في صيف السنة الماضية رحل إلى دار البقاء الصحفي محمد بن يحيى وكان يرأس اللجنة التحضيرية للمؤتمر الثامن للاتحاد وفي أكادير أقيم حفل لتأبين الراحل بمشاركة العديد من الأصدقاء والزملاء المغاربة والأجانب. وقلت في تلك المناسبة بأننا مقبلون على سنة 2009، سنة الذكرى الخمسينية لظهور «الحركة الاتحادية» في المشهد الحزبي الوطني من خلال التحولات السياسية التي عرفتها بلادنا من يناير إلى شتنبر 1959. ومن هنا لا يحق للاتحاديين أن يتركوا ذكرى التأسيس تمر دون استحضار الأيام المجيدة لعام 1959 وما كان لها من تأثيرات على ما عرفه المغرب طوال نصف قرن من الحياة السياسية. آنذاك كان الانشغال الأساسي هو أن يعقد الاتحاد الاشتراكي الشوط الثاني للمؤتمر لكي يتفرغ الاتحاديون أكثر للمهام السياسية والتنظيمية الكفيلة بجعل الحزب يواصل حضوره السياسي ولهذا كان كثيرون لا يعتبرون أن الاهتمام بالذكرى الخمسينية للتأسيس من الأولويات النضالية، بل يجب التركيز على الجهود الهادفة إلى إعادة الحياة إلى الحزب. وفي النهاية أخذت الفكرة طريقها علما بأن للاهتمام بالتراث الاتحادي ارتباط أكيد بالوقوف على الأسباب التي تولدت عنها الأزمة. بعد ذلك بدأت حملة جمع الوثائق والمستندات والصور والتسجيلات الصوتية ومخطوطات بيد شهداء الحزب والقادة المؤسسين الأموات منهم والأحياء. ورغم كثرة ما توفر لأعضاء اللجنة المكلفة بإحياء الذكرى من وثائق وصور ومستندات فالكل متفق على أن الجزء الأكبر من تراث الاتحاد على هذا المستوى، يجب البحث عنه لدى الإدارة العامة للأمن الوطني لأن رجال الشرطة، عندما كانوا يقومون بغارات على منازل المناضلين ومكاتبهم، يأخذون معهم ما يعتبرونه أدلة قاطعة لإثبات التهم الموجهة إلى المناضلين. وسواء كنا أعضاء في الاتحاد أو مجرد متعاطفين مع القوات الشعبية أو خصوما لسياسة التغيير، فلكي نكون في الصورة الحقيقية لهذه المراحل، لابد أن ترفع الإدارة العامة للأمن الوطني يدها على المحجوزات والوثائق السياسية. وفي انتظار أن نصل إلى هذه المرحلة لطي صفحات الماضي المؤلم لسنوات الرصاص، اقتنع الإخوان، بأن ما يتوفر لهم من وثائق، مادة خام لاستحضار الرصيد النضالي والعودة إلى ما عرفه المغرب منذ نصف قرن. إن كثيرون كانوا في البداية لا ينظرون بعين الرضى إلى ظهور حزب يساري في المشهد السياسي الوطني ومن هنا تزامنت فترة التأسيس مع مرحلة قمع وحشي لأن «الاتحاد كان يشكل خطرا على البلاد» كما سيقول المستشار الملكي أحمد رضى اكديرة في منتصف التمانينيات. وفي منتصف 1963 عندما كانت «دار المقري» تستقبل أفواج المعتقلين، قال القبطان أحمد الدليمي وهو يقوم باستنطاق أحد المتهمين: «هكذا سنستريح من هذا الحزب لمدة عشرات السنين». تضاربت التعاليق وتعددت الأقوال بخصوص ما إذا كان يحق للاتحاديين الاحتفال بالذكرى الخمسينية لتأسيس حزبهم حتى أن هناك من قال بأن «قلة الشغل» من أسباب التركيز على هذا الاهتمام بهذه الذكرى. لا حاجة إلى القول بأن مثل هذا الكلام يمكن أن يكون ناتجا عن حسن نية، ولكن لا يمكن تجاهل شعور أناس اعتادوا -لحسابهم الخاص أو لحساب بعض الجهات- أن يتشفوا في الحركة الاتحادية. هؤلاء بالذات لايرتاحون من كون الاتحاديين والاتحاديات، يحاولون في بعض المناسبات استجماع قواهم وأن يستلهموا من ذكريات ماض مجيد، ما يمكن أن يؤهلهم سياسيا وتنظيميا لمهام المستقبل. والماضي المجيد هو معارك نضالية تخللتها انتكاسات وانتفاضات ولا أحد يستطيع أن ينكر اليوم الضربات التي ظل الاتحاد يتلقاها تارة من الأجهزة القمعية وتارة من داخل تنظيمات اتحادية، جراء تصرفات غير مسؤولة لمناضلين لا علم لهم بحقائق موازين القوى السياسية أو لأن بعض المكونات التي ساهمت في تأسيس الاتحاد عام 1959، حددت لنفسها استراتيجية ظهر فيما بعد أن لا علاقة لها بالأهداف الأساسية لخروج الاتحاد إلى المشهد السياسي الوطني. وعرفت القوات الشعبية طوال نصف قرن مراحل كان فيها الحضور السياسي للحزب يتراجع بشكل مهول ولكن عندما يواجه الاتحاديون الحقائق السياسية يعرفون كيف يتخذون المبادرات لإخراج الحزب من حالة الإقصاء والتهميش وهناك محطات سياسية يطويها النسيان أحيانا، بل هناك من لا علم لهم بها وهكذا سنجد أجيالا متوالية من مغاربة ولدوا في عهد الاستقلال يجب علينا اليوم أن نضعهم في صورة ما حدث ببلادنا طوال نصف قرن. هل يمكن على هذا المستوى الاكتفاء بالروايات الرسمية أي الإعلام السمعي البصري المهتم فقط بغسل دماغ المغاربة؟ في لقاء مع الصحافة عقدته، اللجنة المكلفة بإحياء ذكرى تأسيس الاتحاد بمقر الحزب بالرباط، سألني مبعوث القناة الأولى: «هل موضوع التأسيس أهم الآن من الانشغالات الأخرى للاتحاديين؟». ولا شك أن الجواب على هذا السؤال لم يرض المكلفين بقسم الأخبار في زنقة لبريهي مما جعلهم يضعون السؤال والجواب في سلة المهملات، لأنني قلت بأن التلفزيون المغربي الذي تأسس في مارس 1962 ظل يتجاهل القوات الشعبية وقادة الاتحاد في المشهد السياسي وبأن «التحرير» الجريدة اليومية للقوات الشعبية تم توقيفها حتى لا تخبر المغاربة بتفاصيل حملة القمع التي أشرف عليها أوفقير في صيف 1963 وكذلك الشأن بالنسبة لجريدة «المحرر» التي تم منعها بعد اختطاف المهدي بن بركة واغتياله في أكتوبر 1965 حتى لا يتعرف المغاربة على وجهة نظر الاتحاديين حول ظروف وملابسات تلك الجريمة. وهذا ما حدث في يونيو 1981 مرة أخرى مع المحرر وليبراسيون إثر الأحداث الدامية للدار البيضاء. كان الاتحاد في مواجهة مستمرة مع الاختناق الإعلامي ولهذا من الواجب إحياء ذكرى التأسيس لجعل الرأي العام الوطني في صورة الإكراهات التي واجههاالاتحاد منذ سنة 1959. الأحزاب عندنا عديدة ومتعددة وهذه ظاهرة غير صحية في الحياة السياسية والسبب أن الحاكمين أرادوا لنا تعددية حزبية مفتعلة حيث يقوم وزير للداخلية أو وزير أول بتأسيس حزب ويليه أفراد وجماعات للقيام بنفس المبادرة ولهذا يتراوح تعداد الأحزاب في المغرب ما بين الثلاثين والأربعين. من حق أي كان أن يؤسس حزبا يدافع، من خلاله، على أفكاره وتصوراته لمعالجة المشاكل، ولكن الذي ليس معقولا هو أن تراهن الإدارة على مجموعة من الناس وتختارهم ليصبحوا القوة السياسية الأساسية للواجهة السياسية. وهذا ماحدث مع «الفديك» سنة 1963 أو «الأحرار» في 1977 ثم «الاتحاد الدستوري» في 1984 والآن جاء دور «البام » حزب التراكتور. وإلى جانب هذه «الأحزاب» هناك أخرى خرجت إلى الواجهة فقط لأن بعض الأشخاص يريدون أن يكون لهم حزب تحت تصرفهم كما لو تعلق الأمر بالحصول على سيارة خاصة أو أي شيء خاص والنتيجة تجعل الحياة السياسية غير محصنة لأن من هب ودب يمكنه أن يفعل في الحياة السياسية لهذا البلد ما يحلو له. لو أن كل الأحزاب الثلاثين أو الأربعين كان عليها أن تنظم معرضا للذاكرة التاريخية، إلى أي حد يمكن أن نتعرف على أسرار وخبايا «الكوكوت مينوت» في الطبخات السياسية وتقنيات تزوير الانتخابات والمهام الحقيقية لما يسمونه في كل ولاية وعمالة مصلحة «الشؤون العامة» وظروف صرف أموال الصناديق السوداء على عمليات إفساد الحياة السياسية؟ يمكن القول بأن المنتمين في المغرب إلى الأحزاب نوعان : -من لهم أحزاب بماضيها المجيد وانشغال أكيد بمستقبل الوطن. - ومن لهم أحزاب يصعب إخراجها من طور الحضانة السياسية. ولهذا كان من حق الاتحاديين أن يتميزوا بالاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس اتحادهم وأن يقيموا معرضا خاصا بالوثائق والمستندات والصور التي تمكنوا من جمعها لهذه المناسبة. يتضمن المعرض خمسين لوحة لخمسين سنة من الوجود السياسي لحزب كان عليه في كل مرحلة قمعية أن يصمد ليخرج بخسارة أقل من كل معركة. ولابد من التذكير هنا بأن هيئة الإنصاف والمصالحة عندما بدأت تعالج قضايا الانتهاكات التي عرفها المغرب طوال سنوات الرصاص، توصلت بآلاف الملفات قدمها مواطنون ومواطنات 80 ٪ منهم تعرضوا للتعذيب والاعتقال والتوقيف لأنهم أعضاء في حزب القوات الشعبية أو تعاطفوا مع الاتحاديين في معركة من معاركه داخل المدارات الحضرية أو في العالم القروي والمناطق الجبلية. بطبيعة الحال، فأي حزب لا علاقة له بما عرفته بلادنا في سنوات الرصاص ومعاناة المناضلين طوال سنوات الرصاص، سوف لا يهتم بالتاريخ، تاريخ النضال ضد القمع. أما الاتحاديون فمن حقهم اليوم بل من واجبهم أن يتحدثوا عن ماضيهم لأن هذا الماضي جزء من هوية الحاضر والمستقبل. كان من الممكن أن لا تأخذ فكرة إحياء الذكرى الخمسين لتأسيس الاتحاد طريقها إلى إقامة تظاهرات وتنظيم معرض للصور والوثائق في بهو مسرح محمد الخامس. في هذه الحالة سنسمع من يقول بأن الاتحاديين لا يعتزون بماضيهم ولا يهتمون بثراتهم النضالي ورصيدهم المعنوي. وفي جميع الأحوال سنجد دائما من ينظر إلى «الشأن الحزبي» في المغرب إلا من خلال الصورة التي يعملون، في الإعلام الرسمي، على إلصاقها بالأحزاب الوطنية على اعتبار محدودية واجباتها في تأطير المجتمع وعلى أساس أن كل الأحزاب في المغرب لا يختلف بعضها عن بعض. وهكذا يتم تجاهل كون الدولة يوجد في بعض مواقعها من يخافون من رؤية الشعب وقد عرف كيف ينظم صفوفه في هيئات وطنية مستقلة عن الإدارة في التفكير والاجتهاد وحق المبادرة السياسية. ولذلك تغرق إدارة الدولة، الساحة السياسية بأحزاب غير مستقلة عن الأجهزة التي تتحكم في القرارات السياسية والتوجهات الاقتصادية وحركة المجتمع. ولإثبات «وجود» هذه الأحزاب اعتادت الإدارة على تقنيات تزوير الانتخابات وطبخ المؤسسات النيابية. ولهذا قبل محاكمة الأحزاب الوطنية ومؤاخذتها على التدهور الذي آلت إليه الحياة السياسية، فالواجب هو أن نحاكم كذلك من ظلوا يتوالوا على سلطة القرار للقيام بمهمة خاصة: تضييق الهامش الديمقراطي مما يؤدي إلى تراجع القيم الديمقراطية لفائدة القيم المالية المتوفرة بكثرة لدى من يعملون على إفساد العمليات الانتخابية والمؤسسات النيابية. في معرض الصور والوثائق الخاص بالذكرى الخمسينية، تظهر عدة محطات نضالية كثيرا ما يتوقف عندها الاتحاديون ويتساءلون: «ما العمل؟». في المؤتمر الثاني المنعقد بالدار البيضاء في ماي 1962 كان الفقيد العزيز عبد الرحيم بوعبيد هو أول من طرح سؤال: «ما العمل؟» بعد خطاب قدم فيه تحليلا دقيقا للحالة بالمغرب. ولو عاد السي عبد الرحيم اليوم إلى الحياة لطرح مرة أخرى نفس التساؤل. وفي المعرض وثيقة بخط يد المهدي بن بركة بخصوص الاحتياطات التي يجب اتخاذها للحد من تلاعبات الإدارة في العمليات الانتخابية، ولو كان الشهيد مازال على قيد الحياة لقال للمغاربة الآن بعد خمسين سنة، نفس الكلام عن وجوب أخذ الحذر من إدارة الدولة. وهذا يعني أن المهام التي كانت مطروحة على المناضلين في البداية، أي سنة تأسيس الاتحاد، مازالت قائمة وهذا سبب كاف ليواصل جيل اليوم المعركة التي بدأ يخوضها منذ عام 1959 جيل المناضلين الذين أسسوا حزب القوات الشعبية.