هوعبد الرحمان اليوسفي. نعود إليه اليوم لنرسم وجهه الآخر، في إحدى أركاننا التابثة على "فبراير.كوم"، لأنه عاد هذا الأسبوع إلى واجهة الأحداث. عاد عبرغيابه وسفره المفاجئ إلى "كان" الفرنسية طلبا لفحوصات روتينية كما أكد للذين اتصلوا به هذا الأسبوع (اليوسفي: أنا بخير مجرد إنهاك وراء انتقالي إلى كان)، ويعود عبر حضوره اللامباشر في الذكرى ال20 لرحيل رفيق دربه عبد الرحيم بوعبيد، وهو يتلو وصيته الأخيرة للحزب في الشريط الذي تابعه الجميع.
ثلاثة أيام استثنائية دخلت تاريخ المملكة، والكلام هنا للملك الراحل الحسن الثاني، أول هذه الأيام صادف المصادقة على برلمان الغرفتين، وثانيهما، يضيف الملك الذي كان محاطا بالعشرات من الوزراء بالبلاط الملكي، وهو المصادقة على الوثيقة الدستورية الأخيرة لسنة 1996، وثالثهما يختم الحسن الثاني وهو يستقبل أكبر معارض له، وهو تنصيب هذه الحكومة. كان الحدث كبيرا، وكان الجميع من قيادات الأحزاب السياسية وسفراء دول العالم، والوجوه المحسوبة على البلاط، التي نظرت دائما للرجل نظرة الشك والريبة، يتابعون خطواته دقيقة بدقيقة واليوسفي يلج أبواب القصر الملكي بالرباط مصحوبا بالعديد من رفاقه في الاتحاد الاشتراكي. إنهم يتسلمون مفاتيح تسيير الشأن العام في ثاني حكومة يسارية يقودها عبد الرحمان اليوسفي بعد حكومة عبد الله إبراهيم. ما الذي كي يقبل أحد أكبر معارضي العهد القديم، وضع يده في يد الحسن الثني بعدما فرقت بينهما الحياة والسياسة والأفكار والقناعات، حوالي أربيعن سنة؟ الابتسامة العريضة التي كانت تظهر على محيي الملك الراحل، وهو يستقبل وزيره الأول وأفراد حكومته بالقصر الملكي، وكلمات الترحيب التي تلاها أمام أزيد من أربعين وزيرا، وهو يثني على صدقية ووطنية اليوسفي، لم تكن بداية تنزيل فكرة التناوب فقط، وإنما شكلت نهاية مرحلة طويلة من المواجهات التي بلغت مستويات خطيرة. البداية في طنجة لم يكن ابن طنجة الذي رأى النور قبل حوالي 88 سنة، يعتقد أن سفينة الحياة ستقوده إلى معانقة المحن من كل حدب وصوب، ولأن أحلام الشاب عبد الرحمان اليوسفي، لم تكن بسيطة وهو يقرر معانقة سلك المحاماة للدفاع عن قضايا الوطن والمواطنين، حتى قبل أن يغادر جينرالات فرنسا المغرب، فلذلك لم تكن بداية المشوار عادية. هكذا بدأت الفكرة الوطنية تتسرب إلى أحلام الشاب عبد الرحمان. من طنجة التي توجته نقيبا للمحامين، بعد مشوار طويل في ردهات المحاكم واجتماعات الهيئة وملفات المواطنين وقضايا الوطن، الذي لم يكن حينها قد غادره الاستعمار،..، من هناك، وفي هذه اللحظات العصيبة جدا من تاريخ المغرب، سيبدأ عبد الرحمان اليوسفي في رسم مسار أراده أن لا يكون طبيعيا. ابن طنجة لم يعد محاميا، عفوا، لم يعد محاميا فقط، السياسة التي كانت تشتعل نيرانها في زمن جينرالات الجمهورية الفرنسية الاستعمارية حينها، الاعتقال والاختطاف والتعذيب ليست سوى تفاصيل لا تزعزع القناعات ولا المبادئ، بقدرما كانت تدفعه لتنزيل الفكرة الوطنية، حيث ارتمى في أحضان حزب الاستقلال، حتى قبل أن يكمل عقده الثاني. رجالات الوطنية ونساء الكفاح الوطني وشباب المقاومة وجنود جيش التحرير الوطني، المفردات والدلالات والمعاني التي كان عبد الرحمان اليوسفي يروي بها عطشه المفتقد للحرية وللاستقلال، ولذلك لم يكن من قبيل الصدف أن يلتقي بكبار الساسة في مدرسة الوطنية حينها:المهدي بنبركة ومحمد الفقيه البصري وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم والمحجوب بن الصديق ... وآخرين. نحن الآن في بدايات الاستقلال، نحن الآن في زمن مغاير تماما لعهد الاستعمار، ولذلك كان عبد الرحمان ورفاقه ينتظرون أن يجني البلد بعضا من ثماره، بعد أن فارق الآلاف منهم الأهل والأحباب والرفاق والرفيقات ... الآباء والأمهات، لكن الأفراح لا تأتي دائما. الأحزان قد تسبقها، ويتحول الحلم من أجل الحرية إلى مسلسل يمضي إلى دهاليز المعتقلات السرية وإلى تعذيب وجراح بدون معنى ولا نهاية. شبح الانقلابات هكذا ستُعصف بأحلام الشاب عبد الرحمان وأبناء جيله، خصوصا بعدما قرر ورفاقه استكمال مشوار الفكرة الوطنية بمنطقهم لا بمنطق رفاق الزعيم علال الفاسي، أي حينما انفصلوا عن حزب الاستقلال، وشكل إلى جانب المهدي والبصري وبن الصديق وبوعبيد وعبد الله إبراهيم قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بعد فترة انتقالية قطع فيها عبد الرحمان مئات الكيلومترات لهيكلة الرفاق المنفصلين عن حزب الاستقلال في الجامعات المتحدة. كان ذلك حدث سنة 1959، فكانت بداية المآسي، وليس أولها إلا الاعتقال بصفته مسؤولا عن يومية "التحرير" إلى جانب رفيقه الفقيه البصري، بدعوى التحريض على قلب النظام، ثم حلت سنة 1963 وحلت معها عاصفة أوفقير الهوجاء التي اعتقلت العشرات من رفاق اليوسفي، وهو ضمنهم خلال الإجتماع الشهير للجنة الإدارية للاتحاد الرطني للقوات الشعبية، وكانت التهمة هذه المرة هي التآمر على النظام، فصدر في حقه السجن لمدة سنتين مع وقف التنفيذ، قبل أن يتم العفو عنه سنة 1965. البعض يعتقد أن عبد الرحمان اليوسفي كان متآمرا، وأنه في أحسن الأحوال كان على علم بما يخطط له وإن كان غير متفقا.. والبعض الآخر، يعتقد جازما أن عبد الرحمان اليوسفي، لم يكن من المتآمرين ولا من أنصار التآمر، لكن أوفقير الذي انتبه إلى ذلك التقارب الذي بدأ يحدث بين أقطاب الحركة الوطنية والقصر في بدايات عهد الملك الراحل، قرر قطع الطريق. هكذا كانت الخطة الجهنمية تهدف نسف الفكرة الوطنية، ولو تطلب الأمر الضغط على أحد رفاق اليوسفي الذي لم يكن غير مومن الديوري، وفي جحيم دار المقري، وتحت إشراف أوفقير بتوريط الرفاق في محاولة خيالية لقلب النظام. خرج اليوسفي من هذه المحنة كما في غيرها سالما، الابتسامة والحيوية لا تفرقانه، لكن الطريق نحو أحلام الغذ الجميل لم تكن مفروشة بالورود. لقد اختطف رفيق العمر المهدي بن بركة من أعماق العاصمة الفرنسية. يوم واحد بعد ذلك سيشيع خبر اختفاءه النهائي. يوم آخر فالأسبوع الأول ثم الثاني، سيفهم اليوسفي أن بنبركة أصبح في خبر كان، لكن أحلام الفكرة الوطنية التي جمعتهم قبل سنوات قادته على وجه السرعة إلى باريس للإدلاء بشهادته في القضية كطرف مدني، لكنه لم يكن يعتقد أن الرحلة إلى باريس ستدوم وتطول لحوالي 15 سنة، ليس من أجل الاستجمام، لكن من أجل إعادة ترتيب الأوراق، وهو ما جعله يقضي عقدا ونصف في المنفى الاضطراري. كانت مملكة الحسن الثاني ساخنة بين رجالاته وبين الرفاق في الاتحاد الوطني وفي المنظمة الموازية للفقيه البصري، ثم دخل على الخط جنرالات المؤسسة العسكرية، فحدث الانقلاب الأول في الصخيرات وفشل، ثم حدث الانقلاب الثاني في الطائرة وفشل، وقبلهما كان الرفاق في الاتحاد الوطني قد ذاقوا مرارة الاعتقال والتعذيب في محاكمة مراكش الشهيرة في سنة 1969، وعلى الرغم من أن عبد الرحمان كان ما يزال حينها خارج أرض الوطن، فقد صدر في حقه حكم بالإعدام، ولم يتم العفو عنه إلا في غشت سنة 1980، ليعود إلى البلاد بعد أقل من شهرين. كانت الحياة السياسية في البلاد تتحرك، لكنها كانت تسير بمنطق واحد، الملك الراحل الذي قرر رفع حالة الاستثناء، أطلق مسلسل الانتخابات البرلمانية ثم الجماعية، لكنه وضعه بيد رجل الشاوية القوي إدريس البصري الذي تفنن في عمليات التزوير. ..ولم تسمح حينها بأن ترتفع أسهم الاتحاد الاشتراكي في بورصة السياسة، وهي الوضعية التي دامت أزيد من عقدين، خرج فيها المغاربة إلى الشارع: مرة في سنة 1981 حينما دعت مركزية الحزب للإضراب العام، فنزل رجالات الدليمي والبصري ...، وضاع المئات من أبناء الوطن في المجهول، ثم استمر مسلسل شد الحبل بين الملك الراحل والحزب، فقرر الرفاق تقديم ملتمس الرقابة رفقة حزب الاستقلال لإسقاط حكومة الملك في نهاية الثمانينات، وتوالت المواجهات الرمزية والسياسية في البرلمان كما في خارجه، وأصر اليوسفي ورفاقه على ضرورة إجراء مراجعة دستورية وتصفية الأجواء السياسية، وإطلاق المئات من المعتقلين والمختطفين من تازممارت وغيره من المعتقلات، التي لم يعترف بها العهد القديم ... وهو ما قاد في نهاية المطاف إلى تقارب لم يكن سهلا بين الطرفين، لكنه كان تاريخيا. طي الصفحة حينئذ، سيقرر الحسن الثاني طي الصفحة الماضية بالاستجابة إلى جزء من مطالب المعارضة، كان آخرها إجراء تعديل دستوري في سنة 1996، وإن لم يكن عميقا، وهي الرسالة التي فهمها اليوسفي ورفاقه بموافقته، ولأول مرة، على أحد دساتير الحسن الثاني. لقد طوى الاتحاد الاشتراكي صفحة الماضي، وانتهى بدوره لا غالبا ولا مغلوبا، وقرر الملك الراحل تسليم مفاتيح التناوب لعبد الرحمان اليوسفي وليس لشخص آخر، بعدما فكر قبل ثلاث سنوات تسليم نفس المفاتيح لمحمد اليازغي، مع أن نخبة من المتتبعين والمراقبين حينها اعتبروا المفاوضات التي أجراها الملك الراحل مع الكاتب الأول بالنيابة للاتحاد، ليست إلا فترة تسخينية وتحضيرية في انتظار عودة عبد الرحمان اليوسفي من "كان" التي سافر إليها بعد الانتخابات التشريعية لسنة 1997. يقول عبد اللطيف الفيلالي الوزير الأسبق ووزير خارجية الملك الراحل في كتابه المغرب والعالم العربي:"إن الملك الراحل الحسن الثاني لم يفكر بجدية في تشكيل حكومة التناوب، ومشاركة أحزاب المعارضة فيها، إلا بعد الأزمة الصحية التي عانى منها أثناء وجوده عام 1995 في نيويورك لحضور الذكرى الخمسين لتأسيس الاممالمتحدة". عن هذه المرحلة بالذات، كتب الكاتب حسنين هيكل في مفكراته، التي اعتمد فيها على لقاءات خاصة جمعته بالملك الراحل: "وفي ذلك الوقت بدأ الحسن الثاني تجربة سياسية جديدة. وسواء جاءت التجربة بنصيحة من أصدقائه-أو باجتهاد من عنده، فإن "الحسن" أعلن فجأة قبل سنتين أنه سوف يعتمد نظاما جديدا في تنظيم تداول السلطة، وبمقتضى هذا النظام، فإنه سوف يعين زعيم أكبر أحزاب المعارضة رئيسا للوزراء. ووقع تكليف الملك على السيد عبد الرحمان اليوسفي، وهو سياسي محترم ينتمي إلى أسرة تقليدية، لكن توجهاته الثقافية قادته مبكرا إلى صفوف اليسار، وكان طوال نشاطه السياسي (رغم اتهامه سابقا بمحاولة لاغتيال الملك بالتعاون مع المهدي بنبركة) ملتزما في العمل السياسي بقواعد لم يخرج عنها، وقد اكسبته احتراما واسعا. في إحدى ليالي رمضان سنة 1997، استدعى الملك الحسن الثاني عبد اللطيف الفيلالي، وكان آنذاك رئيساً للوزراء، رفقة المستشار الملكي ادريس السلاوي، للحضور بعد الإفطار إلى ملعب الغولف الملكي في الرباط، وأسر لهما أنه يفكر في مسألة التناوب، وسألهما: هل تعرفان عبد الرحمن اليوسفي؟ وهل سيكون صعباً أن يكون اليوسفي وزيراً أول... بعد أقل من سنة، سيستقبل الحسن الثاني الذي كان مرفوقا بولي عهده عبد الرحمان اليوسفي دون أن ينسى أن يقدمه لسيدي محمد حينئذ، في لحظة مرح لم تخل من إشارة دالة، حينما اعتبره أكبر مهرب للسلاح، في إشارة إلى أيام المواجهة المسلحة بين اليوسفي والفقيه البصري ورجالات الحسن الثاني. ووقع ما وقع: انطلق قطار التناوب بطيئا، وقضت حكومة اليوسفي الكثير من الوقت في الحديث عن جيوب المقاومة وفي مطاردة الساحرات، وفي أكثر من مرحلة، كان اليوسفي يختلي بنفسه وينصت لكل الأصوات التي كانت قد حذرته أو شجعته على الدخول في اللعبة السياسية، كما رسمها هيكل)أنظر الإطار أسفله: قد يكون شعر بالإحباط، وقد يكون ثقل بنية المخزن أنهكه عند منتصف الطريق، لاسيما ،وقد جاء تعيين جطو على عهد الملك محمد السادس، الذي وصفه البيان الشهير للحزب بالخروج عن المنهجية الديمقراطية، آخر الضربات التي تلقاها. لكنه حسم في النهاية قراره.فجأة طوى الصفحة واختلى في بيته بأسرته الصغيرة واعتزل السياسة. قضى اليوسفي أزيد من أربعين سنة في السياسة، خمسها فقط في تدبير الشأن العام، قبل أن يقلب الطاولة على الرفاق وعلى الدولة في ليلة باردة قطع فيها مع السياسة ومع الحزب. هذه حكاية رجل ترك بصماته على حكومة التناوب المعطل قطاره، قبل أن تضخ فيه نسمات الربيع العربي بنزين آخر ساعة.