بعد ثلاث عشرة سنة من مغادرته الحكومة واعتزاله السياسة، قرر عبدالرحمن اليوسفي، الوزير الأول المغربي الأسبق، الخروج عن صمته، والإدلاء بأول حديث صحافي، خص به "العربي الجديد"، ونشر السبت، 11 أبريل/نيسان الجاري، وأجراه الزميل بشير البكر. وكعادته في الحديث، جاء كلام اليوسفي مختصراً ومركزاً وعميقاً، يحتاج إلى من يقرأ ما وراء الكلمات، ويبحث عن خلفيات العبارات. والتزاماً بالعهد الذي قطعه على نفسه، منذ قرر الاستقالة من حزبه واعتزال السياسة وتجنب الخوض في شؤونها، لم يتطرق حديث اليوسفي إلى شؤون السياسة الداخلية المغربية، وهو الذي خبر دهاليزها، واطلع على خباياها، واكتفى بالقول بأنه سيترك تقييم التجربة التي قادها والحكم عليها للتاريخ. ولمن لا يعرف اليوسفي، فهو أول "وزير أول" مغربي من المعارضة اليسارية، اختاره الملك الراحل الحسن الثاني لرئاسة الحكومة في المغرب عام 1998. حدث ذلك في مرحلة فاصلة في تاريخ المغرب الحديث. كان الملك الراحل يعاني من مرض أخفاه عن أقرب المقربين منه، وعندما شعر بدنوّ أجله، قرر الإعداد على نار هادئة للمرحلة الانتقالية ما بعد وفاته، فاتخذ عدة إجراءاتٍ، من شأنها أن تساعد على أن يتم الانتقال في مرونة وبسلاسة. كانت البداية بإعلان عفو عام عن آخر المعتقلين السياسيين في عهده، وطرح دستور جديد، حظي، لأول مرة، بموافقة المعارضة اليسارية السابقة، وفتحِ بابٍ صغيرٍ لإشراك الإسلاميين في اللعبة السياسية، وتهييء أجواء انفتاح اقتصادي، يعتمد النمط الليبرالي، وتوسيعٍ نسبي لهامش حرية الرأي والتعبير. ولتتويج كل هذه الإجراءات، نجح الملك الراحل في إقناع أكبر معارض لحكمه، حمل السلاح ضده، وصدرت في حقه عدة أحكام بالإعدام غيابياً، بتولي منصب الوزير الأول، فيما سمي بتجربة "التناوب التوافقي"، أي التناوب على السلطة المبني على توافقات سياسية، في انتظار إنضاج ظروف تناوب ديمقراطي حقيقي، تفرزه صناديق الاقتراع. يتذكر اليوسفي، آنذاك، أن الملك الراحل عندما دعاه إلى القصر للتفاوض معه، أحضر جميع أفراد أسرته أمامه، بمن فيهم ولي عهده آنذاك، الملك الحالي محمد السادس، وقدم لهم اليوسفي بقوله: "هذا هو مهرب السلاح الذي كان يريد أن ينقلب على حكم والدكم". لم يخرج أي شيء عن ذلك اللقاء، وسيصرح اليوسفي بعد ذلك، أمام البرلمان، عندما أصبح وزيرا أول بأنه أقسم على القرآن، وهو اليساري العلماني، أمام الحسن الثاني بأن يحفظ السر، وما زال على عهده. لكن، الأكيد هو أنه بعد وفاة الملك الحسن الثاني لن تسير الأشياء كما خطط لها الرجلان، وتعهدا على حفظ سرهما إلى الأبد. ففي نهاية عهد حكومته، شهد المغرب انتخابات تشريعية عام 2002 احتل فيها حزب اليوسفي، "الاتحاد الاشتراكي"، المرتبة الأولى بين الأحزاب المغربية المشاركة فيها، وهو ما كان يخوله، حسب نص الدستور، بأن يكون الوزير الأول من الحزب نفسه، لكن إرادة الملك محمد السادس ذهبت إلى تعيين وزير أول تكنوقراطي، وهو ما أغضب اليوسفي وحزبه الذي أصدر بيانا ينتقد فيه القرار الملكي، بما أنه لم يحترم "المنهجية الديمقراطية" التي ينص عليها الدستور. وكعادته ساعة غضبه، قرر اليوسفي الاستقالة من حزبه واعتزال السياسة والتزام الصمت الذي جعله يتبوأ منصب "أبو الهول المغربي". ومنذ ذلك التاريخ، حتى الحوار الصحافي الذي خص به "العربي الجديد"، وقال إنه سيكون الأخير، يبدو أن الرجل مصمم على أن يحتفظ بأسراره. ولكن، طوال هذه الفترة الطويلة من الصمت، ترك لنا اليوسفي ما أصبح يعرف في أدبيات السياسة المغربية ب"خطاب بروكسيل"، وهو خطاب مكاشفة، حمل نقدا ذاتيا وتقييما لتجربة أول حكومة تناوب في المنطقة العربية. فبعد سنة على خروجه من الحكومة، تلقى اليوسفي عام 2003، دعوة من الحكومة ومجلس الشيوخ البلجيكيين، للحديث عن "التجربة الديمقراطية في المغرب". وبوضوح، قال اليوسفي إن تجربة "التناوب التوافقي" التي قادها لم تؤد إلى "التناوب الديمقراطي" الذي كان مرجواً منها. وفي لحظة مكاشفة صريحة، وأمام انتقاد ذاتي واضح، قال اليوسفي آنذاك: "وجدنا أنفسنا أمام خيارين لا ثالث لهما: الأول تمليه المصلحة الوطنية. والثاني يميل إلى الاعتبارات السياسية والحزبية، فكان علينا، إذن، أن نختار بين المشاركة في الحكومة، في الوقت الذي كنا نعرف فيه أن الحالة الصحية لعاهلنا مثيرة للقلق، وأن المغرب من جراء ذلك سيواجه موعدا عصيباً، أو ننتظر تولي عاهلنا الجديد العرش، من أجل التفاوض معه حول إجراءات وطرائق مشاركتنا، فاخترنا تحمل مسؤوليتنا الوطنية، وفضلنا مصلحة البلاد، من أجل المشاركة في انتقال هادئ". فاليوسفي، كما توضح شهادته هذه، تصرف كرجل دولة، وليس كزعيم لأكبر حزب معارض آنذاك، وكان يعرف أن قراره سيؤثر على موقع حزبه الذي دخل مرحلة موت تدريجي، منذ تلك اللحظة حتى ساعة احتضاره حاليا. لكن صدمة اليوسفي كانت مزدوجة، لم تأته الضربات من السلطة فقط التي لم تحترم اتفاقها معه، وإنما أيضا من الرفاق الذين لم يستوعبوا بعد نظره، فما كان منه إلا أن التزم الصمت، في انتظار حكم التاريخ. وحتى قبل ذلك، حاز الرجل الاحترام والتقدير من خصومه، قبل أصدقائه، وهذا استثناء نادر في عالم السياسة، لا يناله إلا الأتقياء الأنقياء الأخفياء، واليوسفي يسير على خطاهم.