خلال المؤتمر الثالث الذي انعقد سنة 1978، خاصة مع الاتهامات التي وجهت إلى السلطة بالضلوع في تزوير الانتخابات. في تلك الفترة، ظهر جناح أحمد بن جلون وعبد الرحمان بن عمرو الذي رأى أن قرار المشاركة كان خاطئا، وقد بلور هذا الجناح سنة 1981 وأطلق على نفسه الاتحاد الاشتراكي اللجنة الإدارية، وأصبح يشتغل بشكل شبه مستقل عن الحزب. مرحلة المواجهة وفي يونيو 1981، سيدخل الحزب مرحلة مواجهة جديدة مع السلطة بعد تنفيذ الكونفدرالية الديمقراطية للشغل إضرابا عاما على إثر الزيادات الصاروخية في أثمنة المواد الغذائية الأساسية، وتلت هذا الإضراب حملة قمع شرسة خاصة بمدينة الدارالبيضاء، كما تم اعتقال العديد من مسؤولي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وإغلاق المقرات الحزبية والنقابية، وتوقيف صحافة الحزب (المحرر وليبراسيون). وتزامن هذا التوتر مع التطورات التي عرفتها قضية الصحراء، حيث كان الراحل الحسن الثاني قد أعلن أنه يوافق على تنظيم استفتاء في الصحراء، فرد المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي في شتنبر 1981 بإصدار بلاغ يعبر فيه عن رفضه قبول المغرب تنظيم استفتاء لتقرير المصير بالصحراء المغربية (وهو القرار الذي تبنته قمة منظمة الوحدة الإفريقية بنيروبي)، وقد تم على إثر هذا البلاغ اعتقال أعضاء المكتب السياسي، وعلى رأسهم عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليازغي ومحمد الحبابي. في سنة 1984، عقد الاتحاد الاشتراكي مؤتمره الرابع بمدينة الدارالبيضاء، وتميز بتقديمه وثيقة «أزمة المجتمع والبناء الديمقراطي». وخلال تلك الفترة تم التطبيع نسبيا مع السلطة بسبب تطورات قضية الصحراء، حيث شارك الحزب في الحكومة من خلال عبد الرحيم بوعبيد كوزير دولة، وعبد الواحد الراضي كوزير للتعاون. وتميزت هذه الفترة أيضا بتقديم مذكرة إلى الملك الراحل الحسن الثاني من طرف الحزب، يعترض فيها على برنامج التقويم الهيكلي الذي فرض على المغرب من طرف صندوق النقد الدولي. وفي سنة 1989، عقد المؤتمر الوطني الخامس للاتحاد الاشتراكي الذي طالب في بيان سياسي بمراجعة الدستور. الانفتاح والمشاركة شكلت بداية سنة 1991 بداية الانفتاح في علاقة الحزب بالقصر، رغم إلحاح الاتحاد على ضرورة الإصلاح السياسي والدستوري، وأصدر الحزب، رفقة حزب الاستقلال، بيانا من أجل الديمقراطية للملك الراحل الحسن الثاني، يطالبان من خلاله بإقرار توازن بين المؤسسات. وبعد وفاة عبد الرحيم بوعبيد سنة 1992، تولى عبد الرحمان اليوسفي منصب الكاتب الأول للحزب، ومحمد اليازغي منصب الكاتب الأول بالنيابة، وتأسست الكتلة الديمقراطية سنة 1993 مشكلة من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حزب الاستقلال، حزب التقدم والاشتراكية، منظمة العمل الديمقراطي الشعبي والاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وبدأ الحزب يفاوض الملك الراحل الحسن الثاني في إمكانية «التناوب»، وكانت البداية بتصويت الحزب ب«نعم» على دستور 1996، لأول مرة، مما مهد الطريق أمام تولي عبد الرحمان اليوسفي لمسؤولية الوزير الأول في الحكومة سنة 1998. تشتت تيارات الاتحاد انتقل الحزب من مسار طويل في المعارضة، إلى تجربة أخرى من داخل الحكومة، لكنه أدى ثمنا غاليا على مستوى تنظيمه الداخلي، خاصة مع رفض التيار النقابي وتيار الوفاء للديمقراطية لاختيارات الحزب. وبرزت هذه التناقضات في المؤتمر الوطني السادس للحزب سنة 2001، التي تبين من خلالها أن الحزب تتوزعه تيارات أربعة، أولها تيار عبد الرحمن اليوسفي الوزير الأول آنذاك، وهو أبرز التيارات وأقواها، يعتمد على رمزية اليوسفي التاريخية التي تشكلت من خلال مسيرته النضالية، لكن نقطة ضعفه تكمن في اعتماده على أطر حزبية تكنوقراطية ابتعدت عن العمل التنظيمي لعجزها عن مسايرة إيقاع الصراع المحتدم علي المواقع الحزبية وتراجعها عن موقع المسؤولية. والتيار الثاني يمثله محمد اليازغي نائب الأمين العام في حزب الاتحاد الاشتراكي، وقد ارتبط بالمؤسسات المنتخبة كالبرلمان والمجالس البلدية، والذي يسميه بعض الاتحاديين ب«يمين الحزب». وتتألف القاعدة الاجتماعية لهذا التيار من الكوادر الحزبية الميسورة أو البرجوازية المتوسطة والصغيرة، وهو ممثل بشكل متفاوت في أغلبية القطاعات الحزبية والنقابية، وبدأ يتحكم في التنظيم منذ المؤتمر السادس. والتيار الثالث هو التيار النقابي، ويقوده محمد نوبير الأموي، الزعيم العمالي البارز، وواجهته الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. أما التيار الرابع فيتمثل في «تيار الوفاء للديمقراطية»، الذي أصدر وثيقة قبل المؤتمر السادس، صاغها كل من محمد الساسي، الزعيم السابق للشبيبة الاتحادية، والمحامي خالد السفياني ورجل الاقتصاد نجيب أقصبي. وفيما بقي التياران الأولان داخل الحزب بعد المؤتمر السادس، فإن تيار الوفاء للديمقراطية قاطع المؤتمر، وغادر أعضاؤه الحزب، فيما حضر رفاق نوبير الأموي افتتاح المؤتمر وانسحبوا منه قبل أن يؤسسوا حزبا جديدا. في 2003، جرت الانتخابات البرلمانية التي منحت الاتحاد الاشتراكي المرتبة الأولى، إلا أن الملك محمد السادس قرر تعيين إدريس جطو زيرا أول، وشارك الاتحاديون في الحكومة، وبعد بضعة شهور استقال عبد الرحمان اليوسفي من منصبه ككاتب أول في الحزب في ظروف مازالت غير مفهومة، البعض يقول إنه احتج بشكل غير مباشر على عدم احترام المنهجية الديمقراطية في تعيين الوزير الأول، وآخرون اعتبروا مغادرته سببها الاحتجاج على تيار اليازغي الكاسح. وفي سنة 2005 انعقد المؤتمر الوطني السابع للحزب، وانتخب محمد اليازغي كاتبا أول وعبد الواحد الراضي نائبا له.